بسم الله الرحمن الرحيم قبل تتمّة المقالة قرأت بعضَ الرسائل التي وصلتني من القرّاء، فوجدت معظَهما يشترك، أولا، في الحكمِ على كلامي قبل أن أتمّه، بل من هؤلاء القرّاء من ذهب بعيدا في التأويل والرجم والغيب، وكان ينبغي على القارئ الكريم أن يصبر حتى أنتهيَ من بسط ما عندي في الموضوع، ليكونَ لحكمه معنىً، ولانتقاداته، كيفما كانت، مسوّغ. ووجدتها، في معظمها، تشترك، ثانيا، في الربط الآلي المجاني بين أفكار الكاتب وٍآرائه وخصوصية وِجهة نظره في التصور والتحليل والعرض، وبين جماعة العدل والإحسان، ومن ثم، وحسبَ هذا الرّبط والخلط غير المبرّر، فليس هناك كاتبٌ له رأيٌ ورؤية وخصوصية، وإنما هناك فقط كيانٌ سياسي فكري اسمُه جماعة العدل والإحسان. وفي هذا الخلط ما فيه من الظلم والبعدِ عن القراءة المنصفة والنقد المفيد. وثالثا، وجدتها، في غالبيتها، تشترك في الانطلاق من أحكام مسبقة، ومعطيات مُحرَّفة، وتصورات مُشوَّهَة، عن جماعة العدل والإحسان، وهي أحكام مستقاة، في معظمها، من الأباطيل والتلفيقات المُجرِّحة، التي تُروِّج لها كثير من الجهات، التي لا تتردد في التصريح بما تُكنه للجماعة من العداوة والبغضاء. ولمَ كلُّ هذا العداء والتحامل والظلمِ السافرِ؟ لماذا كلُّ هذه الدعاية الكاذبة الفاجرة تجاه اختيار يخالف اختيارَك، ورؤية تناقض رؤيتَك، وذوق يُعارض ذوقَك؟ أأصبح النظامُ المخزنيّ عندنا، وهو نظامٌ سياسيّ بشري كسائر الأنظمة، مقدّسا إلى هذه الدرجة، حتى بات كلُّ من يجرؤ على انتقاده، أو طرح شرعيّته للنّقاش، أو معاملتِه على أنه اجتهاد سياسيّ بشريّ قابلٌ، مثلُه مثلُ سائر الاجتهادات البشرية، للمراجعة والنقد والنقض، مُعَرَّضا لأن يُسْلك في المغضوب عليهم، الذين يستحقّون أن يَنزلَ بهم أشدُّ أنواع العقاب؟؟ ماذا عند مُعارضِي النظام المخزنيّ غيرُ الفكرِ والرأي والاجتهاد في النظر؟ وماذا عند المخزن وتوابِعه للذين يُعارضونه بالفكر والرأي والاجتهاد غيرُ القمع والمنع والسجن والحصار وترويجُ الأباطيل؟ لماذا كلّ هذا الحضيض في الخصومة؟ وأما رسائلُ الرداءة والبذاءة والسفالة، فإني أقول لأصحابها: "تشرّفت بمعرفتكم"!! وأمُرّ مُعْرضا غيرَ آبِهٍ ولا مُلتفت، والأسفُ والحسرةُ يعتصراني من جرّاء هذا المستوى الذي ترّدت فيه أخلاقُ بعضِ القراء وكثير من المُعلّقين. وإلى تتمّة المقالة. في الدساتير الممنوحة وترميمها أما الدساتيرُ الممنوحة في ظلّ أنظمة العض والجبر، وكذلك التعديلاتُ التي تُجرَى عليها، بحكم ضغط الضرورة مرة، أو فقط بحسب هوى الحاكم ومزاجه مرات، فلا يَذكرُها الأستاذُ ياسين إلا في سياق النقد وإدانة التزوير والتدليس، وسياقِ فضحِ مسرحية "الديمقراطية الجبرية"، التي تكرّس الاستبدادَ، بل تمدحه وترعاه، وتسعى من أجل تحسين صورته وإطالة عمره. هذا الدستورُ الذي يصنعه الحاكمُ المستبد على قدّه، يقدّسُ فيه نفسَه، ويضعُها فوق المؤسسات والقوانين لا تصلها يدُ النقد والمراجعة والمحاسبة- هذا الدستورُ يصفه الأستاذ ياسين في كتاباته مرة بأنه "الدستور الوطني الوثني"(الإحسان،ج2، ص447، الطبعة1،1998)، ومرة بأنه "الدستور المنافق"(الشورى والديمقراطية، ص119،ط1، 1996)، وثالثةً بأنه "الدستور الشكلي"(العدل، ص617)، ورابعةً بأنه "الدستور السلطاني"(العدل، ص617). وكلّ هذه الأوصاف إنما مردّها إلى موصوف واحد هو نقيضُ الرضا والاختيار الحرّ والعدل والشورى، هو السيفُ الذي يفرضُ إرادةَ الحاكم المستبد. والأستاذ ياسينُ يقصد الدستورَ المغربيَّ الممنوحَ حينما يقول: "الدستور الشكليّ يقول في فصله السادس: الإسلام دين الدولة. ويقول في فصله السابع: شعار الدولة: الله، الوطن، الملك. ثالوث. أفي الإسلام أنا أم في الشرك؟ الديمقراطية على الأقل واضحة، ولا تقول كما يقول الدستور السلطاني: كلمة الملك وتوجيهُه قانونٌ لا يناقش...)(العدل، ص617) والأستاذُ ياسين يرفضُ أيضا ما يتمناه بعضُ "الفضلاء الديمقراطيين" من إصلاحات دستورية تكون عبارة عن ترميماتٍ ومراجعات شكليةٍ في هذا الفصل أو ذاك من غير مَسّ جوهر الاستبداد، ولا اقترابٍ من جرثومة الداء العضال؛ يقول الأستاذ ياسين في "مذكرة إلى من يهمه الأمر"(ص12-13 من النسخة العربية): "أما الدستور الممنوح والمُرمّمُ بين الفينة والأخرى، حسب ما استجد من ذوقٍ أو هوىً، فليس سوى صيغة حديثة للفرمان الإمبراطوري التقليدي. وهكذا، بحكم الدم الذي يجري في عروقي[يقول الأستاذ ياسين على لسان الإمبراطور المستبد] والإنجاز العظيم الذي حققته حين تفضّلْتُ على الناس ببروزي للوجود مولودا مقدسا، ليَ الحقُّ في أن أتحكم في مصائر العباد، وأن لا يكون خلاصُهم إلا على يدَيّ !!". ومما انتقده الأستاذُ عبد السلام ياسين على الفضلاء الديمقراطيين الذين خاطبهم في كتابه "حوار مع الفضلاء الديمقراطيين"(ط1، 1994)، انغماسُهم في الهموم السياسية الآنية، ومنها همُّ المطالبة بمراجعة الدستور، ومن ثم فاتَهُم أن يفهموا دعوةَ الرجل لهم لبناء جسور مع المستقبل، بل لاتخاذ عهد مع الله.(الشورى والديمقراطية، ص31، ط1، 1996). فخطاب الأستاذ ياسين واضحٌ في شأن موضوع الإصلاحات الدستورية، لأنها لا تُغير من واقع أنظمة الجور شيئا، بل إن هذه الإصلاحاتِ قد تُزكي وجود هذه الأنظمة، وبفعل تطبيل الإعلام التابع وتزميره، فضلا عن سكوت الأحزاب المشاركة عن أصل داء العض والجبر، قد تُضفي عليها من المصداقية والشرعية، ما يرسّخُها ويُرسخ معها سلطانَ السيف والعَسْف. وما تزال الجماعة ترى أن لا طائلَ يُرجَى من وراء المراهنة على الإصلاحات الدستورية "الشكلية"، التي لا تكون محكومة بإرادة سياسية حقيقية وصادقة للإصلاح والتغيير. وقد مرّ بنا في الجزء الأول من هذه المقالة كلامٌ واضح في هذا الصدد للأستاذ فتح الله أرسلان، في الاستجواب الذي أجرته معه أسبوعية "المشعل" المغربية، في يوليوز2006. استيعاب درس إيران!... نعم، قد تكون هذه المراجعاتُ الدستورية موضعَ ترحيب ومناقشة إن هي أدت، في فترة انتقالية، إلى الحدّ من سلطة الاستبداد، وتقوية جانب ممثّلي الأمة، والتوسيع من صلاحيات المؤسسات المنتخَبة، إلى آخر المزايا التي جناها، مثلا، مناهضو نظام شاه إيران الاستبدادي بفرض دستور 1906، الّذي قيّد صلاحيّات الشاه، ونصّ، من بين أحكامه، على حقّ العلماء المجتهدين في مراقبة القوانين. قال الأستاذُ ياسين في كتاب "المنهاج النبوي"(ص380، ط3، 1994): "منذ سنة 1906 ميلادية استطاع علماءُ المسلمين في إيران فرضَ دستور يحد من تسلّط الملكية. كان وراءهم تاريخٌ مجيد من مقاومة العلماء للحكام. فكان الدستور تتويجا مرحليا لذلك التاريخ. قبِل العلماءُ تقييدَ الحكم اللاشرعي بالدستور لأنه خطوة... نرى أن مستقبل الإسلام رهين باستيعابنا لدرس إيران...". "كان الدستور تتويجا مرحليا..."