غدرتْ بي حلاوتك الزائدة أيها الماكر اللعين..استغللْتَ هشاشتي وغفلتي عنك، فتسللتَ إلى دمي خفية عني ،تتكدس في الأركان تزحف في صمت ....قالت لي التحليلتان الأخيرتان بلا أدنى خجل أو تردد أو حياء : عندك في الخزان سكر زيادة... سكر زيادة ؟ يا حلاوة..قلق زيادة يا حلاوة..مصاريف زيادة يا حلاوة ...زفت زيادة..زيادة..زيادة...وفين هي الحلاوة..؟ . قال لي الطبيب : كل شيء بأجل.قلت له وأنا على أهبة النهوض من على سرير الفحص : أجل كل شيء بأجل..الآن بدات المعركة ..معركة التعايش..ابتسم قليلا ولم يعلق ثم دعاني إلى مكتبه وزودني بحفنة من الخطط التكتيكية والإستراتيجية وكأني مقبل على معركة القرن منها : 1- الخطة الإجرائية النفسية : _البدء بمواجهة مرض السكري من وجهة نظر عادية لا انفعالية انتقامية . _ تجنب اعتبار الأمر كارثة ، لكن دون تهميشه والتغاضي عنه . -تجنب التهويل المتطرف إثناء حدوث طوارئ ، نظرا لخطورة تعزيز المنحى التشاؤمي من العلاج من أي مرض أو احتواء زحفه والحد من تقدمه. 2- الخطة الإجرائية الميدانية : - الإلتزام بعدم مد اليد نحو كل مادة غذائية أمامها دائرة حمراء كدلالة على قمة الخطر. - اتباع أسلوب حمية ثابت وقار في لائحة ممنوعاته متنوع في معطياته. - ممارسة التمارين الرياضية المناسبة للسن وللأوضاع العامة للجسم . -المراقبة اليومية والدورية لنسبة السكر في الدم العادي ( مرة أو مرتين في اليوم ) وفي الخزان .( عند كل ثلاثة أشهر ) . ولأني أعرف ما يخفيه إهمال هذه الخطط والنصائح والإستراتيجيات الجديدة على حياتي وعاداتي الغذائية مع هذا الضيف المباغث الثقيل من مضاعفات، (فأصدقاء كثر وأفراد من العائلة تعاملوا معه بنوع من التصابي و الإستخفاف ، فعمل فيهم عمله الخبيث ، فإما غادرونا ورحلوا قبل الأوان، وإما بترت بعض أطرافهم..أو فقدوا بصرهم ،وإما عاشوا أويعيشون في رعب مستمر بين سندان الشهوة ومطرقة الخزان )، لذلك فقد نأيت عن نهج ردود الأفعال المضطربة والإكثار من الشكاوى ، سعيا خلف شيء من الدعة والإنبساط وتقبل الأمر الواقع ،فلربما يكشف الإنسان المصاب خطأه ودواءه في آن ،فيعمل على تأمين ما تبقى، على الرغم من أن لا أحد يستطيع أن يوقف القدر وما يأتي به من مفاجآت في زحمة الحياة وإن احتاط وتعبأ وناضل.. مع إطلالة شمس كل صباح ، أصبحت أنتصب أمام شهوات بطني ، مثل جندي حارس للحدود ..لا أترك ولو نتفة صغيرة أو حبة خرذل واحدة من غذاء ممنوع علي أن تزهق على حلقي وتلج بطني..فلا مفر من الإنضباط لأوامر lieutenant mon ، ..: كُلْ ...لا تأكلْ ..حذار من ..وإياك أن... وإلا... يدفعني أمل كبير حثيث الخطى لطرد هذا المحتل الغريب من دمي .... لكن نداءََ ساخرا في دواخلي كان يهزني من حين لآخر ، خاصة أثناء وجبات الطعام وحدي أو بين أفراد أسرتي ،يدعوني إلى تحدي هذه التعاليم الأرتدوركسية الصارمة ، وهذا التقشف الغذائي الجاف والمقيت والعودة إلى عاداتي آكل وأشرب مايلذ لي ويطيب بلا كوابح أوأوامر ،"موتة واحدة كاينة " ، ففي يوم ما سنمثل جميعا أمام عزرائيل ببطوننا وشهواتنا وتخمتنا وجوعنا ..