الأنظمة العربية بين الاستقواء بالخارج و"الحب المزيف" لا تُستصعبُ الكتابة أكثر مما يمكن استصعابها اليوم، بسماع أصوات نكرة نشازة، تدعو إلى "مسيرة الحب" ردا على الثورات التي تشهدها العديد من البلدان العربية على الظلم والاستبداد، وتعالت الحناجر المبحوحة من كثرة ترداد شهادة الزور على واقع أزكم الأنوف، لتردد مقطوعة جديدة من أنغام قديمة: "المغرب يعيش "ثورة ياسمين في مجال التنمية"، وأنه "محصن" وبمنأى عن العدوى التي أشعلتها نيران البوعزيزي ولم توقفها الخصوصيات الذاتية لمختلف الأنظمة العربية ولم تقتلها الخصائص الاجتماعية، فظهرت في مصر وانتقلت بوادرها إلى الأردن واليمن والسودان والجزائر... والواقع أن الحب الحقيقي، المتسلح بالوعي بمتطلبات مغرب العدالة، يقتضي تقديم النصح والنطق بالحق، وعدم إظهار حب زائف قائم على إضمار الحقائق وشهادة الزور، تلك الوسيلة التي يتوسل بها المتملقون والمتسلقون والمتنفعون من انتشار الفساد واستمرار واستتباب سياسة اللاحساب واللاعقاب، والتي تطبل ليل نهار للإنجازات التي خلفها العهد الجديد، بيد أن هذه الأصوات نفسها لا تستطيع أن تحصي هذه الانجازات، باعتبار أن الأمل الذي بزغ للكثيرين مع بداية العشرية الماضية سرعان ما انقشع وزال وعادت دار لقمان إلى حالها، بعدما استطاع لوبي محيط بالقصر الملكي أن يوظف أحداث 16 من ماي 2003 لصالحه، ويوسع من صلاحياته في استغلال ثروات البلاد والعباد والانفراد بتدبير الشأن العام. واستعصى، ثانيا، على القلم نفث حبره على براءة الورق، وهو يرى من يحكموننا يهرولون إلى الدول "الكبرى"، كما يهرول الطفل المفزوع إلى أمه، طلبا لاستشارة أمنية، تقي ما بقي من الأنظمة شر الثورات التي أصبح العالم الإفتراضي مصدرها الأبرز، ويُعبر اللجوء إلى قوى أجنبية على ضعف هذه الأنظمة وترهل بنياتها، وانعدام /أو ضعف امتدادها الداخلي، والذي يبقى امتدادا وهميا باعتبار الاستعراضات الشكلية التي تقوم بها هذه الأنظمة بين الفينة والأخرى لإظهار الدعم الشعبي. واستعصى، ثالثا، على عجلة التفكير مسايرة سيرورتها الطبيعية، في ظل مواصلة العديد من الأنظمة العربية وعلى رأسها المغرب، الرهان على المعالجة الأمنية الضيقة لأي اضطرابات قد تشهدها البلاد، ما حدا بهذه الأنظمة إلى الاجتماع بأجهزتها الأمنية لإعداد الخطط الرئيسية والخطط البديلة والاحتياطية، وما جعل أجندة التعامل مع الرفض الشعبي لاستمرار الاستئثار بالسلطة والثروة - من قبل نسبة محدودة من أبناء الوطن الواحد- تتخذ ألوان الرصاص والدم، ما يعني قصور العقل السياسي عن الاعتبار بالعديد من التجارب التي أثبتت أن السيل إذا نفذ من محله لا توقفه الصخور مهما تكلست. فلا أحد يقبل بالعيش تحت ديقمراطية تم "تفصيلها" وتنسيقها على مقاس حفنة من الانتهازيين، تحت قاعدة عريضة مقالها :"أنا أدبر شؤون البلاد وأنتم تشاهدون"، و"عدمي وعدو من ينتقد أو يعارض"، ولا أحد يقبل أن يظل رهين انتكاسات وإخفاقات يصنعها العقل السياسي الفاسد، ولا أحد يقبل البقاء في سفينة إلى جانب متملقين تكاد تغرق من سوء تدبيرهم وشر أفعالهم، بموازاة تكميم أفواه المعترضين، وتدجين الإعلام وإغلاق الجزيرة التي علت أسهمها بين الشعوب، وتكبيل أيادي المنافسين، ونقل الواقع السياسي إلى جملة من المكائد والبرك الفاسدة، وأحزاب ضعيفة فعليا وعدديا، تساهم في المؤامرة الكبرى بالفعل أو بالصمت، ضمنا أو بشكل واضح. لقد انتهت الحياة المخملية لأنظمة وضعت وجودها وكيانها رهينا للدعم الخارجي من جهة ووهم الحب الشعبي المزيف، وتتناسى ذات الأنظمة أن الأول قائم على ما تجنيه الدول "الصديقة" من امتيازات اقتصادية وسياسية سرعان ما تتنكر له كما تنكرت لبن علي ومبارك، بينما يقوم الحب الوهمي على صناعة الاستخبارات التي تخرج الناس من بيوتهم للتلويح بالأيدي وترديد شعارات مألوفة. إن المرحلة الحالية هي بمثابة الفرصة التاريخية التي يجب اقتناصها، وعدم تركها تضيع وتمر كما ضاعت العديد من الفرص في إحداث انتقال ديمقراطي حقيقي في المغرب، يتجاوز لغة الخشب، ويقفز على الترميمات الشكلية التي تقوم بها دوائر القرار السياسي في العديد من القطاعات، من أجل مغرب قوي ومتين ومتماسك يصنعه إصلاح سياسي يؤسس لديمقراطية حقيقية وفصل للسلطات وإصلاح القضاء واستقلاله، وتجاوز الأعطاب التي تعاني منها عجلة التنمية، وتحقيق مغرب الحق والقانون بفعل يتجاوز الشعارات، ومغرب الحرية وكرامة العيش والعدالة الاجتماعية ...، حينها فقط يمكن الحديث عن التحصين، فالضربات الموجعة هي تلك التي تأتي من ترهل الصف الداخلي، ومن الانفجار الذي يخلفه التعنت في مواصلة التغطية على الظلم والاستبداد أيا كانت أشكاله، وكيفما كانت الجهة التي تمارسه، ومهما اختلفت مستوياته... [email protected]