ان الاوان كي تتخلص أوروبا من أوهامها. فالاجراءات الأمنية التي اتفق عليها رؤساء الاتحاد الأوروبي في اجتماعهم الاخير يوم الخميس 23 ابريل، لمعالجة مأساة الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط، والتي ذهب ضحيتها 1300 فرد في ظرف أسبوع واحد، لن تبدل كثيرًا من حقيقة الامواج البشرية الهائجة، التي تضرب يوميًا سواحلها.تسعى أوروبا لحماية ديموغرافيتها، وتقدمها ونقاءها، دون أن ترى، أبعد من أرنبة أنفها. هذا لا يعني أن العرب غير مسؤولين عن إذكاء نارجهنم التي تحرق أرواحهم وتفتك بأبنائهم. لكن الغرب كان طرفا نشطًا في نشر الفوضى.التخلص من القذافي بالشكل التدميري الذي اتبع، تسبب بانهيار تام لبنية الدولة الليبية، بصورة لا تختلف كثيرًا عما اقترفته أميركا في العراق، غير أن الانهيار هذه المرة كان مريعا وسريعا. فهل يتكررالمشهد المتنقل من بلد عربي إلى آخر، بمحض الصدفة، أو بفعل الغفلة، لدول بات كل ما فيها حكيما وفطنا، إلا السياسات الخارجية؟ فمسؤولية اوروبا مفصلية في إريتريا ايضا، التي منها يقبل عدد كبير من ممتطي القوارب الانتحارية. فالجميع غض النظرعن النظام هناك، لا بل تم دعمه، قبل الانقلاب عليه. ليس في متناول الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند أمام تعاظم ازمة «قوارب الموت»، إلا أن ينتقد سلفه نيكولا ساركوزي على الدورالسيء والمتسرع الذي لعبه في ليبيا، معتبرًا أن ما ينبغي القيام به الآن هو «إصلاح لأخطاء اقترفت بالأمس».وإن كان في استطاعة الأميركيين أن يغيروا بطائراتهم ثم يحتموا وراء مسافات شاسعة من مياه المحيطات، فإن سواحل جنوب اوروبا على مرمى حجر من شمال افريقيا،وفرنسا ليست بعيدة، بالنسبة لمن ضاقت بهم الحياة واصبح الموت أرحم لهم . حقيقة أن «فرنسا لا تستطيع أن تستقبل كل شقاء العالم»، على ما كان يردد رئيس الوزراء الأسبق ميشال روكار، لكن السياسة المتوسطية التي طالما افتخرت بها ، زاعمة ادراكها لمخاطرزراعة اليأس على الضفة المقابلة لها، ظلت مشوبة بالتسويف والمراوغة.وإن لم تكن فرنسا طرفا وحيدًا في الكارثة، فإن الغرب بغالبيته كان سيء النية، وفاسد الطوية،لا قبل الربيع الليبي، حيث وادع حين اقتضت مصالحه ذلك، ولابعد خراب البلاد . ومن يحمل لواء حقوق الإنسان، وينظّربالمدنية لا يحاسب كمن يقر بأنه في آخر السلم. فلم ينس احد منا بعد صور الفيلسوف الفرنسي ذي النزوعات الصهيونية، برنار هنري ليفي، وهو في ليبيا يبشر بالديمقراطية الآتية، وعندما كان يستعجل التدخل الجوي، لكنه لا يجد مايردده الآن أفضل من عبارة «إن ثمرة الديمقراطية، طعمها مرّ» . «قوارب الموت» ليست حديثة اللحظة. منذ عقود وشباب جنوب المتوسط يموتون غرقًا، وهم يحاولون اقتحام قلاع اوروبا المنيعة .كانت أوروبا تعي جيدًا أن سياساتها الموصومة بالاستغلال الآني البخس، لن تولد سوى المزيد من الشظف والفقر في الضفة المقابلة لها. تزايد عدد الطامعين في بلوغ النعيم الأوروبي ارتفاعه 30 في المائة عن السنة الماضية، غير مفاجئ لأي جهة. ظلت المراهنة، دائمًا، على مناعة الحواجز الحدودية ومناعتها، ظلت المراهنة، دائمًا، على مناعة الحواجز الحدودية ،وصعوبة اختراقها. اكتشف الأثرياء أن اليأس والحاجة يفعلان ما لم يكن في توقعاتهم. تكاثرت شبكات التهريب واكتسبت مهارات جديدة. ليس البحر وحده هو الذي يقذف بأمواج الهاربين من الجحيم، الحدود البرية للاتحاد هي كذلك تخترق من آلاف اللاجئين. وحدها إيطاليا تحملت النصيب الأكبر، والتكلفة الباهضة، وبقية دول الاتحاد الأخرى تحاول التملص والتهرب، وتقتصر مجهوداتها على حماية حدودها البحريةوالتدخل في حالات الطوارئ لإغاثة بعض الغرقى.«وصمة عار» التي تلحق أوروبا أنها تغاضت عن ماساة آلاف الاشخاص الذين ابتلعتهم امواج البحر. لم تكن الجهود على قدر التعهدات ، ولا متطابقة مع شعارات حضارية . بعد طول اعتراض، عزم الاتحاد الاوربي على تخصيص تسعة ملايين اورو شهريًا، لمكافحة الهجرة السرية، أي 108 ملايين اورو في السنة، بينما لا يقدم أكثر من فتاة لغوت النازحين الذين هجروا ديارهم إلى دول مجاورة، لضمان بقائهم حيث هم، حتى لا يظطرون للبحث عن المستحيل. تستنفر أوروبا كل امكانياتها، من البوارج إلى طائرات الهليكوبتر، ولن تتردد في القيام بتدخلات محدودة لاعتراض السفن التي تستخدم للتهريب، فالوضع صعب وقد يهدد الأمن الداخلي. تقارير تشير لدور «داعش» قد يكون مهما في تنظيم نزوح هذه الأفواج البشرية، وتشجيعها على اجتياز البحر، فمن جهة تؤمن له مداخيل غزيرة، ومن جهة أخرى، يعمل التنظيم على دس مؤيديه بين المتسللين الذين يصلون إلى السواحل الإيطالية،دون بيانات قانونية. فتوعدات التنظيم للدول الأوروبية في المدة الأخيرة، يعتقد أنها لم تأت عبثًا، بل تستند إلى معطيات جديدة . الاتحاد الأوروبي في أزمة، وسمعته على المحك، واليمين المتطرف يثبت لانصاره دائما أنه كان على صواب، ويكسب المزيد من النقاط، فيما برنارد هنري ليفي لا يزال يلح على أن الامور في ليبيا أفضل من ذي قبل، ولا يعترف بأي سوء تقييم، على الأقل في ما يخص مصلحة بلاده .لا بل مبتهج ومطمئن الضمير، فمياه المتوسط اصبحت مقبرة، في نظره، بسبب أي شيء إلا الفوضى في ليبيا التي يبحرمنها حوالي 90 في المائة من «قوارب الموت». اصل المعضلة عند ليفي هي في سوريا وإريتريا والصومال والسودان، التي يقبل منها النازحون، وليست في سواحل ليبيا الغارقة في النزاعات وشبكات الاتجار بالبشر. حقيقة ثمة في هذا العالم صفاقة لا تصدق...