فأي حياة هذه لمن ضيق الخناق على أكله وشرابه ومتعه وهندامه مكتفيا بما قل وذُلَّ ( الدال معجمة ، بضمها وفتح اللام )_أي حسب المثل الشعبي المأثور : "اللي مات على شبعة لهلا يگعدلو راس"_؟ !! الموت جاية جاية .. فلماذا هذا التقشف.. ..تمتعْ ..وابلعْ..كُلْ واشربْ ووسواسَ الأمراض فدَعْٓ...!! ورحم الله الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد "وستعلم إن متنا غذا أينا الصدي" ..!!) أي العطشان .. ومن ليس بعطشان منا إلى معرفة حقيقته ؟؟ فجأة وأنا في أوج هذياني وتمثلاتي الفكرية والوجودية واللذوية( نسبة إلى طائفة معتنقي مبدأ اللذة المتغافلين عن حقيقة الألم ، المتعالين عن ثقافة الخوف و الإستسلام ) ، تلكزني وتقرصني رؤوس السلسلة الحديدية للنصائح والخطط التي سطرها لي الطبيب ، تصطف حروفها البارزة أمام عيني فصلا فصلا..بابا بابا.. مثل دستور،تحذرني من إطلاق العنان لشهواتي مرة أخرى .. فقد آليت على نفسي قبل أن أودع مكتب الطبيب ألا أترك بطني يستعبدني بطلباته التي تعودت مده بها عند مطلع كل شمس : فواكه البلد من كل لون وطعم.. العسل الجبلي والثمر الصحراوي ..عصائر وحلويات بلدية وعصرية ..عبق السمن البلدي الفائح من طجين اللحم .. الشاي الأسود الحلو سكر زيادة.. الشكلاطة اليومية المفضلة بعد العصر....المشروبات الغازية الباردة في عز الصيف...علي أن أنسى ذلك كله ...وداعا لاستيهامات نساء برنامج السيدة شميشة بأناقتها ووصفاتها بعد اليوم .. وداعا لكل مقاديرها الملونة الدسمة ولتجاوب عشاقها الذِِّواقيين النهمين..وداعا للجلوس بكامل الإسترخاء أمام المائدة سواء داخل البيت أو أثناء المناسبات والولائم.. نقول لكل الذين ينعمون بمعدل سكري عادي : طابت شهيتكم.. كلوا واشربوا بالصحة والراحة وطول العمر ولا تسرفوا.... لكن أثناءها فليتذكر اللبيب منكم كل مرضى السكري في بلده ( عدد مرضى السكري بالمغرب يتراوح ما بين مليون ونصف ومليوني مواطن مغربي ،وخمسون في المائة من المصابين بهذا المرض لا يعلمون بأنهم مصابون به ) خاصة أولائك الذين لا يجدون لا تغطية إنسانية ولا اجتماعية ولا صحية عندما تستفحل أوضاعهم فيتجرجرون في ردهات المستشفيات العمومية أو يعرضو ن عاهاتهم على ناصية الطرقات وداخل وسائل النقل يسترزقون بها (من يتذكر كشهادة لتاريخ وفظاعة هذا المرض حالة ذلك البدوي ذي السحنة السمراء و المناكب العريضة صاحب الرجل السكرية.. diabetique_pied le المشهور الذي ظل يطوف فوق كرسيه المتحرك بشوارع الدارالبيضاء وملتقى طرقها والذي تتقزز الأبدان لرؤية رجله عارية تلسعها قوافل الذباب وهو شارد أو غاف عنها ينتظر تحت شمس الله اللافحة من يرى بعينه ويرحم بقلبه ؟؟!..). فأرعوي قليلا أتراجع عن اندفاعاتي ، أقتنع بحقيقتي ، أنطوي على ضعفي البشري ، مثل أي طفل يتيم انهكته فجأة عقوبة الحرمان ، أو مثل فيلسوف غر عنيد أبحر مثل السندباد عمرا كاملا في للجج المعاني والأفكار والفلسفات بشتى الصور والألوان ، أتعبه سؤالان معقدان منذ زمان هما سؤالا: مرض- موت هذا الإنسان . أقول لنفسي الأمارة بالمزيد من الهروب عن الحقيقة لابد من أن تستسلمي للغذاء البديل ...