، و"مستقبل الإسلام رهين باستيعابنا لدرس إيران"؛ ماذا يمكن أن نفهم من مثل هذه العبارات في كلام الأستاذ ياسين؟ أيجوز أن نفهمَ أن الرجل مع تعديلاتٍ دستورية "مرحلية"، بشرط أن تكون فاتلةً في حبل "اختيار القومة"، وفاتحةً المجالَ أمام الإسلاميين للمشاركة النشيطة للتعريف بالدعوة والاستفادة من كل الوسائل المتاحة لتبليغ خطابها إلى الناس، وكسبِ تعاطفهم وفتح أعينهم وتهيئتهم وتعبئتِهم ليكونوا، في الغد القريب، أنصارا للمشروع الإسلامي، وجنودا للقومة الإسلامية المنتظرة؟ ماذا يعني الأستاذُ ياسين بِ"درس إيران"؟ وما معنى رهْنِه لمستقبل الإسلام باستيعابنا لهذا الدرس؟ وما هي صورة هذا الاستيعاب وحدودُه؟ أعتقد أن هذه الأسئلةَ وأمثالَها تفرض نفسَها فرضا، لأن كلامَ الأستاذ ياسين، ولو في جزئية صغيرة من الجزئيات- حسب ما خبَرته من معرفتي الطويلة بكتابات الرجل- لا يمكن أن يقع فيه حشوٌ يسهل إهمالُه وتجاوزه، بل إن وراء ما يخطّه قلمُ الرجل معنى وقصدا مُحددا، وخاصة إن تعلق الأمر بكلام ذي بال، كالكلام على مستقبل الإسلام. تذكير قبل أن أحاول الجواب عن بعض الأسئلة التي طرحتها قبل قليل، أريد أن أذّكر ببعض الأمور التي ستكون بمثابة المقدّمات للإجابات المطلوبة. الأصلُ في الاختيار السياسي الاستراتيجي لجماعة العدل والإحسان، كما هو مبسوطٌ في كتاب "المنهاج النبوي"، هو السعيُ، تربية وتنظيما وتسللا لطيفا وتغلْغلا في الشعب، من أجل القيام على نظام الجور، وإقامة نظام العدل والشورى، خطوةً أولى على طريق السير نحو الخلافة الثانية على منهاج النبوة، حسب فهم الأستاذ ياسين وفقهه لحديث الخلافة، الذي يعدّ العمود الأساس في بناء المنهاج السياسي للجماعة. وللتذكير، فإن حديث الخلافة المشار إليه هو الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن النعمان بن بشير، رضي الله عنه، وفيه أن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عيه وسلم: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضّا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريّة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت...). وقد أحاطت بميلاد أصل المنهاج السياسي للجماعة، كما بيّنت في مقالة سابقة، ظروفٌ إقليمية وعالمية- وخاصة في السبعينيّات من القرن الماضي- كانت فيها ثقافةُ الثوراتُ الجذرية شائعةً ومقبولة، بل ومعشوقة إلى حدّ كبير، وإلى جانبها، إلى حدّ ما، ثقافةُ الانقلابات العسكرية. أما اليوم، فقد تغيرت أمورٌ كثيرة منذ كتابة منهاج الجماعة قبل أكثرَ من ثلاثين سنة. ومنطقُ الأشياء يقتضي ألا تظل الاجتهاداتُ جامدة لا تتحرك، وألا تظل المواقفُ، التي كانت في الماضي محكومة بظروفها وأحوال واقِفيها، مشدودةً إلى الوراء، غيرَ مستوعبة للمستجدّات والمتغيّرات، ولا متجاوبة مع التحولات