الجزء الثالث والأخير لقد تطرقت في الجزء الأول والثاني من هذا المقال إلى تقديم نظرية روني جيرار (René Girard)، عضو الآكاديمية الفرنسية، متوخيا في ذلك ترجمة ما كتبه بنفسه في مجلده “من العنف إلى الإله” (De la violence à la divinité) الذي يحتوي على أربعة كتب. قبل تقديم تحفظاتي النقدية أود أن أنوه بهاته النظرية المقنعة إلى حد بعيد. ينبهنا مؤلفها إلى تخوفاتنا البشرية من العنف وإلى المكانة المحورية لهاته التخوفات في تصوراتنا للمقدس. نفهم من خلالها أننا جميعا تواقون إلى أن تبقى نوازل العنف وشروره وعواقب غضبه في غياهب نائية نقدسها (بمعنى نتجنب المساس بها) كي لا تعود الفتن لحارتنا وتعم الفوضى. وهاته النظرية ناتجة عن تحليل دقيق وهادئ لمحتويات الأساطير المؤسسة لثقافات بشرية مختلفة بما فيها التوراة والأناجيل. أرى لهاته النظرية فائدة لا يمكن نكرانها : تمكننا، ولو قليلا، تجاوز العراك العقيم بين ندين متعجرفين ولكن متشابهين إلى حد بعيد : - أحدهما يعتبرالديانات وطقوسها مجرد خزعبلات وخرافات وممارسات ليس لها أي معنى، بينما يعلم أن التاريخ يدلنا على أهمية هاته الظاهرة في إيلاف مجتمعات بشرية متنوعة وإن لم تَخْلُ تلك التجمعات من تطاحنات ضارية، - والثاني منهما يحاكي نده ويود لو ينجح بدوره في تجريد معانده من أية مصداقية رغم علمه أن الأساطير جزء لا يتجزأ من الديانات، بما فيها ديانات التوحيد، وأن هاته الديانات لم تكن أبدا مجرد وئام وإخاء وسلام. كلا الخصمين وجهان لنفس العملة ومنبثقان من نفس التنافس المعاند الذي يحاول تجاهل عنفه الرمزي. أما روني جيرار فإنه يأخذ أساطير بشريتنا مأخذ الجد ولا يعتبرها مجرد “أساطير الأولين”. فتعقله هذا لا يخلو من محبة لبشريتنا بمحاسنها وبعيوبها، تعقل يميز بين ما هو إنساني وعميق في مقولات تلك الأساطير وبين ما هو مجرد خيال يساعد الراوي أو المُرسِل ورُسُله على تبليغ رسالتهم. رغم أن روني جيرار مسيحي ويومن بالأناجيل كأسمى مرجعية، نراه يستخدم في حقها أدوات فكرية نقدية ليتفحص الوجه الأسطوري الذي يشير إليه من دون حرج. فهو بهذا لا يتنكر لميراث العقلانية الإغريقية لينتبه ولينبهنا إلى ما هو أسطوري بالتوراة وبالأناجيل رغم أنها، كما يقول، “ترد الإعتبار لكبش الفداء” وتُفَنِّد الإجماع على ظلمه. مقاربته جديدة تحاول فهم ما يمكن فهمه بأساطير الديانات ونوع من التعقل يتيح لنا الإعتراف بمكانة خيالنا البشري الذي لا حدود ولا قيود له وتعقلنا الذي هو عقال يقينا جموح الخيال ويهبط بنا من سماواتنا السبع طباقا لنعود إلى واقع أمورنا الإنسانية الدنيوية. يدعونا الآكاديمي إلى تجنب التشنج المذهبي أو النظري كي لا ننزلق للتحيز الفكري ونعيد بذلك إنتاج العنف المعنوي ككل المحاكين المقلدين لحد الآن. ومنظومة روني جيرار الفكرية تقدم لنا كذلك تفسيرا مقنعا لمعنى الطقوس المختلفة : فهي تكرار لما نجح، ولو رمزيا، في إخماد نيران