الزاوية التي ارتأى ميشال أورسيل معالجتها تتعلق بموضوع لم يطرق إلا نادرا. وهو موضوع قديم قدم مشاعر العداء. إنه موضوع الإسلاموفوبيا المسيحية أو عداء المسيحيين للمسلمين. مع العلم أن العداء الديني يبقى أحد القواسم المشتركة بين ديانات التوحيد. لكنه في إطار الفورة الإسلاموفوبية يأتي هذا العمل لتسليط الأضواء على ظاهرة بدأت تأخذ حيزا كبيرا في مشهد العلاقات بين الشعوب الإسلامية والشعوب المسيحية. ميشال أورسيل دكتور في الآداب والعلوم الإنسانية ويعمل أستاذا محاضرا بالجامعة، وكان من بين تلامذة باحث الإسلاميات روجيه أرنانلديز. من منطلق درايته وتمكنه من الديانتين، يقترح علينا في هذا العمل دحضا علميا للإسلاموفوبيا المسيحية الجديدة. تتضارب آراء المؤرخين والسياسيين حول لحظة انبثاق كلمة «إسلاموفوبيا». ثمة من ينسب نشأتها إلى الثورة الإيرانية لما استعملها عام 1979 بعض من آيات الله. يدحض المؤرخ والصحافي ألان غريش هذا التفسير ليعود بالكلمة إلى تاريخ أبعد، وتحديدا إلى سنة 1925 حيث شهدت الفترة بداية «الهذيان المعادي للإسلام والمسلمين»، بل ينسب البعض نشأتها إلى عام 1910 تحت قلم ألان كيليان في كتابه «السياسة الإسلامية في إفريقيا الغربية الفرنسية». غير أن انتشار رقعة هذا المفهوم في الخطاب الجماعي يعزوه البعض إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، وهي الهجمات التي ألبت الرأي العام الغربي ضد المسلمين لتجعل منهم أكباش فداء نموذجيين. الخلاصة أن المفهوم دخل المعجم الديني والسياسي ليصبح درعا وذريعة لكل التبريرات والخطابات. ولا يمكن فصل الإسلاموفوبيا عن الخطاب الاستشراقي. كما تلونت الإسلاموفوبيا بلون كل بلد غربي. إذ ليس للكلمة نفس الزخم الدلالي في فرنسا عما هو عليه في بلد مثل الولاياتالمتحدة. في فرنسا، تبقى الكلمة مشبعة بتاريخ استعماري عتيق وتقليدي. لكن الغرب عموما يتقاسم نفس الرغبة في التحكم وبسط الهيمنة وتحويل المسلمين إلى «إرهابيين بالغريزة». موضوع قديم قدم مشاعر العداء الزاوية التي ارتأى ميشال أورسيل معالجتها تتعلق بموضوع لم يطرق إلا نادرا. وهو موضوع قديم قدم مشاعر العداء. إنه موضوع الإسلاموفوبيا المسيحية أو عداء المسيحيين للمسلمين. مع العلم أن العداء الديني يبقى أحد القواسم المشتركة بين ديانات التوحيد. لكنه في إطار الفورة الإسلاموفوبية يأتي هذا العمل لتسليط الأضواء على ظاهرة بدأت تأخذ حيزا كبيرا في مشهد العلاقات بين الشعوب الإسلامية والشعوب المسيحية. ميشال أورسيل دكتور في الآداب والعلوم الإنسانية ويعمل أستاذا محاضرا بالجامعة، وكان من بين تلامذة باحث الإسلاميات روجيه أرنانلديز. من منطلق درايته وتمكنه من الديانتين، يقترح علينا في هذا العمل دحضا علميا للإسلاموفوبيا المسيحية الجديدة. الكنيسة في قلب العداء وقد اكتشف خلال بحثه في مجال الدراسات الإسلامية بأن قسما هاما مما يعرف أو يطلق عليه ب»الإسلاموفوبيا