جلست أشاهد أول حلقة منه، لفتني عنوانه، ولفتني أن مصر "السيسي" تحاول عقد "مصالحة" مع اليهود بعد أن قدمته عبر أفلامها، ومسلسلاتها، وإعلامها، منذ عهد جمال عبد الناصر في صورة "اليهودي البخيل المتامر"، و"اليهودية الشمطاء العاهرة". كتبت على صفحتي على فيسبوك أني اخترت من بين باقة مسلسلات رمضان أن أتابع "حارة اليهود"، لأفاجأ بتعليقات تقول إن الهدف من هذا المسلسل هو "تلميع صورة إسرائيل"، فقط لأن برنامجا تلفزيونيا على قناة اسرائيلية "شكرت السيسي" على جرأته في تقديم مسلسل "لا يسيء لليهودي". شردت بذهني أتذكر ذاك اليوم الذي حضرت فيه بواشنطن عرض فيلم"من تنغير الى جيروزاليم"، الفيلم الذي أثار جدلا في المغرب، شاهدته في أمريكا خلال "مهرجان السينما اليهودية"، وبحضور عدد كبير من اليهود المغاربة، التونسيين، الفرنسيين، والأمريكان. مقاطع من الفيلم أثرت في كثيرا، مشهد حنا شمويان إحدى بطلات فيلم كمال هشكار الوثائقي، تضرب الدف وتغني بالامازيغية في اسرائيل ما كانت تغنيه يوما طفلة ببلدها الأم المغرب. تتوقف حنا عن الغناء، تمسح دموعها، وتحكي كيف اضطرت إلى الرحيل عن قريتها الصغيرة، تقول حنا إن لا أحد في المغرب اعتدى عليهم، لكن كان لا بد من الرحيل. تضيف حنا أن في قريتها الصغيرة تنغير لم يكن هناك فرق بين مسلم ويهودي، لكن بعد 48 توقفت نساء القرية المسلمات عن إلقاء التحية عليهن هن اليهوديات، قاطع مسلمو القرية يهودييها، فأصبحوا يشعرون بأنفسهم غرباء في الأرض التي عاشوا فيها قرونا...فكان لا بد من الرحيل. في اخر الفيلم تتحدث حنا عن رغبتها في العودة إلى المغرب، وفي ختام الفيلم يخبرنا المخرج أن حنا توفيت منذ أيام، وأتألم ليس لوفاة حنا، بل لأنها توفيت قبل أن تعانق وطنها الأم. في اليوم التالي، أقترح على مديري في العمل أن أقوم بتقرير حول"مغاربة إسرائيل وحلم العودة"، تخلق الزاوية التي اخترت الحديث عنها"حلم العودة" جدالا بيني وبين زملائي الفلسطينيين والمغاربة، ف"حلم العودة" يرونه "حلما فلسطينيا قحا"، في حين كنت أرى أنه حتى يهود المغرب في اسرائيل لهم الحق في "حلم العودة". انتهى الجدال في واشنطن عرابة اسرائيل، وفي غرفة أخبار عربية يديرها أمريكي يجهل العربية، بالموافقة على الموضوع الذي اخترته لكن بشرط ألا أتحدث عن"حلم العودة اليهودي". اقترح علي زميلي الفلسطيني"اليساري"، أن أتواصل مع "رؤوفين أفرجيل"، إسرائيلي من أصل مغربي كان من مؤسسي "حركة الفهود السود"، سألته مستفهمة"الفهود السود؟"، أجاب باقتضاب"نعم...هي الحركة التي ارهبت اسرائيل". ولجت غوغل أستسفره عن "حركة الفهود السود"، فوجدتها حركة أنشأها يهود مغاربة ودعوا يهود الشرق إلى الانضمام إليها للاحتجاج وأحيانا كثيرة ب"السلاح" ضد الدولة الاسرائيلية، والتمييز العنصري بين يهود الشرق ويهود الغرب. استمدت الحركة روحها واسمها من "حزب الفهود السود" بأمريكا نشأت بعد مقتل مالكوم اكس، واعتبر حزبا يساريا يدافع بكل الاشكال بما فيها السلاح عن حقوق الاقليات والاثنيات المهضومة من الدولة الامريكية. تسلحت بما وجدته من معلومات، أخذت مذكرتي وقلمي، ونزلت إلى حيث الاستوديو، ولجته وكانت أول مرة أسمع فيها قلبي يخفق وأنا أركب رقم هاتف سيصلني من واشنطن إلى تل أبيب بزعيم يهودي مغربي "أرهب إسرائيل". رن الهاتف، وسمعت صوتا