تحلّ هذه الأيّام أربعينيّة الأديب، والإعلامي، والصّحافي اللاّمع والوزير السّفير الصّديق الأستاذ محمّد العربي المسّاري رحمه الله الذي وافاه الأجل المحتوم في الخامس والعشرين من شهر يوليو المنصرم. كانت تربطني به صداقة متينة ترجع إلى أوائل السبعينيّات من القرن الفارط. في المقال الذي نشرته بجريدة "القدس العربي" بتاريخ 21 يونيو 2015 عن الطود الشامخ الآخر المرحوم المهدي المنجرة تحت عنوان: "في الذكرى الأولى لرحيله: المَهْدِي المَنْجْرَة… عندما يغدو المفردُ جمعاً ..!" أذكر الفقيد العزيز محمد العربي المساري الذي فقدناه كذلك في الأيام الاخيرة، وفقدنا معه جزءاً هامّاً وغالياً من ذكرياتنا، ومعايشاتنا، وصولاتنا، وجولاتنا في الصحافة، والأدب، والثقافة، والدبلوماسية، والحياة...كان مسكوناً، ومهووساً، ومَشغولاً، ومُنشغلاً ومفتوناً بالتنقيب في تاريخ الحركة الوطنية، أو ما أصبح يُسمّي بتاريخ المغرب الرّاهن، وفي طليعته حرب الرّيف، وكنت عندما أحكي له بعضَ القصص، والحكايات التي سمعتها عن الوالد (نجل شهيد معركة "أنوال" الماجدة المجاهد الصّنديد "موح بن سّي أحمد الورياغلي، الأجديري، خطّابي" رحمهما الله)، حول هذه الحرب الباسلة، يظلّ يُصغي إليّ باهتمام بالغٍ، وشغفٍ كبيرٍ كطفل غرّير... لقد كتبَ غيرَ قليل من المقالات، والدراسات عن هذا الموضوع الحيوي الذي كان كثيراً ما يستأثر باهتمامه، وإنشغالاته، ولن أذهب بعيداً، فآخر كُتُبِه كان تحت عنوان "محمد بن عبد الكريم الخطابي..من القبيلة إلى الوطن" . هذا الصّديق الأثير كان أوّلَ من عيّنني مراسلاً من إسبانيا لجريدة "العَلم" المغربية عندما كان مديرها في الثمانينيات من القرن الفارط، وأوّل من فتح لي بطاقة خاصّة للتعويضات عن مقالاتي المختلفة التي كانت تُنشر فيها، وكان أوّلَ من دافع عنّى جهاراً أوائل السّبعينيات عند انضمامي لإتحاد كتّاب المغرب، وأوّل من كتب مقدّمة إضافية عن أولى كتبي عن أمريكا اللاّتينية الذي يحمل عنوان "ذاكرة الحلم والوشم" (قراءات في الأدب الأمريكي- اللاّتيني المعاصر) ، وأوّل من اتصل بي عند تعيينه سفيراً في البرازيل لأعمل إلى جانبه كشخص ثانٍ بهذه السفارة، ولكنّني كنتُ حينها قد شددتُ الرّحالَ إلى مدريد من جديد، وأوّل مَنْ هنّأني عند تعييني قنصلاً عامّاً في كلٍّ من جزر الخالدات، وفي العاصمة الإسبانية، ثمّ سفيراً للمغرب في عدّة بلدان بأمريكا اللاّتينية. وكان رحمه الله كثيراً ما يتّصل بي في العديد من المناسبات للمشاركة في مختلف اللقاءات، والندوات الثقافية والأدبية التي كانت تُنظّم داخل المغرب وخارجه، وكنتُ أوّلَ من أهداه كتابَه "إسلاميّات أدباء المهجر" عندما كان سفيراً لبلاده في البرازيل، وكنت أنا حينئذ بالمكسيك،..