فالخَلَل في الإنْسان، لا في اللِّسانِ لا تَعْبَثُوا بِلُغَتِنا لا تَعْبَثُوا بلِسَانِنا لا تَعْبَثُوا بثقافتنا، ولا بتاريخنا، وتراثنا لا تَعْبَثُوا بهذا الماضي الذي، مَهْما انْتَقَدْناه، وَصَرَخْنا في وَجْهِه، وقُلْنا إنَّ لا يَصْلُح لِزَمَنِنا، فهو جزء من دَمِنا، ومن لَحْمِنا، وعِظامِنا. لَا تُفْرِغُونا من هذا التراث الشِّعريّ العظيم، الذي كانت فيه جُرْأة في نقد الحياة، وفي إدْراك ما يَثْوِي فيها من سِرٍّ وعُمْق، ولا من هذه العمارة التي احْتَفَتْ بالعَيْن، كما احْتَفَتْ باللِّسان، وعَرَفَتْ كيف تملأ الفراغ، بالجمال، وبما يُدْهِش العقل والخيالَ. لا أُمَّةَ تحيا، وتعيشُ دون لُغَةٍ، هي ما يُوَحِّدُها، ويَلَمُّ شتاتَها، ويجمع الكَثير، المُتَنَوِّعَ، منها، في وَاحِدٍ. مَنْ يَخْرُجُ من لِسانِه، كمن يخرج من سمائه، ومن ترابِه، ومائِه. مَنْ لا لُغَةَ له، لا لِباسَ له. فهو جِسْمٌ مُلْقًى في الرِّيح، يأكُلُه العَراء، وتَلْعَبُ به الأهواء، ويصير عُرْضَة لِسُخْرِية الثقافات والحضارات، ولسخرية الأمم والشُّعوب . مَنْ يَسْتَجْدِي لِسانَ غيره، ويَتَنكَّر لِلِسانه، أو يعتبره لِساناً بدون لِسان، لا حاضرَ له، كما لاماضَيَ ولا مُسْتَقْبَل له. هَلْ ثَمَّة مَنْ يَسْعَى في الأرْضِ كأنَّه خَرَجَ من عَدَمٍ، أخرسٌ، أصَمّ، يستعير أثْوابَ الآخرينَ لِيَسْتُر عَوْرَتَهُ؟ هَلْ فاقِدُ لِسانِه، كَفِيلٌ بأنْ يفرض علينا لِساناً، هو جاهِلٌ به، أو يَسْتَعْمِلُه دون أن يكون عارفاً بتاريخه، ولا بالماء الذي خرجَ منه؟ لَسْنا عَبيداً، ولا رَعاعاً، تُفْتُون بما لا يَعْنِينَا، وتَفْرِضُون على أبنائنا، و على أحْفادِنا، أن يَلُوكوا كلاماً هو خُبزُهُم وحلِيبُهُم، والهواء الذي شَرِبوه من غُبار الشَّوارِع، وعرق الصُّيوف التي قَضَوْها في حِلٍّ من مدارسكم، ومن دروسكم التي أصْبَحَتْ عٍبئاً على المُعَلِّمِين، والمُتَعلِّمينَ. مَنْ هؤلاء الذين ازْدَرَوْا العربية، ونظرُوا إليها كَحَجَرٍ يعُوقُ سَيْر العرباتِ في الطُّرُق؟ من أيِّ سماء، أو ماءٍ أتَيْتُم، لتقولوا لَنا إنَّ البلادَ لا لِسان، ولا تاريخَ، ولا ثقافةَ لَها؟ وأنَّ الإنسان أعْمَى فيها، وأنَّكُم، أنتم، مَنْ سَتُخْرِجونه من العَماء، لِتَنْعَمُوا عليه بالشَّمْس والهواء.؟ هل عرفْتُم العربية؟ هَلْ جَرَتْ كَلِماتُها على ألْسِنَتِكُم، وفي دِمائِكُم، كما جرى غيرها من اللُّغاتِ التي تَسْتَعْمِلُونها، خارج سياقها الثقافي، الذي تَعَلَّمْناه، نحن أيضاً، كما تعلَّمْنا لُغتَنا؟ مَنْ أشْعَل في خيالاتِكُم، كُلّ هذا العَنَتَ، لِتَكونوا أنتم الحَجَرَ الذي يمنع سَيَران الماء في مَجْراهُ؟ لِمَ لَمْ تتساءلُوا بصدد كل الأجيال التي تعلَّمَتْ بالعربية، وأضافَتْ إليها غيرها، وهي اليوم، من تكتب، وتُفَكِّر، وتُبْدِع، وتُنْتِج المفاهيم، والمعاني والدَّلالات، من أين خرجَتْ، وأين تعلَّمَتْ كُلّ هذه الأشياء؟ لِمَ اليومَ، بالذَّات حدث العَطَب؟ ماذا تقولون عن تراجُع العُلوم، وتراجُع الحِساب، وتراجع اللُّغاتِ؟ هل العربية هي مصدر كُلّ هذه الأعطاب؟ ثم هل البلاد، كاملةً، تحيا وتعيش في المعرفة والرَّفاه، ولا شيء يحبس عنها الهواء والماء، سوى اللغة التي تَسْتَعْمِلُها في التعليم، وفي الإعلام، ولو بصورة مُشَوَّهَة، مليئة بالأعطاب والمَزالِق. انتبهُوا، وأنتم تقودنَ عرباتِكم، بسرعةٍ تفوق سُرْعَةَ الطَّريق، أنَّ الطُّرُق عَمياء، وأنَّ من تقودُه الطُّرُق، وتَجُرُّه، في غَفْلَةٍ من نفسه، هو أيضاً أعْمَى، لا فرق في عمائِه، بين من رَكِبَ الدِّينَ لِيَقْتُل به الآخرين، وبين من يَسْعَى لإخْراج اللِّسان من مائِه، فهذا قَتْلٌ، هو أيضاً، أعْتَى وأخْطَر من قَتْل عُميان الدِّين، لأنَّه إفراغ للإنسان من نَفْسِه، ليصير بالُوناً مليئاً بالرِّيح، قابلاً للانفجار في كل لحظةٍ. اذْهَبُوا لألْسِنَة غيركم، كما تشاؤون، لا أحد مَنَعَ عنكم هذا الهواءَ، أو ما بَدا لكُم أنَّه الهواء، لكن، دعونا نُرَمِّم شُقوقنا، بما في يَدِنا من طِينٍ وحَجَر، فتاريخُنا، هو تاريخ جراحٍ، كثيراً ما خَرَجْنا منها ظافِرين. ليس الظّفَر أن نكون في مقدمة الشُّعوب، بل أنْ نكون صَوْتاً، لا صَدًى لِغَيْرِنا، ممن يجُرُّون خُيوطَكُم من خَلْف، أو بالأحرى، يَجُرُّون ألْسِنَتَكُم، ويأكلون الثَّوْم بأفواهِكُم. من لا يحب لُغَتنا، لا يُحِبُّنا، نحن، أيضاً. ولا يُحِبُّ حَقَّنا في أن نكون بهذا اللِّسان الذي هو لِسانٌ عَبَر الثقافات، والحضارات، وما زالتْ جِراح الحُروب الماضية عالقةً في شقوقه. مَن صَمَد في كُلّ هذا الماضي الذي مَضَى، لن يَسْقُط بِضَرَباتِ حاضِرٍ، لم يخرجْ من ماضيه. كَمْ مُؤْلِمٌ، ومُخْزٍ، أنْ يقود الجاهِلُ العارفَ، ويَدَّعِي عليه. وكَم مُجْحِفٌ أن يبقى العالِم خارِجَ الماء، ويصبح قائِدُ السفينة، جاهلاً بخبايا الطُّرق، في أعالي البِحار. كَم سنحتاج من الوَقْتِ لِنُدْرِكَ أنَّ العربية، ليسَتْ لُغَةً فقط، بل إنَّها كِيانٌ، وحياة، ووجود، وكينونة. وهي سماء، تحتها تُحلِّق طيورٌ لا ريحَ تَمْنَع عنها التَّحليق في هذا الأفق العظيم؟ قد نخسر كل الزَّمَن المُتَبَقِّي لنا، لنعود أدْراجَنا، حين يكون الوقتُ خرجَ من يَدِنا، أو اسْتَبَحْناه، بما لم نَعُد نَمْلِك عليه سُلطاناً، لِنَدَّعِي أنَّنا كُنَّا نَبْنِي، في ما نحن، كُنَّا نَعيثُ فساداً في البلاد والعِباد. حدث كثيرٌ من هذا، ولم يُقَدِّم أي من هؤلاء الذين أفَسَدوا في الأرض الحِساب، بل ثَمَّة من انتقلوا من الدَّرَك الأسفل، إلى الدَّرَك الأعلى، نكايةً في شَعْبٍ قال لا لهؤلاء، ولا لِمَنْ يستعملونَهُم كقِطَع غِيارٍ لتعطيل صيرورتنا، وَكَبْح جماح أجْنِحَتنا، هذه التي حَلَّقْنا بها في الرّيح، رغم اشْتِدادِ العواصف، وانْفلاتِها. دَعُونا نكتب، بلساننا، ونتكلّم بلساننا. وباللُّغات التي هي جزء من هويتنا، ومن تاريخنا، وحضارتنا، فنحن لا نُلْغِي اللُّغات، ولا نُقْصيها، ولا نرفض الحوار، ولا الجِوار، لَكِنَّنا نرفضُ الجَوْرَ، وكل أشكال العُدوان، سواء أكان المُعْتَدِي مِنَّا، أم من خارِجِنا. فادْرأُوا الشَّرَّ، وانظروا أين حَدَث الخَلل في مدارسنا، وجامعاتنا، بدل أن تَمَسَحُوا سكاكينكم في العربية، لأنَّ التَّخَلُّف ليس لصيقاً باللِّسان، بل إنَّه لَصيقٌ بالإنسان، ويكفي ن تَعُوا هذا، لِتَعْرِفوا الفَرْقَ، بَيْن من يُحِبُّ البلادَ، ومَنْ يراها صُنْدُوق ثَروة، ورَفاهٍ فقط.