المرض ممعاه ملاغة ..ممعاه مزاح ..ممعاه فلسفة...غذاء خفيف خفة قدومنا إلى هذا العالم ..خفة ذهابنا عنه أيضا ...غذاء صارم محسوب محدود محدد في نوعه وحجمه ووزنه وطعمه وزمانه ...عبر التاريخ ظل للمرض منطقه الخاص هو الأقوى هو الأفظع.....منه نعم قد نُشفى بتطور الطب والعلم ..لكن نبقى نتوسل إليه دائما جميعا بعد الله بالدواء زلفى..هو الأعمى الذي يخبط خبط عشواء في ذواتنا وأحلامنا ومخططاتنا في وقت ندعي فيه نحن أننا هم المبصرون..يا لضعفنا الذي يفضح عورتنا !! أصحاء العالم وأقوياؤه عبر التاريخ البشري بلذغة داء مفاجئة تكسرت أجنحتهم الفولاذية فانكسرت ظلالهم و عيدانهم وتدروشوا حين عز دواؤهم وعلاجهم فأضحوا بعد طول تبجح وادعاء مضغة نتنة ،كمشةعظام، ملفوفة في أرخص رداء.. وارى الشاهدون المشيعون عليها التراب فأضحت هباء في هباء ..هكذا هي الحياة تجربة عافية وسقم ، منهما الحكمة منهما البلاء منهما الإبتلاء.. نعم نؤمن بعظمة الإنسان وبقوة تحديه ،وما حققه من اكتشافات خالدة ورائدة في ميدان الطب والصيدلة التي قاومت وقهرت الكثير من الأوبئة والأمراض، منذ أول طبيب كما يروى في كتب تاريخ الطب الإنساني الطبيب " أمحتوب " في عهد الملك زوسير ، إله الطب عند المصريين القدماء ، صاحب العقاقير العجيبة ( 37. ق.م )، مرورا بعلماء العرب الذين ورثوا هذا الطب وطوروه أول طبيب في الإسلام : الحارث بن كلدة الثقفي زوج خالة الرسول( ص)_ الذي تعلم الطب من اليمن ،إلى أن وصل إلى أروبا عن طريق الأندلس حتى وصل إلى ما نراه اليوم . نؤمن بعدد الأطباءالأكفاء في المغرب وخارج المغرب، نؤمن بالمنجزات الكبيرة في بلادنا كبنايات مستشفيات جامعية وعيادات خاصة ذات مستوى عال وآليات تكنولوجية دقيقة وعالية الجودة في كثير من التخصصات ، لكنه ما يزال هذا الإنسان العظيم في الطب و في غيره من الميادين ذات الصلة بالحالة الصحية للإنسان المقهور بعيدا عن تسجيل تقدم إيجابي ملموس ومستمر وعادل خاصة في البلدان المتخلفة منها اامغرب لاحتواء الغبن الصحي والعلاجي الذي يعاني منه ، احتواء إنسانيا عاليا عادلا مكثفا لا احتواء صوريا موسميا عبر شرائط تلفزية دعائية إشهارية خالية من أي مضمون واقعي تخدم مصالح آنية لا جذور لها ولاامتدادات في الواقع الصحي للطبقة المعوزة التي لا غطاء لها ولا تغطية تعيش في عراء من أية حماية تقيها شر الطوارئ . فالعلاج من أي مرض حق فوق كل الحقوق لا صدقة أو plaisire من أحد .