والتطورات. وقد سَمّى الأستاذ ياسين، من بين سُبل الوصول إلى الحكم الإسلامي القطري، سبيلَ الثورة الشعبية العامة أو القَوْمة، وسبيلَ الانقلاب العسكري، وسبيلَ الانتخابات. وأعتقد أن طريق القوْمة، إن كان ما يزال اليومَ صالحا للسير فيه، فإنه طريق طويلٌ يظهر أن نهايتَه بعيدة، وقد يكون بلا نهاية. واعتقادي هذا مردّه إلى ثلاثة أسباب: أولها القمعُ المخزني الطاحنُ والظروفُ الدولية المواتية التي تُسانده وترعاه، وثانيها المعارضةُ الضعيفة بانقساماتها واختلافاتها وتناقضاتها وعداواتها وخصوماتها، وثالثُها الشروط التربوية والتنظيمية الداخلية، التي قد لا تقوى مع الأيام على التكيّف مع واقع الاستنزاف والظلم والعدوان. وقد أَرجعُ إلى هذا الموضوع بشيء من التفصيل في مقالة مستقلة إن شاء الله ويسّرَ. أما الاختيارُ الانقلابي، فقد كان، في الماضي، طريقا سالكا إلى الثورات، وكان مقبولا في عالم تطحنه رحى الحرب الباردة بين المعسكرين العظيمين، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدةالأمريكية. أما في عالم اليوم، فلم تعد الانقلابات العسكرية مقبولة ولا منظورا إليها بعين الرضا، بل أصبح أصحابُها، إلا فيما نَدَر، منبوذين، وقد يُساقون، بعد زمن قصير في السلطة، أمام المحاكم المحلية أو الدولية بتهم "الخيانة العظمى" أو "الإبادة الجماعة" أو "جرائم الحرب" أو غيرها من التهم. ثم إن أسلوب الانقلابات، وهو أسلوب قائم، في شكله ومضمونه، على العنف والتسلط والإكراه، يتعارض كليا مع مبادئ الشورى والتراضي والاختيار الحر، التي يسعى المشروع السياسي الإسلامي إلى تحقيقها. يُضاف إلى هذا كلّه أن النظام المغربي بات محصنا جدّا ضد الانقلابات العسكرية بعد التجربتين اللتين مرّ بهما، إذ أصبحت المؤسسة العسكرية خاضعة لمراقبة صارمة، وأصبح ولاؤها للنظام الملكي مُتوطِّدا ومُترَسِّخا بشكل أكبر وأعمق. وقد قلت في مناسبة سابقة وأكرر هنا أنه مهما يكن تعليلُنا لذكر أسلوب الانقلاب من بين أساليب الوصول إلى الحكم، فإن المشهور والمعروف من كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين أن الرجلَ كان، وما يزال، من أشد الناس اعتراضا على الأسلوب الانقلابي، ومن أكثرهم انتقادا للعقلية الانقلابية، وخاصة في نموذجيها الكالحين الدمويين الفاشلين، القومي والشيوعي. يشهد على هذا كلامُ الرجل الطويل في كتاباته الكثيرة. يُراجَع في هذا الموضوع خصوصا، وفي موضوع الاختيار السياسي الاستراتيجي للجماعة العدل والإحسان عموما، ما كتبْتُه في المقالات الثلاث التي ناقشت فيها بعضَ أفكار وآراء الدكتور محمد ضريف في شأن جماعة العدل والإحسان، والتي حملت عنوان "آراء شاذة لباحث متخصص"، وهي منشورة في الشبكة. إذن، لم يبقَ إلا طريقُ الانتخابات، إن نحن قبلنا، متيَقِّنِين جازِمين أو مُتردِّدين متحفِّظين، بأن طريقَيْ القوْمة والانقلاب العسكري لم يعودا سالِكَيْن للوصول إلى الحكم. عودة إلى الدرس الإيراني وأرجع الآن إلى الأسئلة التي طرحتها في نهاية الفقرة أعلاه "استيعاب درس إيران...!"