بموافقته على خطة العمل المشترك الشاملة بين مجموعة 5 +1 و إيران ، يكون مجلس الأمن قد أعطى الضوء الأخضر لبداية تنفيذ هذا الاتفاق المتعلق بالملف النووي الإيراني التي تم التوصل إليه يوم 14 يوليوز من هذا الشهر. وهو الاتفاق الذي وضع حدا لخلاف مستدام منذ أكثر من 12 سنة، عنوانه البارز منع إيران من امتلاك القنبلة النووية . لقد بدأت هذه المفاوضات في سنة 2003 بين إيران وثلاث دول أوربية، وهي فرنسا وألمانيا وبريطانيا. بيد أنها لم تفض إلى أية نتيجة، بل على العكس من ذلك، فقد تعقدت أكثر بعد وصول الرئيس المحافظ أحمدي نجاد إلى السلطة، وتبنيه لمواقف متشددة ومناوئة للغرب. وبفعل ذلك فقد توسعت مجموعة الثلاثة لتصبح مجموعة مجلس الأمن + المانيا ، كإشارة إلى أن الأمر لم يعد يقتصر على الدول الأوربية، ولكنه يعني العالم، اعتبارا لكون الموضوع يتعلق بالانتشار النووي، وهو الذي تم منعه ارتكازا على معاهدة منع الانتشار التي تم تبنيها في سنة 1967 ، والتي تمنع الانتشار النووي لأغراض عسكرية، وتشجع على الاستعمال السلمي للطاقة النووية . لم تفض المفاوضات الماراطونية إلى ثني إيران عن تطوير برنامجها النووي . وبفعل ذلك فقد تعرضت لسلسلة من العقوبات تقررت بموجب قرارات لمجلس الأمن والاتحاد الأوربي والولاياتالمتحدة. وكانت تهدف في مجملها إلى الضغط على إيران لدفعها لتليين موقفها. بيد أن هذه العقوبات إذا كانت قد أثرت على الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية للبلاد، فإنها لم تمنع إيران من مواصلة تحديها للنظام الدولي، حيث واصلت التصرف كقوة إقليمية ذات طموحات هيمنية حاضرة بشكل فاعل في النظام الشرق أوسطي الزاخر بالاضطرابات والتهديدات للسلم والأمن الدوليين . لقد كان من الضروري انتظار وصول مرشح الإصلاحيين حسن روحاني إلى سدة الرئاسة خلال الانتخابات التي جرت في سنة 2013 لتفتح صفحة جديدة في علاقات إيران مع العالم. فقد بدا واضحا أن هذا الأخير قد وطد العزم على وضع حد للعقوبات التي تعيق تطور بلاده. يتزامن ذلك مع رغبة الرئيس الأمريكي أوباما في التوصل إلى اتفاق يهدف من جهة إلى استبعاد ارتقاء إيران إلى القنبلة النووية، و من جهة أخرى ، تمكينها من لعب أدوار أكثر نجاعة في حل المشكلات التي بدت مستعصية، خاصة أن إستراتيجيته قامت على أساس تصحيح الأخطاء التي ارتكبها جورج بوش، والتي زادت من هيجان العالم، ومن الحركات المتطرفة والإرهابية . في ظل هذا المناخ ، تم التوصل إلى الاتفاق المرحلي في 24 نونبر 2013 وهو الذي كان يقوم على الحد من أنشطة إيران النووية لمدة ستة أشهر مقابل رفع جزء من العقوبات عنها مكنها من الحصول على بعض المداخيل . بيد أنه كان لا بد من مفاوضات شاقة استمرت 21 شهرا للتوصل إلى هذه الخطة المعروفة بخطة العمل المشترك الشاملة فضلا عن ملحقاتها الخمس. وهي تتوخى عبر إجراءات معقدة طي هذا الملف، وإعادة إيران إلى المسرح الدولي . فما هي أهم مفاصل هذا الاتفاق. وما هي تداعياته المحتملة سواء على إيران أو المنطقة التي تنتمي إليها ؟ 1 اتفاق معقد ومتدرج يرتكز هذا الاتفاق على محورين أساسيين وهما: منع إيران من إنتاج القنبلة النووية. ومقابل ذلك رفع العقوبات المختلفة عنها. ففيما يتعلق بالمحور الأول، فهو يتضمن الإجراءات الردعية التالية : _ تقييد تخصيب الأرانيوم : لمدة 15 سنة ، لا يمكن لإيران تخصيب الأورانيوم إلا بنسبة 3,67% . وكل الأورانيوم الذي يتجاوز تلك النسبة سيتم تصديره خارج البلد أو يتم تخفيفه بالماء . كما أن عدد أجهزة الطرد المركزي ستنتقل من 19000 إلى 5060 فقط . _ فيما يتعلق بالبلوتنيوم الذي يمثل المادة الثانية الخاصة بالانشطار النووي ، فإن إيران ستلتزم بتغيير المفاعل الذي يشتغل بالماء الثقيل حتى لا يتم انتاج بلوتنيوم ذي طبيعة عسكرية . _ فيما يخص مراقبة