العنف في غابر الأزمان وما يُمَكِّن الجماعة من التجمع في خشوع ثم الإجماع، من جديد، لتأكيد تعلقها بما قد يضمن لها الطمأنينة والهدوء ولو لمدة سنة. وقول روني جيرار بأن المحرمات الجنسية التي نعثر عليها عند كل المجتعات وبكل المعتقدات مردها هو فهم كل التجمعات البشرية لخطر محاكاة الرغبة الجنسية للأقارب داخل العائلة أو العشيرة والتي ينشب عنها تنافس وغيرة تؤدي، لا محالة، إلى الخصومة والتناحر والعنف، هذا القول يقدم لنا تفسيرا بسيطا لا تكلف فيه ليتجاوز ما يسميه علماء النفس، وفي مقدمتهم فرويد (Freud)، ب”عقدة أوديب” (Complexe d'Œdipe). تعقيد للأمور لم يعد له أي مبرر. وتساعدنا نظرية روني جيرار كذلك على فهم الورع والتقوى المميز لجماعاتنا البشرية سواء كانت تومن بمَلِك قدوس مهيمن مسيطر على كل السلط أم كانت تُقِر بحرية الإعتقاد وبالتالي بآلهة متعددة في نفس الزمان والمكان. ما التقوى إذن سوى إتقاء لشر العنف ولعواقبه الوخيمة التي قد تقود إلى عودة الفتنة. فالخوف هو الوازع والدافع الرئيسي الذي جعل أمثالنا من البشر ينخرطون في الورع وفي طقوسه التي تَقِيهم، حسب قناعاتهم، من غضب الغيب ومن نوازله وكذا من الأوبئة ومن القلاقل وما يترتب عن كل هاته الكوارث من ويلات. ولهاته الطقوس فائدة إضافية : تشهد ماديا على إنخراطنا بجماعة أو بطائفة وعلى إلتفافنا جميعا حول كبش فداءها، خاصة عندما تكون أطباقه لذيذة. الزردة، وما أدراك ما الزردة ؟! الكذبة الورعة وحقيقة النصوص الدينية من الغريب حقا أن يقع روني جيرار في الخطإ الذي نبهنا إليه في كتابه “كذب رومنسي وحقيقة روائية”. لقد بين أن إيديولوجيا القرن العشرين تمنعنا في كثير من الأحيان من قراءة بعض النصوص الروائية كما هي، بل تجرنا إلى التقول على تلك النصوص الروائية. لكن روني جيرار نفسه لم يتخلص كلية من هذا العيب، إذ نراه يتقول على بعض قصص التوراة لكي لا يتقيد بنصها. في صدد تطرقه لكبش الفداء يكتب روني جيرار ما يلي : “ومع تقدم الزمن، حلت البهائم محل الأضحية البشرية، إنتقال هو بمثابة تقدم ملحوظ في مقاومة العنف. هذا ما يسجله مشهد مشهور بالتوراة حيث لا يُنْحر إسحاق بل يُعَوَّض عنه بكبش، في آخر لحظة”. لكن القارئ المنتبه والمتقيد بنص التوراة لربما سيفهم دلالة ذلك النص الواضح كل الوضوح. أعتقد أن الفهم الإسلامي لقصة إبراهيم أكثر وفاء لما ورد فيها، إذ تدلنا على أن إبراهيم كان مُسْلِما أمْرَه لله وأن إبنه كان مستعدا كل الإستعداد للتضحية في سبيل الله. ولا يمكن للكبش الذي قدم كفدية في آخر لحظة أن يلهينا عن إنقياد واستعداد جزء غفير من ذرية إبراهيم (يهود ومسيحيون ومسلمون) للتضحية في سبيل الله بالنفس وبالنفيس، أي بروحهم وبدمهم أو بأرواح وبدماء أبناءهم وبأموالهم. هذا هو ما يشهد له التاريخ على أرض الواقع منذ جدنا إبراهيم إلى يومنا هذا. ولنعد للنص. تخبرنا التوراة في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين “أن الله امتحن إبراهيم” لما أمره باقتراف منكر براح، أي بذبح إبنه وتقديمه كقربان على محرقة. والحكاية هاته تدلنا على أن إبراهيم تهيأ للعملية مدة ثلاثة أياء وجمع الحطب والسكين والحمار وقصد الجبل الذي عينه له الله كمكان لإقامة المحرقة. وفي نفس النص، وبنفس الفقرة نقرأ، كما يقرأ روني جيرار، أن الإبن يستغرب لأمر أبيه ويسأله : “هو ذا النار والحطب، وأين الخروف للمحرقة ؟”. لهاته الجملة دلالة عميقة : بانقياده وباستسلامه لأمر منكر يعد إبراهيم من القوم الهمج الذين كانوا يضحون ببشر مثلهم رغم أن المعروف في زمانه هو تقديم الخرفان كقرابين. أعتقد أن ضمير إبراهيم وآله ضمير مستتر وليس بضمير ينهى عن المنكر، رغم أن إبنه يحاول، بكل براءة، أن يوقظه من غفوته وسباته وأوهامه ورآه الإجرامية. لذا أعتقد أن كذبة أهل التوحيد الورعة لن يمكنها أبدا أن تغطي على ما جاء بالنص الذي يروي لنا قصة إبراهيم وروحه الإجرامية المستعدة كل الإستعداد للتضحية في سبيل إلهه وإلههم. ولنتابع نقدنا لروني جيرار بقصة عيسى وصلبه حسب ما يفهمه هو كمسيحي من تلك القصة. لا يسعنا سوى أن نتفق مع روني جيرار عندما نقرأ أن المسيح نصح بتقديم الوجنة الثانية لما يصفعنا أحدهم على الوجنة الأولى. من شأن المعاملات المسالمة أن تضع حدا لدوامة العنف. فمن يرومون السلم في كل الأحوال كعيسى أو غاندي أو منديلا أشد عزما وقوة ممن يشهرون السيف أو ينادون إلى الجهاد. أما تقليد ومحاكاة العنيفين باللجوء إلى وسائل عنيفة فإنه غالبا ما يقود إلى تصعيد ملؤه الرغبة في الثأر وسحق الآخر. لذا أنشأت البشرية محاكم نلجأ إليها كي لا نثأر بأنفسنا ممن اعتدى علينا. وهاته المحاكم، سواء كانت قبلية أم جهوية أم دولية ليست في حاجة إلى شريعة أو شرائع سماوية وإنما يكفيها أن تحكم بقوانين وضعية نتفق عليها كجماعات بشرية تنبذ الثأر وتختار الإحتكام لحكماء. لكن روني جيرار يذهب إلى أبعد من ذلك لما يعتبر أن الله قدم نفسه كأضحية ليفتح أعيننا على تضحية البشرية العتيقة، فيما سبق المسيحية، بتقديم أكباش فداء من البشر. لكنه لا يمكن لأي عاقل أن ينسى أن عيسى إبن مريم وأن مريم إنسانة وأنه لا يحق لأي أحد أن يحرمها من إبنها لإنقاد الإنسانية. إنها مراوغة فكرية تود أن تنسينا أن إنسانية مريم لم يقم لها أي ميزان. وللقرآن في هذا الشأن مقاربة قد نعتقد أنها مختلفة عن مقاربة المسيحية : “وما قتلوه وما صلبوه، ولكن شبه لهم”. كيفما كان الحال فإن إنسانا بريئا كل البراءة هو الذي صلب ولا شك أنه خلق من أرحام إمرأة هي أشبه ما يكون بمريم. شبهات وشبهات لم تجد بعد من يجرؤ على التمييز. ما الذي يميز خطاب اللوغوس عن خطاب الميثوس ؟ تشكل المعتقدات الدينية خطرا لما ينخرط الفرد بشكل أعمى أو بالأحرى، لما يجد نفسه في أغلب الأحيان مقلدا لانخراط أهله في منظومة تسلبه، منذ الطفولة، مقدراته الفكرية للتمييز وتحرمه من استخدام عقله بحرية. الخطر يكمن في تسلط الجماعة المتدينة لما يترأسها أصحاب العمامات المتعالية على العامة لينصبوا نفسهم أهلا للحل والعقد، يتناسخون فيما بينهم ويُجْمِعون (ولو مؤقتا) على الدين الصحيح وبالتالي على اضطهاد الملل والنحل المنبوذة وعلى الفهم الصحيح للرويات وللنصوص المؤسسة، وعلى العبادات والمعاملات الصحيحة. وهم أخطر لما يستحوذون بالإضافة إلى ذلك على سلطة السيف أو الرشاشات والذبابات ولربما القنابل النووية وما يترتب عن ذلك من تصرف، دون رقابة مستقلة، ببيوت المال وبالمحاكم وبالإستنطاقات وبالسجون ... وبالتحالفات الدولية لإمداد سلطتهم بيد العون إن كانت مهددة من الداخل أو من قِبل الجيران. نعم ما أسرع أن تختلط الأمور لتصبح سلطة الدين سلطة تشريعية وقضائية وتنفيذية ومصرفية وحربية تقيم الحدود باسم الغيب أو باسم إجماع حقيقي أو وهمي للغابرين، سلطة تقوم مقام هيبَتِهم ليتحكم المستحذون عليها في علاقة الإنسان الحي بأخيه الإنسان ولتحقير أخته وأُمِّه الإنسانة فتصبح سلعة مبتذله، توتى أجورها في أسواق المهر وكذلك بسوق العبيد والعبدات التي تقننها قوانين خلافة الله في أرضه. ومن يدري، بفضل سلطة المتدينين قد تعود أجيال قادمة من الرجال إلى المتعة بما أحل الله لها، مثنى وثلاث ورباع وما ملكت أيمانهم، حلالا طيبا على سنة رسوله واقتداء بأئمته الراشدين وآيات الله الخمينية والخامنائية. ولكي لا ييأس أي أحد، علينا أن نذكر بأن هاته السلطات الدنيوية لا تخلوا، كما هو شأن مُلْهِمها السماوي، من الرحمة و الرأفة وإغذاق النعم على كل من استسلم وقدم البيعة للسلطات المصطفاة كخليفة لها على الأرض، لا يهم أهي يهودية، أرثودكسية، كاثوليكية، شيعية، سنية، سلفية، إخوانية أم مقاصدية. كل السلطات التوحيدية متفقة على أن أمهاتنا أقل شأنا من آباءنا وعلى أن المومنين بمعتقداتها هم أصحاب الفرقة الناجية الذين تعدهم السماوات العلا بالخلاص في الدنيا وفي الآخرة وبقية البشر موعودة بجهنم ولها خزي في الدنيا والآخرة. هنا مكمن العنف الرمزي الذي تقننه ديانات التوحيد لتفرق بين آباءنا وأمهاتنا وبين المومن والكافر بها. عنف رمزي سرعان ما يتحول إلى سيطرة وهيمنة داخل الخلية العائلة ليعاد إنتاجه بالمجتمع. لتفادي خطر هذا الإنزلاق للخلط بين الغيب والواقع لا بد من فهم الخطوة الجريئة التي أقدم عليها مفكرو ومنظرو الإغريق لما قرروا فصل اللوغوس عن الميثوس، أي التمييز بين الخطاب المنطقي والخطاب الأسطوري ولما قرروا تنظيم نقاشات بالساحة العامة (agora) أو بالمنتدى العام (forum) وليس بالمعابد. خطابات وخطب تليها إنتخابات لم يكن همها الإجماع وإنما حسم القضايا العامة لصالح الأغلبية مع مراعات الآراء والمصالح الأخرى. إضافة إلى ميراث الموتى والسماوات التي “تنزلت” منها ديانات التوحيد، لا يمكننا إذن غض الطرف عن ميراث أثينا الإنساني (الدنيوي) الذي استفادت من منطقه وعلومه