لكل شيء اذا ما تم نقصان فلا يغرن بطيب العيش إنسان هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان هكذا علق أبو البقاء الرندي وهو يرى تلك الحضارة الموريسكية العظيمة، تذوب كالشمع تحت لهيب الحقد الكنسي. وحينما لفظ الشعر العربي أنفاسه و أنّ تحت دياجير التخلف والتصنّع، لم يجد النقاد وصفا ل"ديوان العرب" أبلغ من أنه أصبح "جسدا بلا روح". واليوم ونحن نراقب من شواطئ الغربة أحوال مغربنا الحبيب وما فعل به "قواد السياسة" (جمع قائد)، فلا نملك إلا أن نتضرع إلى الواحد الأحد بالقول: اللهم اجعلها "سفاهة" عابرة، واجعل هؤلاء القواد آخر البلاء الذي لا نملك إلا أن نصبر عليه. لم يجد شعراء البعث والإحياء حلا سوى الارتماء في أحضان الشعر الجاهلي، ومحاكات فطاحل الشعر، ولا نملك في هذا المقام إلا العض بالنواجد على سير القادة السياسيين الذين لم يبتغوا من السياسة سوى "الأجر" (بمعنى الحسنات)، كما قال يوما الأستاذ الجليل محمد جسوس رحمه الله. ولا عزاء لنا أمام هذه الأخلاق النتنة و الدخيلة على السياسة المغربية، إلا العودة إلى الماضي القريب جدا، والتعلم من أهرامات السياسة والفكر. وما أحوجنا للأخلاق في حقل السياسة، وما أحوجنا لبريق الأمل. ففي "الليلة الظلماء يفتقد البدر". استوقفتني شهادة الأستاذ المجاهد عبد الرحمان اليوسفي -أطال الله عمره- في حق الدكتور محمد عابد الجابري رحمه الله، و التي أدلى بها للجزيرة الوثائقية، ثم تلك التي خص بها "العربي الجديد". مما دفعني للعودة للحوار الصحفي الذي خص به الدكتور محمد عابد الجابري رحمه الله القناة الثانية في أكتوبر 2000 -أي قبل خمسة عشر سنة من الآن، وبعد سنتين ونيف من حكومة التناوب المجهض- لأستمتع بالزمن الجميل. لكن وأنا أغوص بين ما سطره هذان الجبلان الشامخان من حكم وعبر لأولي الألباب، وبين ما جاد به "السيرك" شعرت وكأنني أقارن معلقة امرئ القيس بمفرقعة"عطيني صاكي بغيت نماكي". فأي لعنة حلت بنسيجنا الاجتماعي ليُستأمن القواد (جمع قائد) على مصيرنا؟ بين تلك الشهادة الصادقة، وبين ذلك الحوار الشيق، خلصت إلى أن للكبار لغتهم الخاصة، وأسلوبهم الخاص، وتربيتهم الخاصة. وأن الكبار لا يرفعون صوتهم، أو ينفعلون وإنما يرفعون سقف أفكارهم بكل أدب وتواضع. فهم لا يحتاجون للسباب ولا التجريح، ولا تَتَبُّع الأعراض، ولا أي من هذه الأساليب التي يتحفنا بها القواد(جمع قائد) الآن تحت قبة "السيرك" عفوا البرلمان. 1 حفظ الأسرار. يقول الدكتور محمد عابد الجابري رحمه الله مجيبا عن المآل الديموقراطي في المغرب:" يجب أن تتوفر الإرادة، وأعتقد أنها متوفرة. واعتقادي مبني على حدوس، وربما على معلومات . فعندما استدعى المرحوم الحسن الثاني الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي كانت له إرادة الانتقال إلى الديموقراطية...وقد مرت الأمور بصورة حسنة وكانت ستمر بأحسن لو أطال الله في عمره مدة أخرى من الزمن..". المحرحوم محمد عابد الجابري، لم يقل بأن اليوسفي حدثه بما دار بينه وبين المرحوم الحسن الثاني، كما لم يقل بأنه يملك معطيات عن أن المسار مرشح للتراجع. لكن هي أمور نفهمها إذا ما ربطناها مع ما قاله الأستاذ المجاهد عبد الرحمان اليوسفي متحدثا عن المرحوم محمد عابد الجابري:" لما كلفت بمهمة، كنت أزوره وأستشيره، واستشرته حتى في بعض أعضاء الحكومة. وسجلت آراءه، فيها ما طبقتها، وفيها ما لم أستطع تطبيقه". أليس في هذا درسا للذي نصب نفسه ناطقا باسم القصر الملكي، وقال بأن المؤسسة الملكية غير راضية عن أسلوب رئيس الحكومة؟ أليس للمجالس حرمة؟ أم هو منطق "حرام عليكم حلال علينا"؟ 