المنشآت النووية ستتولى الوكالة الدولية للطاقة الدرية تفتيش حظيرة اجهزة الطرد لمدة 20 سنة . ولمدة 25 سنة إنتاج الأرانيوم المخصب . في نفس السياق تلتزم إيران بالمصادقة على البرتوكول التكميلي للوكالة الدولية للطاقة الدرية والذي يسمح بتفتيش المنشآت النووية كلما رغبت في ذلك، مع الاكتفاء باستشارة إيران . _ فضلا عن ذلك ستظل إيران خاضعة للحظر على الأسلحة لمدة 5 سنوات، وبالنسبة للصواريخ البلستية لمدة 10 سنوات. زفي نفس الوقت هناك آلية تسمح بإعادة فرض العقوبات في حالة عدم التزام إيران بمقتضياتها في مدة لا تتجاوز 65 يوما . في مقابل هذه الإجراءات التي تتوخى تقييد امتلاك إيران للسلاح النووي ، فإن المحور الثاني الإيجابي بالنسبة لها يتمثل في رفع العقوبات عنها . وهي العقوبات التي فرضت سواء من طرف مجلس الأمن أو الاتحاد الأوربي ، أو الولاياتالمتحدة . وهي تهم بالخصوص الإفراج عن أرصدة إيران المجمدة ، و التي تصل إلى 150 مليار دولار ، ورفع الحظر عن الطيران الإيراني و البنك المركزي و الشركات النفطية و العديد من المؤسسات و الشخصيات . .. . في هذا السياق، فإن أجرأة هذه الخطة يبقى محفوفا ببعض الصعاب منها أساسا ما يخص تصويت الكونغريس الأمريكي. فهو يتوفر على 60 يوما للتعبير عن موقفه. وتنتظر الإدارة الأمريكية التي تفاوضت على هذا الاتفاق مهمة شاقة لإقناع المؤسسة التشريعية الذي يسيطر عليها الجمهوريون ، الذي عبر مجموعة من أعضائه عن معارضتهم له . بيد أن وضع الكونغريس ليس مريحا، فرفضه للاتفاق سيمنع فقط الإدارة الأمريكية من رفع العقوبات . لكنه لا يلغي الاتفاق الذي هو متعدد الأطراف . في نفس الوقت قد يحرم الشركات الأمريكية من العودة إلى السوق الإيراني الذي سيصبح مجالا للتنافس بين الشركات العالمية في كل القطاعات . 2 أية انعكاسات لهذا الاتفاق ؟ ليس هينا استشراف التداعيات المحتملة لهذا الاتفاق الذي تبلور بفعل تضافر إرادة الدول الرئيسة في العالم ، والذي يتوخى تحقيق هدفين منع إيران من امتلاك السلاح النووي، على الأقل على المدى المتوسط، والثاني السماح بتطبيع الحضور الإيراني على الساحة الدولية . فيما يتعلق بالهدف الأول، يظهر أن إيران قد تخلت بشكل ملموس عن طموحها في امتلاك قنبلة نووية، بفعل القيود والإكراهات الصارمة التي فرضت عليها ، والتي ظلت ترفضها طيلة السنوات الماضية. لكن هذا لا يعني أنه من حق إيران تطوير قدراتها النووية لأغراض مدنية كما تنص على ذلك معاهدة الانتشار النووي. فضلا عن ذلك ، فإن إيران بإعادة تطبيع علاقاتها مع الدول الغربية، ستظل بدورها أكثر عرضة للمخابرات التي كانت تجد صعوبة كبيرة في الحصول على معلومات دقيقة في الوقت التي كانت إيران تعيش تحت الحصار. لكن بالمقابل، فإن عودة إيران إلى حظيرة الدول يطرح تساؤلا كبيرا حول سلوكها المستقبلي، وكذا توازنات التحالفات الجديدة في المنطقة. لذلك، فإن هذا الاتفاق لم يستقبل بنفس الحفاوة في كل دول العالم. فالسعودية، وخاصة إسرائيل لم تخفيا قلقهما من تنامي الدور الإيراني، وتصاعد نفوذه في منطقة تختزل الكثير من الأزمات و التوترات . دون التسرع في إصدار أحكام قد تبقى قيمية أكثر مما هي تعبير عن واقع المنطقة ، يبدو من استقراء ردود الفاعلين والمحللين ، أننا أمام فرضيتين محتملتين : الأولى تنبني على اعتبار أن هذا الاتفاق يمكن أن يجعل من إيران عنصر مساهمة في التخفيف من حالة التوتر التي تعرفها المنطقة .