أضحى شهر رمضان بلا منازع شهر ترويج البضائع بامتياز( الغذائية والفنية ( ولعل أخطر هذه البضائع الفنية ما تعرضه القنوات التلفزية المغربية عند كل رمضان، من سلسلات فكاهية .ومهما تكن خطورة هذه البضاعة وهي خطورة ثابثة ومؤكدة في أغلب الأعمال ، فإن حاجتنا أكثر من أي وقت مضى إلى نيابة عامة فنية وثقافية وإعلامية تعيد أمر البرمجة الفنية الخاصة بالكوميديا سواء في شهر رمضان أو غيره من الشهور إلى نصابه. فما معنى مثلا أن تحول القنوات التلفزية شهرا بكامله إلى سوق كوميدي خال من كل تطور ومثير .ففي الوقت الذي ينتظر فيه المغاربة فكاهة مغربية جديدة وشائقة تخفف عنهم ضغوطات اليومي وترفه عنهم وترفع من أذواقهم وأذواق أبنائهم علما أن الفن هو تربية ذوق أولا ، يُصعقون بفكاهة يعجز أصحابها عن تجاوز نمطيتهم ، فكل واحد يطمح أن يكون وحده معتقدا أنه يحرز سبقا أو يحقق نصرا فنيا رغم أن الحقيقة الفنية الكوميدية ليست بهذا المستوى من السهولة واليسر. فالفن الكوميدي الناضج يتطور مع الحياة ، ولا يكون تجنسه وانتسابه إلى عالم الفن و المسرح على أساس الإستنساخ والإضحاك فقط بل يكون أيضا فنا مفكرا فيه ، يقتفي فيه الفنان خطى الكبار في هذا المجال ، بتوسيع فاعليته وتجديد صيرورته. فَعلام سنُلام إذا انتقدنا الكوميديا المغربية التي لا تساهم في إخراج المغرب من ليل التخلف والأمية المعطلة لكل نمو ؟ ألسنا قادرين اليوم على إنتاج كوميديا مغربية رصينة وهادفة بوجوه جديدة سامية الفكر ، راقية الأسلوب ، تمتح من معين الواقع لغة فنية جميلة وبسيطة يفهمها كل المغاربة؟ فالتفكير أو الإنشغال بفكرة إضحاك الناس منذ البداية ، من خلال اللعب بالكلمات وعجنها عجنا ها العروبي /ها الفاسي/ها الشلح/ها الجبلي /ها المجذوب /ها المعتوه/تقنية متجاوزة لا تصنع متفرجا إيجابيا ، بل متفرجا سلبيا يحمل بذرة المحاكاة التي تلغي فيه بشكل حتمي دوره الحقيقي من حيث ارتباطه بأبعاد العملية الإبداعية ككل. وهذا يقودنا إلى الإعتراف بأن المشاهد الكوميدية الناجحة هي تلك التي لا تربط الممثل الكوميدي بتصورات جاهزة للإضحاك ، بل تدع أدوات الفن الكوميدي الإيصالية لديه من كلام وحركات وإيماءات مفتوحة في عملية خض وضخ لا تنتهي لإضحاك المتفرج أولا ،ولترسيخ المعنى القوي لديه ثانيا.أما أن يبقى الإضحاك والضحك بلا معنى ولاىهدف فذلك إلهاء وتسطيح وتدجين. إن التحولات الحياتية التي تجابه الإنسان المغربي في كثير من الميادين تحتم على الممثل الكوميدي اللبق تجديد رؤيته وأدواته و تحديد موقفه تجاهها بصراحة بعيدا عن التهريج وطمس الحقائق وجعل الكوميديا أداة تضليل وتعتيم وهي في أصلها ومنشئها أداة تهذيب وتشذيب وصقل لحاسة النقد الجماعية ورافعة لمنسوب الوعي وليس منسوب الضحالة من أجل تطهير النفس ومواجهة الأعباء وتحريك الهمم لتجاوز الأخطاء والعيوب لا تكريسها في الواقع من جديد .كوميديا تشاكس وتمارس حق نقد الواقع العام وتعريته بلباقة وحس فني راق دون الإكتفاء بلعبة التقية والإختفاء خلف العديد من الأقنعة و اللعب فوق الحبال والمتاجرة بمعاناة الناس ومآسي المحرومين والمقموعين ومغازلة المخزن والدق على أبوابه مطية للإثارة واكتساب الشهرة والمال . إن رسالة الفنان لا تقف عند منتصف الطريق ولا تقنع بأنصاف الحلول على مستوى الرؤى والقضايا الفنية الكبيرة ، بل تتعداه إلى النبش في المستور والمسكوت عنه ووضع المجتمع أمام حقائقه الحلوة والمرة، بما يسمح به سقف الحريات في بلد مايزال الفرد فيه يبيع القرد ويضحك على من اشتراه.