2 الالتزام والتماس الأعذار: عندما سئل الدكتور محمد عابد الجابري رحمه الله، عن رأيه في تجميد المكتب الوطني للشبيبة الاتحادية كان جوابه:" يجب أن نفرق ما بين المشاكل الداخلية للأحزاب التي هي قضايا خاصة بكل حزب تعالج داخل الحزب، وتناقش في الهيئات المسؤولة لهذا الحزب، وبين القضايا الوطنية التي تشترك فيها جميع الأحزاب الموجودة. ولذلك فأنا لست مؤهلا لأصدر فتوى فقهية أو سياسية. المشكل الذي طرحته هو مشكل داخلي". صاحب العقل العربي يعرف تماما ما يحدث داخل البيت، ويعرف تماما أنه ترك الحزب ليس لأن "السفينة رست على شاطئ البرلمان" وإنما لأمور أخرى. ولأن ماحدث ليس سوى نتيجة لقصة بدأت منذ أكثر من ثلاثة عقود، فإن المجاهد عبد الرحمان اليوسفي يكمل الصورة:" أنا لاحظت الأيام التي كان فيها يحاول أن يسوي بين الإخوة. حصل له نوع من الخيبة لأنه هو مثلا كان يتقدم باقتراحات توفيقية، ويحاول ربط العلاقات لكن أمام تعصب بعض الأفراد وإلحاحهم في ترضية أنفسهم، فهو أمام هذا الجو الغير الأخوي، فضل أن يقدم استقالته من المكتب السياسي وانعكف في عمله". الجابري رحمه الله سئل عن حزب صاغ تقريره الاديولوجي، وبنا خطه التحريري، وساهم في تكوين جحافل من مناضليه، لكن التزم بعدم التدخل في الشأن الحزبي، والتمس العذر لرفاقه لأن السياسة مجالها "اللاعقلانية" كما يقول. أليس في هذا درسا للذي نهش لحم المهدي بنبركة ميتا، ونهش عرض الشوباني حيا، ونهش تراث السي علال. فلم يعد يفرق ليس بين ماهو حزبي ووطني، بل لم يعد يفرق حتى بين الحرية الشخصية والمسؤولية الوطنية. 3 التواضع و الإيثار: لم يتحدث الاستاذ المجاهد عبد الرحمان اليوسفي عن نفسه، وعندما فعل فإنه فعل ذلك بكثير من التواضع. قال: "عندما كلفت بمهمة" حتى المهمة استعملها نكرة، لم يقل عندما كنت وزيرا أولا، لم يقل عندما جئت لأنقذ المغرب، لم يقل عندما استأمنني الملك الراحل الحسن الثاني على استقرار المملكة. ولكنه قال "مهمة" فقط. المجاهد عبد الرحمان اليوسفي يوثر عن نفسه، ويبخس دوره بكثير من التواضع وهو يتحدث عن دوره في جريدة التحرير حيث يقول:" قررنا اصدار لسان حال الاتحاد جريدة التحريرالتي كان مديرها هو المرحوم المجاهد محمد البصري، وأنا كان لي شرف ممارسة مهمة رئيس التحرير فكاتب التحرير كان هو عابد الجابري". أليس في هذا درس للذي ينصب نفسه صباح مساء صمام الأمان الذي جادت به السماء ذات ربيع على مغربنا؟ فلا ينفك في حَلّه وترحاله "يغني" في مهرجاناته:"اعطيني طني ولا نغني"، ويتوعد كل من ينتقده بالفوضى واللّااستقرار. 4 الأمل والشرعية: لطالما كان ومازال الاتحاد الاشتراكي وصور مناضليه، أنجع طريقة للرفع من المبيعات. ومازال زارعوا الوهم يبشرون بموته. لكن الدكتور محمد عابد الجابري رحمه الله قال عنه:"أنا لاعلم لي بما يقع، أما بالنسبة لمكانة الاتحاد الاشتراكي كحزب وكرصيد وكقوة مستقبلية فأنا متأكد من أنه قوة حية أساسية من القوى الحية في المغرب". أما عن الكتلة التاريخية فيقول: "إذا كانت لدينا شرعية ملكية تاريخية، وهذه مسألة لا تناقش، فإن لدينا أيضا شرعية وطنية تاريخية لا تناقش. وتتمثل في أحزاب الكتلة. وهذه الشرعية الوطنية قوة يجب أن تستغل وهي لم تستنفذ بعد طاقتها". أليس في هذا درسا للذي جثم على تاريخنا، ورمى ببوصلنتا للقاع، ثم أخذ يقفز بنا ذات اليمين وذات اليسار ثم يقدمنا قربانا لآلهة الاستوزار"العالية" ولا يهمه ولا يهم "همته" أن يهوي بنا وبتاريخنا لمكان سحيق؟ ألا يخجل وهو يدفع بأرصدتنا وملاحمنا، مقابل الكرسي؟ أخيرا أقول، وإن يكن قدرنا أن نُبتلى ب"ابن عاق" بنزعة "نيرونية"(نسبة إلى نيرون)،أو "عجلة مثقوبة" تنفخ في وقت معين لتصل إلى محطة معينة ، أو "لحية تيسية" (نسبة إلى التيس) تسبح باليمنى وتصفق للانقلاب باليسرى، أو"أصالة بغير أصول" هوت على رؤوسنا من "قمة عالية". فماهي إلا موجة انحطاط لن يتوقف عندها لا المؤرخون ولا الدارسون، وان فعلوا فحتما سيتوسلون بالكمامات، وقنينات "ماء الورد". واذا جاز أن نقتبس بعضا من رجل يشبههم ويشبهونه إلى حد كبير، فلن نجد غير " من أنتم؟... من أنتم؟". أملي وأمل الكثيرين أنه عندما نرزق بقادة من هامة اليوسفي أو مثقفين من هامة الجابري، أن توضع هذه الحقبة من تاريخ السياسة المغربية، في أكياس بلاستيكية، وتطمر، حتى لا تزكم رائحتها الأجيال القادمة كما تفعل الآن مع الأجيال الصاعدة. [email protected]