وهنا يكمن بيت القصيد في هذه العجالة، فقد ظلّ هذا الكتاب الطريف موضوعاً بعناية في رفٍّ من رفوف مكتبتي، وقد حالت مشاغل العمل المتواصلة التي لا تنتهي، ومهام السّفر، والتنقل، والترحال خارج الوطن دون قراءته كاملاً قراءةً موفية، ومتأنّية والاستمتاع به في حينه، وبعد أن انتهى إلى علمي نبأ وفاة صاحب هذا الكتاب، عُدتُ مهرولاً إلى مكتبتي لأبحث عنه من جديد، لألتهمه التهاما بفيضٍ من المحبّة، والمودّة، والحنين، والوفاء، وبإحساسٍ عارم، وممزوجٍ ومُفعمٍ بمشاعر الحسرة، والألم، والحزن على فقدان هذا الصّديق الغالي الذي اختطفته يد المنون على حين غرّة، فكان هذا المقال : المشاعر الدينيّة عند أدباء المَهجر الأمريكي للصّديق الرّاحل محمد العربي المساري بالفعل كتاب شيّق تحت عنوان "إسلاميات أدباء المهجر"، وهو بحث ضافٍ حول ما أسماه ب "المسألة الدينية" عند أدباء المهجر الأمريكي. وبعد قراءتي للكتاب، اكتشفت أنه كان أحرى به - رحمه الله - لو أسماه ب "الشعور الديني"، وهي الكلمة التي ألفيتها تتماشى وتنسجم مع هذا البحث كما سيتضح لنا من خلال هذا العرض. يشير في مستهلّ عرضه إلى أنّ الواعز الذي كان قد دفعه إلى وضع هذا الكتاب هو المحنة التي كان يعيشها اللبنانيون بالخصوص في لبنان، حيث إنهم عاشوا قبلها في تلاؤم ووئام، بل وفي أمان وانسجام "لا فرق بين مسلميهم ومسيحيّيهم إلاّ في الطقوس التي يناجي بها كلٌ منهما ربّه". مستدلاّ بشواهد تاريخية من الماضي، على حدّ قوله "إن المحنة التي عاشتها لبنان آنذاك إنما هي أمر طارئ". وخير دليل في نظره هو التراث الذي يزخر به أدب المهجر في هذا السبيل. ويرى المرحوم المساري أنّ أكثر ما يوضّح هذا الاتجاه هو "التسامح والإخاء وسعة الأفق عند إخواننا مسيحيي المشرق، وما أنشدوه شعراً، وما كتبوه في مجال التغنّي بفضائل الإسلام"، فانكبّ على بحث وتقصّي إسلاميات شعراء المهجر، وكانت نتيجة ذلك جدّ غنيّة، كما يقول هو نفسه عند تقديمه لهذا الكتاب، ولقد صدّر المؤلف كتابه بتقديم ضافٍ حول أوّل مظهر من مظاهر الأدب المهجري التي استرعت اهتمام القارئ أو الباحث، وهو مدى إعجابهم وتغنّيهم بفضائل وأخلاق الرّسول الكريم، فيما أسماه ب "المولديات" (نسبة إلى المولد النبوي الشريف) التي تكوّن باباً رئيسيّاً في مجموع الأدب المهجري. أشعار وخطب وكلمات وقد استدل الباحث في هذا الباب بالعديد من شعراء المهجر بعضهم معروف لدى الدارسين، وبعضهم الأخر تعرّض لهم لأوّل مرّة بفضل حسّه الأدبي الرّفيع، وفضوله العلمي، وتقصّيه وتتبّعه بدون هوادة لغير قليل من المراجع والمظان مغتنماً وجوده في البرازيل، وإنكبابه ودراسته لكثير من المصادر والوثائق والخطب والكلمات. ويورد المساري عشرات الأبيات المؤثّرة والبليغة في التغنّي بمولد الرسول الأكرم خاصّة لدى كتاب وشعراء المهجر المسيحيّين بالذات، وأوّل استدلال أورده في هذا الصدّد كلمات للشاعر المهجري الكبير، جبران خليل جبران، يقول فيها: "خذوها يا مسلمين كلمة من مسيحي أسكن يسوع في شطر حشاشته ومحمّداً في الشطر الثاني". ويقول، حسني غراب، وهو من شعراء المهجر في البرازيل في أحد المولديات : شعلة الحقّ لم تزل يا محمّد ...