العلمية» هو على علاقة وثيقة بالكنيسة. ويشير ميشال أورسيل إلى أنه لا يرغب في أن ترتفع الصوامع في المدن الفرنسية ولا أن يكتسح الملتحون شوارعها، كما لا يطيق كذلك أن تدنس الديانة الإسلامية، وهي الديانة التي أدى أصحابها الثمن غاليا خلال الحروب الكونية لكي تكسب أوروبا حريتها. لا يهم إن جاهد البعض في اتجاه تبخيس رونق الحضارة الإسلامية، التي كانت إسهاماتها جد حاسمة في حداثة الغرب على المستوى المعرفي. ولنا خير مثال في الأطروحة، التي تبناها غوغنهايم في كتابه «أرسطو بجبل السان ميشال»، والتي أشار فيها إلى أن الحضارة الغربية لم تلعب أي دور في الوساطة بين الإغريق والغرب. على مستوى الكنيسة، تجسدت هذه الإسلاموفوبيا المسيحية الجديدة في الخطاب الذي ألقاه البابا بونوا السادس عشر في راتسبون في 12 سبتمبر 2006، والذي يكاد يكون بمثابة تشطيب على تاريخ علاقات الود والتسامح بين الإسلام والمسيحية. فقد استشهد البابا بقولة مانويل الثاني، الذي سبق أن أشار إلى أن «نبي الإسلام لم يضف إلا ما هو سيء ولا- إنساني». وللتأكيد على القطيعة الحاصلة بين العقل والنقل أو العقيدة، ضرب مثالا بإجبار المسيحيين على اعتناق الديانة الإسلامية بحد السيف. غير أن الرد على هذا الخطاب لم يكن للأسف في المستوى العقلاني اللائق. فقد دعا مثلا بعض الأئمة إلى قتل البابا، عوض مواجهته بالحجة والإشارة إلى أن القرآن يدعو البشر باستمرار إلى «التعقل» وإلى استخدام العقل في تأمل وتأويل علامات الكون. ومن الآيات القرآنية ما يحض باستمرار على استعمال العقل. وقد تلاقح العقل الإغريقي، اللوغوس، بالعقل الإسلامي على مر التاريخ وكان للمعتزلة دور الرافد الفكري في تقعيد هذه الوساطة التي دفع بها فلاسفة لاحقون، إلى غاية ابن رشد، شأوا بعيدا. تكفي العودة إلى الأشغال الفلسفية لألان دو ليبيرا للوقوف على أهمية الوساطة التي قام بها فلاسفة الإسلام. وتعتبر أشغاله أفضل رد على العبارات التعيسة لبونوا السادس عشر. وفي هذا المجال أشار في كتابه «التفكير في القرن الوسيط» إلى أن «الدور الحاسم الذي لعبه العرب في التكون الثقافي لأوروبا مسألة لا تحتمل النقاش». إن أطروحة الأسلمة بحد السيف لا تصمد أمام الحقيقة. يأتي مثال أسلمة ماليزيا (من بين أمثلة عديدة) لتفنيد هذه الأطروحة. لم يعانق البلد الإسلام تحت الضغوط ولا بالإكراه، بل عن طريق التجارة والدعوة. وأي مثال هو اعتناق الشياباس للإسلام، الذين عثروا فيه على كرامتهم أمام التعسفات التي تمارس عليهم. ويذكر الباحث بأن الأعداد التي أجبرتها الكنيسة على اعتناق المسيحية أكثر بكثير من تلك التي اعتنقت الإسلام. ويشهد على ذلك المثل عملية التمسيح، التي مارستها الكنيسة الإسبانية على نطاق واسع في حق اليهود والمورسكيين وهنود أمريكا. هل يمكننا إذن الانسياق وراء منطق البابا بونوا السادس عشر؟ مؤامرة لم يشكل الخطاب الذي ألقاه البابا بونوا السادس عشر بجامعة راتيسبون تحولا مفاجئا في موقفه، بل سبق للقس غوزيبي دي روسا أن فرش لهذه الأطروحة بمقال سبق أن نشره قبل ثلاث سنوات في مجلة «سيفيليتا كاتوليكا»(الحضارة الكاثوليكية)، وهي مجلة يسوعية تنشر بروما وتعرض جميع مقالاتها على كتابة الدولة بالفاتيكان قبل النشر. ولربما استغل كاتب هذا المقال الوضع الصحي المتدهور للبابا يوحنا السادس، الذي كان من بين المتحمسين للحوار المسيحي الكاثوليكي لنشر مقاله. ويجب التذكير بأن يوحنا بول السادس كان أول بابا صلى في مسجد إسلامي، مسجد الأمويين بدمشق عام 2001 . في هذا المقال يهاجم غويزيبي وضعية المسيحيين بأرض الإسلام ليشير إلى أن هذه الديانة «أظهرت دائما وجها عدائيا» و«روحا غازية». نهل البابا بونوا السادس عشر من معين هذه الأطروحة في خطابه بجامعة راتيسبون. لكن بالرغم من النشاط الذي قام به لويس ماسينيون والفاتيكان والمجهودات التي قام بها آخر القساوسة ورجالات الدين، مثل رهبان تبحيرين، لتقريب وجهات النظر بين المسلمين والمسيحيين، يبدو أن العداء لم يعرف أي هدنة. تسعى أشغال أنجزت في ألمانيا ابتداء من القرن التاسع عشر في المجال الفيلولوجي، ترافقها اليوم مواقع على الإنترنت، باستمرار إلى الحط من قيمة الإسلام على المستويين العلمي والأخلاقي. أما في فرنسا فكل من يرغب في التعرف على الإسلام وعلى رسوله وكتابه، يجد بالكاد مجموعة من المؤلفين شغلهم الشاغل هو الحط من قيمة الإسلام. اختفى البعض منهم، مخلفين تلامذة نشطين في إشاعة نفس الأفكار. ومن بين أول هؤلاء الأعلام الذين حطوا من قيمة الإسلام في كتاباتهم هنري لامنس المتوفى عام 1937 وأحد أوائل المعربين، الذي هاجم رأسا الإسلام. هناك أيضا مكسيم رودنسون في كتابه عن محمد، حيث لم يتردد باسم التوجه الماركسي، في التشكيك في مصداقية الرسول. غابريال تيري، الذي وقع باسم مستعار (حنا زكريا)، كتابا بعنوان «الإسلام، محاولة يهودية: من موسى إلى محمد». أطروحة هذا المفكر المسيحي أصبحت نبراسا لمجموعة باسم «ريزو- روغان» ( شبكة النهضة)، التي طرحت فكرة عشوائية مفادها أن المسلمين واليهود يعملون يدا في يد لمناهضة المسيحيين! ويذهب دعاة هذه الأطروحة، وهم من القساوسة المعروفين، إلى أن الإسلام لا يعدو كونه «نسخة مزيفة من الديانة اليهودية». وقد استعرض أحدهم، هو الأب برينو المسيحي واسمه الحقيقي برينو بوني أيمار، في كتاب من ثلاثة أجزاء مقتضيات هذه النظرية بإنجازه تأويلا جزئيا للقرآن واستعانته بالعبرية لفك رموز القرآن. وعلى منواله نسجت بعض الأسماء الأخرى المعروفة في مجال الدراسات الإسلامية، من أمثال ماري ديلكامبر، التي كالت أشنع النعوت للإسلام واختزلته في مجموعة من المحرمات، أو ماري تيريز إيرفوا، الأستاذة بالمعهد الكاثوليكي بمدينة تولوز، التي وقعت رفقة زوجها دومينيك إيرفوا كتابا بعنوان «أبجدية المسيحية والإسلام». وهما من ممثلي الإسلاموفوبيا الجديدة. ومن بين أهداف