في حين تبقى الفرضية الثانية أكثر تشاؤما وحذرا فيما يخص الدور المستقبلي الإيراني في العلاقات الدولية ، ولا سيما الإقليمية منها . ويستند أنصار الفرضية الأولى على مجموعة من الاعتبارات من أبرزها : _ إن انخراط إيران في هذا الاتفاق ، ومباركته حتى من المرشد الأعلى يعني أن هذه الدولة راغبة في الانخراط في علاقات مع باقي العالم تحترم قواعد الحوار و التسوية السلمية للنزاعات والخلافات . _ إن هذا الاتفاق يعزز معسكر الإصلاحيين الذين انتعشوا بشكل واضح بعد صعود حسن روحاني إلى الرئاسة محل المحافظ أحمدي نجاد . ومن الواضح أن هذا المعسكر لا يشجع على المواجهة مع الغرب ، بل على العكس من ذلك يدفع نحو مزيد من تفاعل إيران مع محيطها سواء منه المباشر أو البعيد . _ من ثمرات هذا الاتفاق ، تمكين البلاد من استرجاع الأرصدة المجمدة ، و التي تقدر اليوم ب150 مليار دولار . لكن في نفس الوقت ، فإن البلاد عانت من المقاطعة . وهي اليوم بحاجة إلى تجديد بنياتها الاساسية ، سواء تعلق الأمر بأسطولها الجوي أو البحري أو بصناعتها النفطية . فهناك اليوم تقديرات تشير إلى حاجة الاقتصاد الإيراني لأكثر من 250 مليار دولار من الاستثمارات . و من ثم ، فإن الشعب الإيراني الذي عاني من ويلات الحظر لا يحبذ أن تهدر الإمكانيات في تمويل حروب تتم في المنطقة . لهذه الاعتبارات وغيرها يركز أنصار هذه الأطروحة على الدينامية الداخلية التي تعرفها إيران، والتي توحي أنها تميل لمصلحة الإصلاحيين في مواجهة المحافظين . على العكس من ذلك ، هناك فرضية أكثر تشاؤما تعتبر أن رجوع إيران إلى وضعها الطبيعي سيؤجج من نزوعاتها الهيمنية. فالصراع مع الغرب يشكل عنصرا أساسيا في هويتها الثورية. وحتى في لحظات الحصار، فقد ظلت إيران فاعلا حاضرا في الصراعات التي تعرفها المنطقة عبر حلفائها . فهي موجودة في فلسطين من خلال حماس ، و في لبنان من خلال حزب الله، وفي اليمن عبر الحوثيين، وفي سوريا حيث بقيت بمثابة الحليف الاستراتيجي للرئيس بشار الأسد. دون ذكر العراق، حيث تتمتع بنفوذ واضح في البلاد . لذلك ، فإن امتلاكها لإمكانيات مالية لا يعني أنها ستنفقها كلها في مشروعها الهيمني ، ولكن من المؤكد أن ذلك سيزيدها قوة، تنضاف إلى مصادر قوتها الكلاسيكية المتمثلة في العوامل الديموغرافية والعسكرية .. علاوة على ذلك ، تتعزز فرضية التزايد المحتمل للنفوذ الإيراني بكون الولاياتالمتحدة في عهد الرئيس أوباما لم تعد متحمسة للانغماس بشكل مباشر في المستنقع الشرق أوسطي .خاصة بعد النكسة التي تعرضت لها الاستراتيجية الأمريكية في عهد الرئيس السابق جورج بوش الإبن ، وكذلك ارتفاع استقلاليتها الطاقوية بشكل يقلص من تبعيتها لنفط المنطقة . لذلك ، فهي لا ترى ضيرا في قيام دركي إقليمي يتمتع بنوع من النفوذ والإرادة بالمساعدة على تدبير أزمات المنطقة بالإضافة إلى باقي الفاعلين ، كما هو الأمر بالنسبة للمملكة العربية السعودية التي تتطلع بدورها إلى إفراز توازن يستجيب لمصالحها ولرؤيتها للعالم . سواء تعلق الأمر بهذه الفرضية أو تلك ، فإن صيرورة دينامية الأحداث علمتنا أنها ليست نتاجا لعنصر أو لقوة وحيدة . على الأقل على الأمد المنظور قد لا تتغير موازين القوى بشكل جوهري . لكن من الواضح أن التحديات التي تعرفها المنطقة ، و خاصة ما يرتبط بمواجهة الإرهاب الذي تقوده بشكل تراجيدي حركة داعش وباقي الحركات المتطرفة ، يتطلب تعاونا بين القوى الاساسية في المنطقة . فبدل المواجهة بين الشيعة و السنة ، فإن الحكمة تتطلب اليوم تعزيز تحالف تساهم فيه إيران و المملكة العربية السعودية إلى جانب القوى الكبرى لإفراز نظام إقليمي أقل تطاحن و تصارع . فالحوار والتعاون بين دول الخليج و إيران قد يكون أكثر منفعة لكل الأطراف لتجاوز المعضلات التي تعيشها المنطقة، والتي تشكل مصدر تهديد للأمن و السلم في العالم . لذلك، فإن هذا الاتفاق، في حالة استكمال كل حلقاته، ونزوع إيران نحو ممارسة أكثر احتراما لمصالح وسيادة الدول الأخرى، علاوة على توضيح القوى الأخرى، لتحالفاتها وتوجهاتها الإستراتيجية قد يكون عنوانا لمرحلة جديدة تساهم في التقليص من عوامل الاضطراب و اللا استقرار، وتخدم مصالح الشعوب في الأمن والتنمية.