يرد: - الو صمت للحظة، فأنا لم أعرف بأي لغة سأتحدث، كان رؤوفين رجلا في السبعين من عمره، هكذا أخبرني صديقي الفلسطيني، لكني نسيت أن أسأله إن كان يتحدث العربية. استجمعت قواي وأجبته بخليط من المغربية والعربية: - هاي، أنا شامة صحفية مغربية تقيم في واشنطن، أتصل بك من أجل حوار حول "الفهود السود وحلم العودة إلى المغرب". كنت مصرة على استخدام وصف"حلم العودة" في حواري الشفوي، في انتظار أن أجد مخرجا يجعلني أتحدث عنه في تقريري المكتوب دون أن أثير عاصفة جديدة من الجدل مع رؤسائي في العمل. رد رؤوفين: - أهلا وسهلا...لاباس؟ كان يتحدث مغربية بلكنة شرقية، أو شرقية بلكنة مغربية، لم استطع التمييز فسألته: - هل تفضل الحديث بالفصحى، المغربية، المشرقية، الفرنسية، أو الانجليزية؟ - بالمغربية…أنا لا أتحدث الفرنسية - أوكي...أريدك أن تحدثني عن حركة الفهود السود، عن مغاربة إسرائيل، وهل تحلمون بالعودة الى الوطن الام؟ سأترك لك المايك، وخذ راحتك في الحديث. المفترض حين تجري حوارا بالهاتف، وتسجله، تفكر في المونتاج بعد ذلك، لكني في حديثي لرؤوفين كسرت كل القواعد، كنت أريد أن أسمع صوتا نحاسبه على "احتلاله" بلدا لشعب اخر، قبل أن نسمع "دفاعه"، بعيدا عن حسابات تجار السياسة والدين والإعلام. ...وتحدث رؤوفين: - لم نكن نريد المجيء إلى هنا، المغرب كان الوطن الذي عرفناه وعرفه أجدادنا منذ قرون...لكننا أجبرنا على المجيء...كنا نعيش في وئام بين إخوتنا المسلمين، كنا في عيد الميمونة نحضر الحلويات، ونترك أبواب منازلنا مفتوحة حتى يدخل جيراننا مسلمين ويهودا ويتقاسمون معنا الحلوى، وأجواء العيد...لكن أتى يوم أجبرنا فيه على الرحيل...لم يعتد علينا أحد، لكن أجبرونا على الرحيل، أحضرونا إلى هنا، بلد اخر لا نعرفه، ولا نريد أن نكون فيه، كنت صغيرا هجرت مع والدي إلى بلد اسمه إسرائيل، وضعونا في أحياء فقيرة، همشونا، وعاملونا على أننا مواطنين من الدرجة الثانية، فضلوا علينا يهود الغرب الاشكيناز، وحقرونا نحن يهود الشرق السفرديم. أذكر أنه في 1959، خرج يهودي مغربي اسمه ديفيد حاملا علم المغرب وصورة الحسن الثاني وطاف شوارع تل أبيب يطالب بالعودة إلى وطنه المغرب...ثارت ثائرتنا بدورنا، وخرجنا نحن اليهود المغاربة مسلحين بعلم بلدنا وصورة"سلطاننا"، وطالبنا بالعودة...لكن الإسرائيليين، تجاهلونا كما تجاهلنا حكام بلدنا المغرب. جردتنا إسرائيل من كل أوراقنا، فأصبح حلم العودة مستحيلا. استمر تهميشنا لسنوات، في 1971، تقدمنا للشرطة الاسرائيلية بطلب الترخيص لتنظيم مظاهرة نطالب فيها بحقوقنا نحن اليهود المزراحي، وبتحقيق العدالة الاجتماعية، لكن طلبنا تم رفضه، فخرجنا في شهر مارس ومن حي مصرارة بالقدس في مظاهرة غير مرخصة، عرفت نجاحا، واستقطبت الكثير من المتظاهرين، ولفتت انتباه الميديا. في أبريل، سنلتقي "كولدا مايير"، لنسمعها صوتنا لكنها وصفتنا والمتظاهرين ب"الاناس غير اللطفاء"، وب"المخربين"، و"خارقي القانون"، عوض الاستماع إلى مطالبنا، لذلك عدنا في شهر مايو إلى الاحتجاج، كنا حوالي 7 الف من يهود المغرب والمشرق نطالب بحقوقنا، خرجنا بدون ترخيص من الشرطة، وهذه المرة استخدمنا المولوتوف ضد رجالها، وانتهت المظاهرة بوقوع جرحى بين رجالنا ورجالهم، واعتقل منا الكثيرون...