، وإلا سنعيد إلى حلبة الفكاهة ما هو متداول مريض في المجتمع والأسر و..و..و..من نفاق وجبن وضحك على الدقون . فليس يخفى على العارفين بكواليس العمل الفني في بلادنا ما يحدث من تردد المخرجين والمؤلفين والممثلين والمسؤولين أمام هذا الإختيار الصعب الذي يؤكد قدسية العمل الفني وقضاياه مما يساعد على فهم أدواره .فكم من كوميدي تجرأ حقا وحاول بلسانه وحركاته وسكناته أن يحرك المياه الراكدة واعترف أن في أعماقها مياها غير صافية وأحلاما عكرة لم يتوقع وجودها أحد.!!؟ نقول هذا ليس إقلالا من شأن الكوميديين المغاربة وإنما إنصافا لمن وقفوا يوما أمام الكاميرا أو خشبة المسرح أمام الجمهور ثم اختفوا عنا ، ربما نبشوا بين الفواصل ، ربما تجاوزوا الخطوط الحمراء ربما ماتوا غبنا أو يموتون الآن بالتقسيط ،فضاعت أصداء أصواتهم الصادقة والجميلة وسط هذا النهيق . حقيقة إن أجيالا من الممثلين الكوميديين المغاربة سواء القدماء أو الجدد بحاجة إلى مداخيل مادية ، مثل جميع الناس فالفن والبؤس لا يلتقيان .نحن نتفهم واقع الممثل الكوميدي وصراعه مع البطالة الفنية ، فهو في حاجة إلى وضعية اعتبارية مثل زملائه لذلك نجده يتخذ من الإشهار من حين لآخر وسيلة للرفع من مدخوله وترقيع مصاريفه ، لكن هذا لا يشفع له أن يفرغ رسالته الفنية النبيلة من محتواها ويفقد شخصيته وهيبته كفنان له مكانته ودوره وصوته وحقوقه وواجباته ويقبل على أعمال تحث على المضي قدما نحو المزيد من الضحالة والتهريج والإنبطاح. فأسوأ عرض فكاهي يمكن أن يقدمه ممثل في تاريخه هو ذلك العرض الفني الذي لا يشبع نهمه الفني ولا يجد فيه ذاته و لا يستشف من ثناياه الواقع الذي يعيش فيه فيكون بهذا عبارة عن هيكل مفرغ من كينونته وجوهره ، مجرد شبح أو ببغاء أو روبوه مشحون ومبرمج مقحم في تجربة فنية بلهاء يتحرك ويتكلم في عالمها بدون إرادته يطبق التعاليم بشكل روتيني وبليد فاقدا لكل لذة فنية خاصة تساعده على الشعور بذاته كفنان قادر رغم كل المثبطات الذاتية والموضوعية على إيصال الفكرة الكوميدية إلى منتهاها . الواقع بمفارقاته العجيبة ومشاهده اليومية المضحكة والمبكية المتجددة باستمرار ، ظل عبر التاريخ أحسن كوميدي صادق ومخلص وشفاف وجريء ، يعرض علينا جميعا مشاهده اليومية المضحكة والمبكية في آن بلا إخراج ولا ماكياج ، لذلك لم يعد مقبولا منا نحن الفنانين الكوميديين أن نمتاح من هذا الواقع مشاهدنا ومواقفنا وافكارنا الفكاهية ثم نخونه الخيانة العظمى بأن نبقى أمامه مجرد نقالين ناسخين بل وماسخين في الكثير من الأحيان ، بالكاد نخرج الضحكة الصادقة المجلجلة الهتوك من شعاب الصدور والقلوب المكلومة ، بالكاد نقيم مشهدا كوميديا قياميا محتدما محترما متكاملا في مكوناته وعناصره وأهدافه يهز المجتمع من رقاده وهو باسم ضاحك. الواقع المغربي خزان زاخر بالمفارقات والمواقف المثيرة للضحك كما للبكاء ، في الطرقات ،في الأسواق، في المقاهي، في الحانات ، في المحاكم ،في المقابر ،في الملاعب في المستعجلات ، في الطوبيسات، في الأستوديوهات، في الحمامات ،في البرلمانات والمجالس ..في المعاملات في العمارات..