مع انطلاق الحملة الانتخابية بشكل رسمي، كثر الحديث عن استطلاعات الرأي حول توجهات الناخب الإسباني، حيث لم تشهد البلاد وضعا مشابها للمشهد الحالي الذي تغلب عليه الريبة حول تداعيات صعود حزب "بوديموس" و"ثيودادانوس" في العام الأخير. ولا أحد كان يتوقع الصعود المفاجئ لحزب بابلو إغليسياس، "بوديموس"، والذي يعني "نستطيع"، حيث تمكن في فترة وجيزة أن يستحوذ على اهتمام العديد المحللين والإعلاميين في اسبانيا طوال الفترة الماضية. البداية كانت بداية "بوديموس" كمشروع سياسي في كلية العلوم السياسية الواقعة على بعد كيلومترات قليلة من قلب العاصمة الإسبانية، حيث يشهد المكان نشاطا سياسيا غير عاد للمناضلين الذين يحملون هموم فسيفساء من القضايا المحلية والدولية. معظم زعماء بوديموس درسوا هناك، كما مارسوا أنشطتهم السياسية قبل تأسيس الحزب عبر منظمة أسموها "ضد السلطة"، وهي حركة كانت تنشط داخل حرم الجامعة، وكان يتصدرها، كما هو حال بوديموس، كل من بابلو إغليسياس ومونيديرو، الذي قدم استقالته مؤخرا، وإينياغو إرِّيخون الذين درسوا وتخرجوا ودرَّسوا في كلية العلوم السياسية التابعة لجامعة مدريد لاكومبلوتنسي. المحللون ووسائل الإعلام المختلفة في اسبانيا، على حد سواء، يعتبرون بابلو إغليسياس الذي يتميز بشخصيته الكاريزمية، وتأثيره الكبير على قواعد الحزب، بأنه الزعيم الفعلي لحزب "بوديموس". بدايته السياسية كانت مع حركات اليسار الراديكالي بانضمامه في سن مبكرة لشبيبة الحزب الشيوعي الإسباني، والذي غادره فيما بعد، لكن نجم إغليسياس سطع مع ظهوره في البرامج الحوارية التي تبثها القنوات التلفزيونية التي شهدت ارتفاعا في عدد المشاهدين. وأقبل الشباب بكثافة على خطاب البروفيسور الشاب في شبكات التواصل الاجتماعي؛ وفي فترة قياسية بدأ الشباب يتداول مقاطع من كلامه الناري الموجه للمسؤولين والسياسيين من الحزبين الكبيرين، الحزب الشعبي الحاكم والحزب الاشتراكي المعارض. وبدأت وسائل الإعلام في التنافس لاستضافة الزعيم الشاب، وتخصيص مساحة في برامجها الحوارية له، وفي نفس الوقت طفق خطابه يقنع قطاعا كبيرا من المواطنين الذين وجدوا في كلامه تعبيرا واضحا عن رفضهم للأوضاع الاقتصادية التي آلت إليها البلاد. كان الأمر بسيطا؛ الشعب الإسباني تعرض لسرقة غير مسبوقة نفذها تحالف المؤسسات البنكية والطبقة السياسية الفاسدة، وهو ما جعل جيلا كاملا من الشباب يخرج في مظاهرات عارمة شهدتها معظم المدن الإسبانية. بابلو إغليسياس ورفاقه كانوا موجودين في الصفوف الأمامية مع المتظاهرين الذين خرجوا في مظاهرات عارمة يوم 15 ماي من عام 2011. آخر استطلاع واستغل السياسي الشاب موجة الغضب السائدة وسط الشباب الاسباني، وشرع في استثمار تلك المشاعر، حيث بدأ يتبلور خطاب بوديموس المبني على الثنائية "نحن وهم"، "فقراء وأغنياء، "مواطنون وساسة".. الخ. تطور المشروع السياسي من موجة احتجاجات ورفع للأيادي في الساحات العامة إلى حركة منضمة يقف وراءها إغليسياس وأصدقاءه المقربون. ومع أول مناسبة انتخابية في الصيف الماضي، تقدم مجوعة من المرشحين إلى جانب بابلو إغليسياس لخوض انتخابات البرلمان الأوروبي، محققين مفاجأة لم يكن يتوقعها أحد، حيث إن بوديموس، فاز بنسبة 7,98 % من الأصوات، و5 مقاعد في البرلمان الأوروبي. بعد الانتخابات وما حدث بعد الانتخابات الأوروبية مثَّل بداية لمرحلة جديدة في مسار بابلو إغليسياس، حيث إن الاستطلاعات بدأت تشير إلى صعود عمودي وغير لمؤشر الحزب، وكانت تتفق على أن بوديموس تحول لرقم سياسي مهم في المشهد السياسي الإسباني. وذهبت بعض الاستطلاعات بعيدا، عندما أكدت احتلال الحزب لمركز الصدارة، ما جعل الطبقة السياسية التي تنتمي لثنائي الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي تتخوف من صعود غير طبيعي لرفاق إغليسياس. وسائل الإعلام بدورها شرعت في شن حملة ممنهجة على المشروع الجديد، وبعضها المحسوب على اليمين ذهب بعيدا في الهجوم على بوديموس، وزعيمه، باتهامه بالتعاطف مع سجناء حركة "إيتا" الإرهابية، ونظام فينزويلا وإيران. جزء آخر من وسائل الإعلام بدأ يخصص مساحة أكبر للحديث عن حزب "ثيودادانوس"، وتسويقه بكونه بديل واقعي ومقبول، وليس مشروعا يساريا متطرفا، كما كان يوصف "بوديموس" من طرف أشد منتقديه، حيث وصفت إسبيرانثا أغيري، زعيمة الحزب الشعبي في مدريد، بوديموس قائلة "إنهم يمثلون أفسد أيديولوجية عرفها التاريخ". دور الإعلام كان ولا يزال للإعلام دورا بارزا في صعود وهبوط مؤشرات حزب بوديموس، الذي وجد نفسه بعد فترة قصيرة من تأسيسه يتقدم المشهد السياسي في البلاد، كما كان دور الإعلام بارزا في الدفع بحزب "ثيودادانوس" وزعيمه، وإعطائه فرصة لعرض خطاب بديل عن الأحزاب التقليدية. آخر استطلاع حول توجهات الناخب الإسباني قام به مركز الدراسات الاجتماعية التابع لرئاسة الحكومة، أشار إلى تراجع ملفت في شعبية بوديموس باحتلاله للمركز الثالث بنسبة %16,5 من عدد المستطلعة آرائهم، الذين أبدو رغبتهم في التصويت للحزب في الانتخابات المقبلة،. وبالرغم من ذلك، فإن معظم المحللين في إسبانيا يتفقون على أن الحياة السياسية في البلاد ستتغير بشكل جذري بعد الانتخابات البلدية والإقليمية التي ستشهدها إسبانيا في الرابع والعشرين من الشهر الجاري. وما لاشك فيه أن الأحزاب الجديدة جاءت لتعلن نهاية الثنائية الحزبية التي سيطرت على المشهد السياسي في البلاد، لفترة تزيد على ثلاثة عقود، فالأحزاب الجديدة ستبقى وستنافس الحزبين الكبيرين في مشهد سياسي ستغلب عليه التحالفات والتكتلات، وهو ما قد يجعل من استقرار الحكومات في مدريد أمر صعب المنال. * صحافي ومحلل سياسي