، والتي تتعلق بكلام الأستاذ عبد السلام ياسين، الذي جعلَ فيه مستقبلَ الإسلام رهينا باستيعابنا للدرس الإيراني. وأذكّر أن الحديثَ عن إيران هنا يشمل الفترة الممتدة من بداية القرن العشرين(1906) إلى (1979) تاريخ نجاح الثورة الإسلامية بزعامة الإمام الخميني؛ ففي 1906 استطاع علماء الشيعة أن يتحالفوا مع السياسيين المعارضين لحكم الشاه الاستبدادي، وأن يفرضوا وضعَ دستور يقيِّد سلطات الشاه (مظفر الدين) المطلقةَ، ويُعطي للعلماء المجتهدين حقَّ الرقابة الدينية على القوانين. أنا لا أزعم هنا أني أملك الجواب الشافيَ الكافيَ القاطع عن الأسئلة التي طرحتها بخصوص ما يقصده الأستاذ ياسين بالدرس الإيراني، ولن يخرج ما أقوله عن دائرة الرأي والتقدير والاستنتاج، حسب رصيدي من الفهم والتتبع والاطلاع. يمكننا أن نقرأ هذا الدرسَ الإيرانيَّ من خلال عدة عناوين، بل يمكننا أن نذهب بعيدا في التأويل السياسي في قراءة هذا الدرس، لكن سياقَ هذه المقالة لا يسمح بالكلام التفصيلي، ولهذا سأكتفي بالإشارة، في عبارات موجزة، إلى بعض العناوين. العنوان الأول في هذا الدرس الإيراني، وأؤكد مرة أخرى، حسبَ فهمي وتقديري واستنتاجي دائما، هو أن علماء الدعوة يشكلون عنصرا حيويا وعاملا أساسيا وحاسما في قيادة الحركات الشعبية إلى النجاح. والعنوان الثاني هو أن تحالف الإسلاميين مع غيرهم من السياسيين من التيارات الأخرى قد يكون ضروريا حينما يكون الهدف هو المصلحة العامة الكبرى مُمَثَّلَةً في إحقاق حقِّ الشورى والعدل وحرية الرأي والتعبير والتنظيم، وإزهاقِ باطلِ الظلم والاستبداد وسلبِ الحقوق وقمعِ الحريات. والعنوانُ الثالث في هذا الدرس الإيراني، هو جوازُ القبول بأهون الشّرين، والعملِ، مرحليا، في ظل نظام استبدادي على أن تكون فيه سلطاتُ الحاكم مقيّدةً بدستور مكتوب. والعنوان الرابع، وهو من عائلة العنوان السابق، هو أن الضرورات قد تبيح التعايش مع المحظورات إلى حين، ومن ثم فلا مانع، في فترة انتقالية، أن يتم القبولُ بأوضاع ناقصة ريثما تنضج الشروط اللازمة لأوضاع مرضية. والضرورات، كما يقول الأصوليون، تقدر بقدرها. والعنوان الخامس هو ترجمة للعنوانين الثالث والرابع إلى الحالة المغربية؛ فربطُ المشاركةِ، في ظل النظام القائم، بتوافر جميع الشروط اللازمة لهذه المشاركة ليس هو دائما الاختيارَ الصحيحَ في العمل السياسي، بل قد تكون المشاركةُ في شروط غير مكتملة اختيارا صحيحا أيضا. وبعد، فإني أرى هذه العنواناتِ التي استنبطتُها من حديث الأستاذ ياسين عن الدرس الإيراني تتقاطع في كثير من مراميها وإيحاءاتها مع جزء كبير من مطالب "الملكيين البرلمانيين" عندنا، الذين يمثلهم خيرَ تمثيل في الأحزاب السياسية "الحزبُ الاشتراكي الموحد"، الذي نشر سنة2006 وثيقة مرجعية مفصلة بهذا الشأن. هذا الرأيُ الذي أراه الآن قد يكون فَطِيرا ومحتاجا إلى بعض تمحيص ونقاش لتَخْمِيره. لكن الأمر الذي أرى أن كثيرا من العقلاء والفضلاء يُجمعون عليه هو أن السعيَ من أجل نظام "ملكية برلمانية"، يسود فيه الملكُ بصلاحيات محددة وسلطات مقيّدة، قد يكون في الوقت الراهن اختيارا وسطا محمودا بين نظامٍ مخزني متطرف وبين معارضات ثورية جذرية. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. [email protected] http://majdoub-abdelali.maktoobblog.com