في الحواضر كما في العروبيات مشاهد ومواقف مركبة تغري ..في الحلم كما في اليقظة .. مشاهد ومواقف تنتظر عينا واعية ذكية كي تلتقطها من سياقها وتيارها الجارف طازجة ، تنقلها من طبيعتها العفوية الأولى تنفض عنها ما علق بها من غبار أوغلظة ثم تلبسها عناصرها الفنية القشيبة بمزيد من الحذق و الوعي والكشف والتنوير والنقد. إن رياح التغيير التي هبت على بلادنا إن سلبا أو إيجابا خلال العقدين الأخيرين من حق المواطن أن يجدلها صدى في الأعمال الكوميدية ولو بنسبة قليلة، لا لتسويقها وتعليق غسيلها أمام المتفرج فقط ، وإنما لتوثيقها و لمساءلتها فنيا وكوميديا .فكثيرة هي الأحداث السياسية والإجتماعية والثقافية والفنية والطبيعية التي تتوفر على مخزون كوميدي وتراجيدي رائع وشيق ، أين هي في مسلسلاتنا وأفلامنا بالشكل الذي يوقظ في المتفرج الإحساس بمعنى ما وقع من وجهة نظر فنية كوميدية ؟! فإذا كان المؤرخون يدونون لريشتهم ومدادهم ما وقع فالفنان أو الأديب أو الشاعر أو الرسام يفسر بصوره وألوانه ونبرات صوته وإيماءات وجهه معنى ما وقع .و اللافت للنظر أن فن الكوميديا عندنا لا يمد يده الطولى إلى هذه الأحداث رغم غناها الفني قصد سبر أغوارها وضبطها و تأهيلها واستثمارها فنيا ، مما يعطي المتتبعين للشأن الفني في بلادنا عموما الإنطباع بأن هذه الكوميديا ربما لا تتحرك ولا تعمل رغم هامش الحرية إلا بتعاليم ذاتية صرفة صارمة قامعة طامعة هي على خطى تلميذنا النجيب والمهذب والذكي الذي يداعب و لا يشاغب طمعا في نقطة السلوك التي تؤهله كي يكون على لا ئحة المدعمين إداريا و المزدردين ماليا . حقيقة أن لكل جيل فني سلطته وذوقه وزاوية رؤاه للأمور يدافع عنها في سبيل الحفاظ على قناعاته وكينونته ، وهذا جزء طبيعي من الصراع الفني بين الأجيال ،سواء في الكوميديا أو التراجيديا أو الميلودراما إلى غير ذلك من أشكال التمثيل والفن المسرحي ، لكن الملاينة المبالغ فيها في الفن كسلطة لها كلمتها في الكثير من الأمور العامة والخاصة ،كافية لتحطيم ماىتبقى من صرح هذا المنحة الإلهية والعطاء الرباني ، الفن العظيم بأبهته وعزه الذي ساهم ويساهم في تعظيم الإنسان وتكريمه و تحطيم كل العقد والأسلاك التي تكبح من اجتهاده وحريته وتقدمه في هذه الحياة.. صحيح أن ممثلينا الكوميديين ليسوا قطيع غنم أو جوقة من الببغاوات لا تفقه هذا ، كما أننا أمام مستويات من الكوميديا في المغرب فهناك الكوميديا المجلجلة المتواطئة والهجينة التي تدافع من حيث تدري أو لا تدري عن الفن السوقي الذي يسري سريان السم في الأوصال(الجمهور عايز كده)، يصبح السكوت عنها تواطؤا يبعث على الخجل . وهناك الكوميديا التكتيكية المخادعة التي تلعب بذكاء على الحبلين، أي ترضي انتظارات الجمهور "الواعي والمثقف" تنتقد السلطة وتناوش المسؤولين وتطرح قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية بأسلوب جديد وعصري لكنها مع ذلك تهرب من الدخول في حوار صادم مع هذا الواقع ولا تحدوها الرغبة الملحة في تفجير دماميله وأورامه و فك طلاسمه وفق رؤية فنية وجمالية صارمة حفاظا على تواجدها في الساحة، تسير على ضوء المثل المغربي القائل اللهم عمش ولا عور..ومع ذلك فسنظل نحترم اختيارات الفنانين الكوميدين في بلادنا كما سنظل نحن أيضا نهمس لهم في أذانهم بكامل اللباقة والجدية كذلك أضحكونا من فضلكم ولا تضحكوا علينا ..