ماري-تيريز إيرفوا وضع حد للحوار بين الإسلام والمسيحية. كما أقدمت على تأليف كتاب بعنوان «الدليل السيكولوجي في القرآن» سعت فيه إلى تبيان أن القرآن يقوم على مجموعة من الحيل لتكييف العقول. هؤلاء السجاليون الجدد يعرفون بعضهم بعضا، كما تقوم أعمالهم على الاختزال والإشاعة والتآمر. باتكائهم على الفيلولوجيا، تاريخ الأديان أو اللسانيات، أصبح الشغل الشاغل لهؤلاء الباحثين إذن هو الحط من قيمة الإسلام، وذلك بمهاجمة أصول القرآن والطعن في شخصية النبي محمد، الذي ذهب البعض منهم إلى حد الشك في وجوده، رغبة في إظهار أنه لا يعدو كونه مجرد أسطورة. وللرد على أطروحات القائلين بانعدام أدلة على وجود الرسول، يشير ميشال أورسيل إلى أن هذه الملاحظة أو الانتقاد ينطبقان أيضا على المسيح، حيث تم تأليف وجمع الأناجيل بشكل متأخر. كما أن الملاحظة قد تنطبق على التوراة. كما ركز أصحاب هذا التأويل على قضايا العنف والجنس والانحلال الأخلاقي. وتقف عدة أطراف جامعية ودينية، وفي بعض الأحيان منظرون مسيحيون، وراء هذه الحملة. وقد استغل هؤلاء العلماء «الصمت» أو «البياض» الذي يدمغ على مستوى الوثائق القرن الأول للإسلام، إذ لم تنبثق السيرة والأحاديث إلا فيما بعد. في هذه الفجوة، اندس هؤلاء العلماء. لكننا نتوفر على وثائق من العصر الجاهلي باللغة السريانية والإغريقية تتطابق مع المصادر الإسلامية وتثبت الدور العسكري والديني للرسول.
من أجل مراجعة راديكالية يشير ميشال أورسيل إلى أن تقاعس المسلمين هو الذي شجع هؤلاء العلماء المسيحيين على انتقاد الإسلام وتشويه صورته. ما الذي يحول دون تمكن الباحثين والعلماء من أدوات البحث العلمي (من سوسيولوجيا، تاريخ، فيلولوجيا الخ...) لمقاربة ديانتهم والوقوف على العثرات والإنجازات؟ على المسلمين القيام إذن بعملية مراجعة راديكالية لطريقة تعاملهم مع الإسلام. وهذا العمل من مسؤولية النخبة. يرى أورسيل أنه في غياب تطبيق المناهج العلمية في دراسة الإسلام، فإن هذا الأخير قد يبقى عرضة لتأويلات أصولية وإسلاموفوبية. يلاحظ بأن ثمة مفارقة غريبة يتحدث بموجبها الإسلاموفوبيون عن عنف الإسلام دون ذكر عنف الدول المسيحية أو مابعد المسيحية. وثمة وجوه مسيحية كانت من الدعاة إلى استعمال العنف أمثال القديس بيرنار والقديس أغوستينوس. يؤمن ميشال أورسيل ويدافع عن حوار الأديان. ويشير إلى أنه ألف هذا الكتاب لمناهضة سلوك النبذ وفتح أبواب الحوار، مع العلم أن الحوار يبقى مفهوما فضفاضا وبأن الطرفين (المسيحي والإسلامي) سيبقيان متشبثين بمواقفهما الأصلية. لكن كبار المتصوفة من أمثال الشيخ محيي الدين بن عربي ومن قبله الحلاج هم من لهم القدرة والقوة على تجاوز العالم السفلي، عالم الأشكال للتوحد بوحدة الخالق. وعليه وجب العمل على إعادة إقامة الصلاة الجماعية بين المسلمين والمسيحيين، الصلاة التي سنها البابا بولس السادس والتي ألغاها اليوم البابا بونوا السادس عشر.