منذ أضرمت نارها تتوقّد جئت والناس في ضلال وغيّ...وسيف الهدى في يديك مُهنّد ويقول الشاعر نصر سمعان: بزغت فحيّت الجوزاءُ مهدك...وأعلنت فوق مجد الشمس مجدك وكلّ فمٍ له الفصحى لسان...يردّد بعد حمد الله حمدك ويشير الفقيد إلى أنّ تغنّي الشعر المهجري بمكارم الرسول ينطلق، في نظره، من فكرة تكريم أبرز اسم في تاريخ العرب تتجلّى فيه معاني العزّة والافتخار بماضي الأمّة العربية. فضلاً عن أن هذه الأشعار "ترمي إلى التبشير بفضيلة التسامح، والتحذير من التفرقة"، كما تهدف إلى "ترسيخ مفاهيم النهضة القومية التي تقوم على قاعدة عاطفية جدّ قويّة". ويشير الباحث إلى أن "الجمهرة الغالبية من المهاجرين كانت وما تزال من المسيحيين، وهؤلاء كما هو مكرس في تاريخ تكوّن المهاجر العربية في الأمريكيتين نزحوا بدافعيْن اثنين هما البحث عن تحسين العيش، والبعد عن الاضطهاد، وخاصة أيام الحكم العثماني". ويورد صاحب الكتاب معلومات طريفة اعتمادا على مذكرات أوّل قنصل عثماني في أمريكا اللاتينية (نشرت عام 1934) وهو أمين أرسلان الذي يشير إلى أن عدد العثمانيين أو الأتراك (وهذا هو الاسم الذي كان يطلق على المهاجرين العرب نظراً لكونهم جاؤوا يحملون جوازات سفر تركية في ذلك الإبّان) وهم أساساً السوريون واللبنانيون والفلسطينيون، كانوا في عهده مائة ألف في الأرجنتين وحدها، وأكثر من ذلك العدد كان موجوداً في البرازيل. ويورد الكتاب معلومات قيّمة حول الهجرة العربية إلى بلدان أمريكا اللاتينية بشكل عام. التميّز الثقافي المهجري وتحت باب التميّز الثقافي المهجري في بيئته الجديدة، يسوق الكاتب بعض الفقرات من الكلمات أو الدراسات التي سجّلها بعض الكتّاب وضمّنوها انطباعاتهم حول العالم الجديد. ومن أطرف ما أورده في هذا السياق فقرة من مقال لأمين الريحاني حول نيويورك منها: "أحشاؤكِ من حديد، وفيها عقمة، صدرك من خشب وفيه سوسة، فمكِ من نحاس وعليه صدأة، جبينكِ من الرّخام وفيه جمود، تشربين ذوب الإبريز، وتأكلين معجون اللّجين، وتنتعلين أجنحة العلم، أمّا قلبكِ فقار يشتعل"!. كما يتحدث المؤلف المشمول برحمة الله عن الفطرة العربية لدى المهاجرين التي كانت أقوى عند الأديب المهاجر. وينقسم هذا الكتاب إلى عشرة أبواب منها: "التميّز الثقافي المهجري في بيئته الجديدة"، "التحرّر الديني"، "التبشير بالتسامح"، "التصدي للطائفية"، "احترام الرابطة القومية"، "الإسلام ومحمد والقرآن عند أدباء المهجر"، "مواكبة حثيثة لمشاغل أدباء المهجر"، "التغنّي ببطولات العرب"، ثمّ خصّص المؤلف باباً قائماً بذاته للنصوص التي تتضمّن اشعاراً وكلمات وخطباً ومقالات. ويصل بنا الباحث بعد ذلك إلى موضوع كتابه الرئيسي وهو "الإسلام ومحمد والقرآن عند أدباء المهجر"، حيث يتناول إسلاميات أدباء المهجر المسيحيين، ويشير المؤلف إلى أنّ "المادّة في هذا الباب جدّ غزيرة، ومبعثها هو نبذ التمييز، والتبشير بالتسامح، ورفض الطائفية والتعلّق بالعروبة (كذا) والتغنّي بها. ويورد الكاتب في هذا الصدد بعض الأبيات التي تشير إلى هذه المعاني، كما أن الصّور الإسلامية ترد بسلاسة في شعر المهجريين المسيحيين، ويورد في هذا القبيل أبياتاً للشّاعر اللبناني الكبير، إيليا أبي ماضي، التي يقول فيها: وطن النجوم أنا هنا ...