ليس من العيب أن يستشكل الإنسان موقفا معينا قد يبدو له غير منسجم مع ما يعرفه عن صاحب ذلك الموقف .. لكن مشكلة السيد الحسناوي في مقالته التي نشرها اليوم الأربعاء على صفحات "هسبرس" تحت عنوان: "العلماء والدعاة بين إرضاء الحكام وإرضاء الجماهير" .. مشكلته أنه هاجم غيره في أمور عرف منها شيئا وغابت عنه أشياء، وما عرف أقل بكثير مما لم يعرف، وهو ما يدل على سطحية في المعرفة ونزق في النقد؛ إذا اجتمعا في إنسان هرف بما لم يعرف وظلم ولم ينصف، فيتهم الناس بتهم جزافية؛ كتلك التي كالها لي في ميزان حقده ورماني بها بسبب تعسف وجهله؛ فقد حبسني ظلمه في سجن من ثلاثة (زنزانات): (حركي حزبي أو يساري ثوري أو خارجي إرهابي)!!! وذلك تعليقا على مقالتي في أحداث تونس .. إن مما لم يعلمه السيد الحسناوي أن هذا العبد يستنكر ما يجري في تونس منذ أن علم بالمؤامرة التي أدت إلى مقتل (فرحات حشاد) لإقصائه من إدارة الحكم بعد الاستقلال، وحرص فرنسا على أن يكون المتولي للحكم هو عاشقها وخادم مبادئها (بورقيبة) .. ولم يكن مرشَّحا للحكم سوى أحد الرجلين، فقتلت الأول لتمسكه بهويته الإسلامية وقربه من هموم الشعب، ومكنت للثاني لحرصه على تغريب المجتمع وتطويعه للثقافة الفرنسية ومبادئها .. ومنذ ذلك الحين والنظام مسلط على دين التونسيين وهويتهم –مسخا وتضييقا وإقصاء- بذريعة محاصرة التطرف الإسلامي. ومما لم يعلمه السيد الحسناوي أن (بن علي) أشر من (بورقيبة) من وجوه ليس هذا موطن بيانها، وأن العلماء قبل أحداث تونس ما فتئوا يستنكرون مخطط المسخ الحضاري الذي تتعرض له تونس من طرف نظام ديكتاتوري علماني استمر ما يقارب نصف قرن من الزمان .. وقد أنكرت هذا الواقع في دروس وكتابات منذ سنين؛ ومن ذلك قولي في أحد المقالات: ".. إن على العلماء والمخلصين لدينهم أن يتفطنوا لهذه المكيدة التي تريد أن تستنبت في المغرب النموذج التونسي؛ الذي خنقت العلمانية فيه الدين؛ بحيث لا يتنفس إلا من ثقب إبرة طقوس صوفية باردة؛ أما صلاة الجماعة فبإذن مقدم الحي، وأما الحجاب فممنوع في الإدارات وسائر المؤسسات، وأما اللحية فجريمة لا تغتفر، وأما احترام الشعائر كالصيام فلا وجود له، وأما حرية التعبير فالصيام عنها هو الركن الرابع من أركان النظام .."إلخ ومما لم يعلمه السيد الحسناوي أن هذا الموقف وجدنا عليه علماءنا قبل أن نقتنع به في ضوء عقيدتنا وشريعتنا، ويكفي رجوع الحسناوي إلى صولات وجولات الدكتور تقي الدين الهلالي والعلامة عبد الله كنون –مثلا- ليعلم موقفهم من عملية المسخ التي كانت تجري في تونس، كما أنه لم يعلم أن الإمام عبد العزيز ابن باز راسل بورقيبة ينهاه عن غيه، وحذره من عاقبة اختياره الذي تخندق فيه ضد دينه وهويته .. ومما لم يعلمه السيد الحسناوي أن النصوص الشرعية الآمرة بطاعة ولي الأمر مقيدة بالمعروف باتفاق العلماء، كما هو نص الحديث الصحيح، وكما يشير إلى ذلك قول الله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء/59] قال العلماء: ذكر فعل الطاعة في طاعة الله ورسوله دون تكراره في طاعة ولي الأمر يدل على أن الطاعة مقيدة وليست مطلقة. ومما لم يعلمه السيد الحسناوي أن النصوص التي زجرت عن الخروج على الحاكم جاء تقييدها