لكن هذه المرة استطعنا أن نرغم السلطات على الاستماع إلينا، وأخذ مطالبنا بعين الاعتبار، وتم الترخيص لحركتنا والتي تحولت من الوصف بأنها "حركة ارهابية" إلى "حركة اجتماعية". هكذا نشأت "حركة الفهود السود"، وتحولت من مطلب لمواطن يهودي مغربي وجد نفسه في أرض غريبة، يريد العودة إلى بلده، فيقابل بالتجاهل من وطنه الام ووطنه الجديد، إلى حركة لمت شمل يهود المغرب والمشرق تحت لواء واحد مناهض لسطوة اليهودي الغربي، لتتحول مع الأيام إلى حركة يسارية تضم الاسرائيليين والفلسطينيين وتدعو إلى وطن واحد يجمع شمل المتصارعين تحت لواء السلم واحترام التعددية الدينية والاثنينة. لكن الحركة لم يقدر لها الاستمرار، وإن كان عدد من الاسرائيليين والفلسطينيين اليساريين لا زالوا يحلمون بوطن واحد للجميع. أعود إلى رؤوفين وأسأله: - هل لا تزال تحلم بالعودة إلى المغرب؟ - هذا الحلم لا يغادر بالي يوما، لكنها اختلف، أنا اليوم جد وأحفادي وإن أرادوا العودة اليوم يلزمهم عمل ودراسة جيدة وهو أمر للاسف غير متوفر الان في المغرب...لكن بالنسبة لي أنا فلم أتوقف عن حلم العودة بطريقتي، أنا أزور المغرب، لكني أزوره بجواز سفر إسرائيلي، حلمي هو العودة إلى المغرب ودخوله بجواز سفر مغربي، وببطاقة هوية مغربية، فأنا لا أريد أن أزور وطني الأم كسائح إسرائيلي، بل كمواطن مغربي. لذلك أطالب البرلمان، وأطالب"السلطان محمد السادس"، برفع هذا الحيف ضدنا، وبتمكيننا من أوراق هويتنا المغربية. شكرت رؤفين، وأخبرته أني سأنهي المكالمة لكنه طلب مني أن أنتظر قليلا لأنه يريدني أن أتحدث إلى زوجته، وأخبرني أن زوجته تتحدث الفرنسية، انتظرت، وسمعته يتحدث معها بالعبرية قبل أن اسمع صوتها، ونتبادل التحية وبضع كلمات مجاملة، وقبل أن أغادر عاد رؤفين ليتحدث إلي وهذه المرة ليدعو لي بالخير والتيسير، وليدعو لأهل المغرب، ولمسلميه ويهوده، ولملكه"محمد السادس" والذي لا يزال رؤوفين يناديه ب"السلطان"، وكأن ذاكرة روفين ترفض مغادرة مغرب طفولته. بعد أنهيت حديثي مع رؤفين، اتصلت بتشارلز دحان ممثل الجالية اليهودية المغربية بواشنطن، نفى تشارلز أن يكون المغرب يرفض تمكين أبنائه من يهود اسرائيل من اوراق تثبت انتماءهم للمغرب، لكنه أقر أنه "في صالح المغاربة اليهود البقاء في اسرائيل لانهم سفراء للمغرب هناك يحركون من اسرائيل الة الدبلوماسية لما يحفظ مصالح وطنهم الام المغرب". أشفقت على رؤوفين الذي أخبرني أنه يتيه بين مصالح الإدارة المغربية للحصول على ما يثبت انتماءه الى بلد لا زال يحلم بالعودة اليه مواطنا، وبين مصالح السياسة المغربية التي ترى فيها سفيرها في بلد فرض عليه وطنا جديدا اسمه اسرائيل. أشفقت على رؤوفين أكثر وأنا اقرأ تعليقات القراء المناهضة له ولكل ما هو اسرائيلي بل كل ما هو يهودي، مرة تحت حجة الدفاع عن القضية الفلسطينية، وأخرى باسم الدين. اليوم، وأنا اتابع مسلسل "حارة اليهود"، وألمس تطور الإعلام المصري في التعامل مع "القضية اليهودية"، ومحاولة الاعتراف بمساهمة النظام المصري كما النظام في عدد من الدول العربية في تهجير مواطنيها اليهود إلى فلسطين حتى تصبح إسرائيل، لا زلت أشفق على رؤفين وأنا أقرأ تعليقات مناهضة للمسلسل فقط لأنه يتحدث بشكل "أكثر احتراما" ليهود دفعوا ثمن تطرف أتباع ديانتهم، وتطرف مواطنيهم من المسلمين. * مستشارة في الإعلام والتدريب