حدق أتذكر مَنْ أنا أنا ذلك الولد الذي...دنياه كانت ها هنا أنا من مياهك قطرة...فأضت جداول من سنا كم عانت روحي رباك...وصفّقت في المنحنى للّيل فيك مُصلّيّاً... للصّبح فيك مؤئّنا ويشير المؤلف إلى أنّ عرب البرازيل كوّنوا أندية لجمع شملهم كانت تعتني بإقامة حفلات بالمناسبات الوطنية والثقافية، ومع الأيام صار تقليداً ثابتاً في تلك النوادي وهي أساساً للمسيحيين، وهم الجمهرة الغالبية في المهجر، الذين لا يتوانون في تنظيم احتفالات بمناسبة عيد المولد النبوي، ونادر أن تجد شاعراً مهجريّاً لا يشارك في هذه المولديات. ويقوم بعد ذلك الباحث بإجراء تحليل ضافٍ وعميق لمعظم القصائد التي تضمّنها كتابه حول المولد النبوي الشريف، وينتهي إلى القول: "إنّ الأديب المهجري تناول الموضوع الإسلامي باعتباره تراثاً متوارثاً، معبّراً في الوقت نفسه عن احترامه لجانب العقيدة، ومجاملة لإخوانه العرب المسلمين". وقد ضمّن الباحث كتابه منتقيات ومختارات من القصائد حول الشعور الديني لدى هؤلاء الشعراء المهجريين، فضلاً عن نصوص حول الموضوع نفسه تتضمّن مقطوعات نثرية من خطب وكلمات ومقالات ومداخلات. ولا شكّ أنّ القارئ يدرك مدى الجهد المبذول في هذا الكتاب من طرف المؤلف سواء في الدراسة الرّصينة التي تصدّرته، أو في بحثه وتقصّيه للعديد من المراجع، والمصادر، والمظان، والوثائق، والمراسلات، والصحف، والمجلات، والدواوين، والكتب المهجرية بشكلٍ خاص. ولا ريب كذلك أنّ موضوعه هذا سوف يفتح الباب على مصراعيه للباحثين في الأدب المهجري. والواقع أنّ الكاتب الباحث لم يحصر بحثه في إسلاميات شعراء المهجر وحسب كما يبدو من عنوان الكتاب، بل إنه تجاوزه إلى مواضيع أخرى شيّقة وطريفة متعدّدة، لها صلة بالهجرة العربية، والإغتراب إلى الأمريكيتين الشمالية والجنوبيّة. وعليه يعتبر هذا الكتاب إضافة قيّمة للمكتبة العربية، ومرجعاً لا محيد عنه للدارسين والمتتبّعين للأدب المهجري والهجرات العربية (للمسلمين وللمسيحيين على حدٍّ سواء) في القارة الأمريكية بشكل عام، وفي البرازيل بشكل خاص. رحم الله الفقيد الذي كان دبلوماسياً حاذقاً، إلاّ أنّ هذه الدبلوماسية لم تلهه قطّ، ولم تشغله أبداً، ولم تثنه البتّة عن الخوض في غمار الثقافة، والعلم، والأدب، والصحافة، والإعلام، والكتابة، والتأليف، والتأريخ.. وقد أبلى في ذلك كلّه البلاءَ الحس. تغمّد الله الفقيد بواسع رحمته. *عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا - (كولومبيا).