وديموقراطية (ولو كانت لها نقائص) كل البشرية. إرث كوني وليس بالطائفي لأنه اعتبر أن “الإنسان هو مقياس كل شيء”. ميراث الإغريق من الوزن الثقيل يعود إليه فضل الفصل بين اللوغوس (المقولات المنطقية) والميثوس (المقولات الأسطورية). في تلك اللحظة التاريخية بالذات انتهى المفكرون الإغريق من محاولة التلفيق للتوفيق بين المنطق وأساطيرهم التأسيسية لثقافتهم القديمة. لكننا نرى إبن رشد في القرن الثاني عشر والبابا بندكتوس في بداية قرننا هذا يحاولان إقناع أنفسهم أن لا تناقض بين الحكمة ومقولات ديانتهما. فابن رشد يقرر أن الشريعة حق وأن الحكمة حق وأنهما لا يتعارضان البتة. وبطبيعة الحال خص ابن رشد الشريعة الإسلامية بتملك الحق ليقصي الشرائع الأخرى رغم أنها تومن كذلك ببعث الموتى. أما اللوغوس (الكلام المنطقي) الذي أسس له الإغريق فإنه لا يومن سوى بما هو متعارف عليه عند كل الفرقاء وبالتالي لا يحتاج لإيمان مسبق. فمجمع الحكماء الإغريق (aréopage) الذي اجتمع أعضاءه بأثينا حول القديس بولوس وأصغوا إلي خطابه إنفضوا من حوله - كما أشار إلى ذلك بنفسه - لما أخبرهم أن المسيح عاد إلى الحياة بعدما كان قد توفى على الصليب. صارحوه أنه ليس بالإمكان التسليم بمقولة بعث الموتى. وكل المومنين بديانات التوحيد يعلمون حق العلم أن مثل هذا الكلام خارق للعادة ويحتاج بالتالي إلى تصديق رُواته وأن الحجة لا يمكن أن تقام على أساطير شتى تروي بعثا للموتى كانت متداولة قبل ذلك بروايات للإغريق ولقدماء المصريين على سبيل المثال لا الحصر. هنا يتبين لنا أن أهل أثينا أصبحوا يميزون بين التصديق من جهة والإقناع بالحجة العقلية من جهة ثانية. أما لغتنا العربية (لوغوسنا وعلم كلامنا) فإنها كانت وما زالت تخلط بين معنيين إثنين متناقضين لنفس الكلمة : “آية” تعني في نفس الوقت الحجة وكذلك الكلام الذي ورثناه بمصاحفنا الخالية من النقط والحركات والوقفات بعدما نسخ الله منه ما نسخ وأنسى منه سلفنا ما أنساه (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها). فاللغة العربية مأسسة لتناقضات لم نجرؤ بعد على الحسم فيها لنتجاوزها : نسخ ونسيان وفي نفس الوقت إيمان بأن الله يقي أيدي مخططينا الأوائل من الزلل وذاكرة سلفنا من النسيان (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)... وناسخون. تناقضات تنخر فكرنا منذ عهد التأسيس. فعوض أن يعتبر الإغريق أساطير أجدادهم ورواياتهم التأسيسية كمرجية مقدسة، إختاروا الإحتكام للمنطق ولمقدرات الخطباء في إقناع أكبر عدد ممكن من التجمعات المتكررة والمجددة لانتخاب قوادها وروادها. فالإغريق من جهة والموحدون الشرقيون من جهة ثانية يأسسان لنظريتان ولخطابين مختلفين. فديانات التوحيد المتوسطية تتميز بتقديسها لما خطه (أي رسمه على الرق أو الورق) أو ما احتفظت به ذاكرة الرواة المؤسسين، وكل هؤلاء الناس بشر ليسوا بخارقين للعادة سوى في نظر المقدسين لهم.