بقيود واستثناءات كقول النبي صلى الله عليه وسلم –مثلا-: "ما أقاموا فيكم الصلاة". وأن الله تعالى قبل أن يأمر الرعية بطاعة ولاة الأمور، أمر سبحانه ولاة الأمور بالعدل في الرعية؛ فقال في الآية التي تقدمت الآية السابقة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء/58] فالعدل جماع صلاح أمور الدنيا، وإقام الصلاة جماع صلاح أمور الدين، وغير خاف المفهوم الشرعي الشامل لمعنى إقام الصلاة .. وقد تتابع الخلفاء الراشدون على أمر رعيتهم بتذكيرهم بلزوم العدل؛ وقالوا: "إن استقمنا فأعينونا، وإن اعوججنا فقومونا"، وهو ملخص فقه السلف لنصوص الطاعة، وهو الفقه الذي نحاول أن ننضبط به في كل أبواب الدين ليقيننا بأن السلف الصالح وعلى رأسهم الصحابة هم أولى الناس بالفهم الصحيح للنص والمنهجية السليمة للاستدلال به والاجتهاد انطلاقا منه في النوازل .. فموقفنا في الدعوة إلى ما دلت عليه تلك النصوص الشرعية موقف ثابت ومنسجم، وهذا لا يعلمه من ليس عنده حظ كافي من الفقه في دين الله، فإن فقه الدليل أوسع مما يتصوره السيد الحسناوي؛ كما أن الفتوى التي تقوم على ذلك الفقه يمكن أن تتغير حسب تغير الأحوال في النوازل المختلفة؛ وفق ما شرحه العلماء؛ كالإمامين الشاطبي وابن القيم رحمهما الله .. وبما تقدم نعلم وزن قول السيد الحسناوي: "إن المرجعية التي يستقي منها الشيخ القباج أفكاره ويبني مواقفه، لا تسعفه في تبني هذا الخطاب!! إذ هي مرجعية تعتبر الحاكم واجب الطاعة، ويحرم الخروج عليه أو التحريض عليه أو التحذير من بعض أفعاله بل حتى نصحه، وتعتبر الكلام عن عيوب المسؤولين مما لا يجوز، ولا ترى دواء للاستبداد والظلم إلا الصبر"اه. إنه الافتراء يمشي على رجليه وينطح بقرنيه. .. إن مما لا شك فيه أن ما أرشدت إليه النصوص الشرعية من طاعة ولي الأمر المسلم، واجتناب الخروج عليه وحرمة إثارة الفتن؛ هو الواجب الشرعي المتضمن لمصالح الناس في معاشهم ومعادهم، وهو القاعدة التي لا ينبغي الخروج عنها إلا بموجب شرعي يفتي فيه العلماء المؤهلون الذين قد يرون مشروعية الخروج حين تتعطل تلك المصالح (مصالح الناس في معاشهم ومعادهم)، وتصير مفسدة طاعة الحاكم أعظم من مفسدة الخروج عليه .. وأؤكد للسيد الحسناوي أنني أعرف قدر نفسي، ولذلك لا أزعم أنني مؤهل للحكم في تنزيل الأحكام التي أشرت إليها على واقع معين، لأن هذا التنزيل معناه القول على الله بأن هذا حكمه في تلك الواقعة، وقد تعلمنا من علمائنا عدم الهجوم على ذلك، لا سيما فيما يتعلق بالدماء والأعراض، وأعتقد أن هذا ينبغي أن يجتمع له كبار علماء الأمة وفقهائها .. أما التعليق على حدث بما يفيد الفرح بارتفاع الظلم عن إخوان لنا في الدين والجوار، والرغبة في أن يفرج الله همهم ويبدل ضيقهم سعة، وأن ييسر لهم أمور دينهم ومعاشهم، وبيان عاقبة الظلم واختيار الأنظمة خدمة مصالح الغرب المعتدي و(إيديولوجياته)؛ على حساب دين الأمة وعدالتها الاجتماعية؛ فهذا مما نحتسبه عند الله ولم يخطر لنا ببال أن نرضي فيه حاكما ولا محكوما؛ كما اتهمنا بذلك السيد الحسناوي ظلما وعدوانا، والذي لا نجد ما نقول له بعد هذا التوضيح أحسن من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات/11]