وحتى إذا كانت هناك تجارب ومحاولات في هذا المنحى من ذوي الأريحية والروح الوطنية والإنسانية فهي إما ذات خلفيات غير بريئة أو لا تزال في مهدها، محاصرة بشتى الوسائل والطرق من لوبي أو أخطبوط طبي صيدلاني تجاري جهنمي يستغل أفراده ضعف المرضى وجهلهم بأمراضهم وشوقهم العارم للشفاء بأي ثمن، فينحرون جيوبهم بتبريرات وأسعار ضبابية . وأطرح السؤالين العريضين بعد انضمامي إلى نادي السكريين حرف- ب- هما : -أولا ، كيف النجاة من كابوس الأمراض المحتملة كالسكري مثلا وغيره من الأمراض المرتبطة بأساليب التغذية ، وهوس الفحوصات الطبية المكلفة داخل منظومة غذائية عشوائية ومنظومة صحية مهترئة ،ووسط اجتماعي فقير وجاهل غير مساعد على الوقاية والنقاهة والنمو السليم ، هل بالعودة إلى منظومتنا الغذائية القديمة نقيم بيننا وبين عناصرها تصالحا أم أن ذلك لا يستوي إلا بالتوفيق في نسيج ملتحم بين الثقافة الغذائية الحديثة والقديمة في محاولة جادة للإستفاذة من حسنات وإيجابيات الثقافتين ؟ -ثانيا ، كيف التعايش بأعصاب باردة وردود أفعال هادئة مع وضع سياسي وثقافي واقتصادي واجتماعي وبيئي محلي و وإقليمي ودولي عام قاس ومتجبر ،يضاعف هجومه التتري اليومي علينا نحن الضعفاء بسخافته وثلوثاته وأخباره وأحداثه وقراراته المرعبة صباح مساء، علما أن من مصادر المرض أيضا ومن مسبباته تداعيات هذا الهجوم الذي يحاربه البعض إما بالفنون والثقافات، أو بالكؤوس المعتقة في الحانات أو بالإعتكاف والصلوات أو بالمنومات والمخذرات المشروعة وغير المشروعة ؟ ويبدو لنا أن انفتاح النشء على عالم الرياضة منذ صغره بشكل مضبوط ومنضبط وصحيح ومستمر سواء داخل مؤسسة الأسرة أو المدرسة في مجتمع منظم حاصل على حقوقه كاملة ، ينظر فيه الطفل أوالشاب من خلاله إلى ذاته أولا ، وإلى صحتها بقدسية واستقلال ونقاء، النقاء الروحي والشفافية الإنسانية التي يفقدها إنساننا المعاصر ، يفتح له الباب كي ينجو و يفلح في إقناع نفسه بعد الوعي بها أنه هو المسؤول الأول بأهمية صحته وبمقومات حياته الوقائية فلا يستسلم لهيمنة ثقافة الزرود المحكومة مسبقا بمعايير مادية مغلوطة( السمنة والكروش الخدود المنتفخة كواجهة اجتماعية، وكعلامة على الصحة ) ،ولا لثقافة الإستهلاك البهيمي الذي اخترق معدات شبابنا وأطفالنا ( الساندويتشات الجاهزة) المرافقة للخمول واللا اكثراث من طلوع الشمش إلى طلوعها ، يقدم فيها الأطفال والشباب المغرر بهم عبر وسائل الإشهار الخادعة أنفسهم مرضى محتملين في قاعة الإنتظار بأسماء أمراض متنوعة، ضحايا لنظام اقتصادي استهلاكي أعمى يمتص دم الفرد معافى ومريضا أي يبيع القرد ويضحك على من اشتراه . ولا لمنطق الإستسلام للمرض بالوراثة الذي يلعب على السيكلوجية ويمنع كل فرصة لمقاومته و الإستشفاء منه . أما الذين لا يجدون ما يشتهون مما ذكرنا من مشتهيات وما لم نذكر، فيمرضون بداء الخصاص و خيرات الوطن أمامهم فلهم من عطاء الله العزاء الكبير . فهيا ..قال لي رفيقي في درب النضال آخر العمر ضد كل منغصات الشيخوخة الهادئة المطمئنة لا "الشيخوخة الظالمة" عنوان رواية كاتبنا الكبير عبد الكبير غلاب متعه الله بالعافية : هيا يا ولدي..لا عيش بدون أمل.. هيا كفى كلاما ولغوا وفلسفة... .. انتعل حذاءك الرياضي واتبعني...!!