كنت يوم الاثنين الماضي على متن القطار القادم من مدينة أمستردام نحو مدينة بروكسيل، عائدا إلى البيت بعدما حضرت اجتماعا لمكتب جمعية الأئمة بهولندا. كانت جل مقاعد القطار شاغرة لأن الوقت لم يكن وقت ذروة. جلست لوحدي، وعلى يميني مقعد شاغر وضعت عليه الحقيبة التي كانت معي والتي بداخلها بعض الأوراق وحاسوبي المحمول، ثم قمت بتعليق معطفي في المكان المخصص لذلك، وبالضبط في الأعلى من فوق رأسي، ليتدلى المعطف وراء ظهري. في مقابلي مقعدان فارغان أيضا، وبين المقعدين الفارغين أمامي والمقعدين اللذين أجلس على أحدهما طاولة صغيرة يستعملها الركاب لوضع مشروباتهم أو غيرها مما خف وزنه ودق حجمه من أمتعتهم. ولأنني كنت لوحدي أردت أن أستغل خلوتي في الكتابة، فتحت حقيبتي التي كنت قد وضعتها على يميني ثم أخذت قلما وكراسة وبدأت في كتابة مسودة موضوع حول "الأسرة المسلمة في الغرب". موضوع الأسر المسلمة شائك ومعقد جدا، لذلك أخذني الموضوع وتفاعلت مع ما كنت أكتب وسرح ذهني يعد المشاكل التي تعانيها الأسر المسلمة في الغرب، ويحاول استحضار بعضها. بينما أنا في تلك الحال، حال الفناء والاستغراق في الكتابة، إذا بي أصحو على صوت شاب جالس أمامي يسألني بنبرة خافتة: أتكتب بالعربية؟ قلت: نعم، إنني أكتب بالعربية كما ترى، قال لي: "لقد رأيتك من بعيد تكتب من اليمين إلى الشمال فعرفت أنك تكتب بالعربية، لذلك جئت أجلس أمامك لأقول لك شيئا، لكن، لا تخف ولا ترتبك ولا تلتفت بشكل غير طبيعي!" كانت ملامح الشاب لا تبعث على الاطمئنان، فمن نظرات عينيه ومن شكله تحس أن وراءه خطبا. قال لي بعد ما حيرني بطلبه أن لا أخاف ولا أرتبك: "لقد هممت أن أسرق حقيبتك ومعطفك، وكانت ستكون تلك ربما أسهل سرقة في حياتي، فمعطفك مدلى خلف ظهرك، والحقيبة سوداء تلمع تنادي السارقين، والحاسوب يظهر بداخلها"- لأنني لما أخدت الكراسة لم أغلق الحقيبة بإتقان-" وأنت وكأنك لست هنا، غير أني اتقيت الله فيك لما رأيتك تكتب بالعربية!" سقط في يدي على إثر الدهشة، ولم أعد أعرف بأي ملامح ولا بأي كلمات سأسترسل معه في الحديث. هل سأعامله معاملة اللص فأعبس في وجهه، أو أصرخ أو ربما أبلغ عنه؟ أم أراعي فضله وأحفظ قدره، حيث لم يسرقني بعد ما كان ذلك بإمكانه؟ دون شعور، وجدت نفسي أمد إليه يدي لأصافحه وأقول له: شكرا جزيلا على صنيعك معي! لأن ما كان سيسرقه مني لا تقل قيمته عن مبلغ خمسمائة أورو، حاسوب ومعطف به كل وثائقي الشخصية والضرورية. لقد وفر علي الكثير من التعب الذي كنت سأعانيه جراء تجديد الوثائق لو قدر الله وسرقها مني، ولأنني شكرته على صنيعه وتعاملت بهدوء ورزانة كما طلب مني، بدأ الشاب اللص "الأخ في العربية" يقدم لي بعض النصائح:" لا تضع أمتعتك بعيدا عنك، لا تثق أبدا، إن كنت أنا قد اتقيت الله فيك، ففي نفس القطار زملاء آخرون ربما لا يرقبون فيك إسلاما ولا عربية، راه ماشي غير أنا بوحدي اللي تندبر على راسي فهذا القطار، راه كاينين ناس آخرين خدامين على روسهم، إوا اجمع راسك". قبل أن يقوم من حديثه الذي استغرق حوالي خمس دقائق سألته، -وقد عرفت بلده من خلال اللهجة التي كان يتكلم بها- : هل أنت جزائري؟ فأجابني مبتسما، ثم انصرف. انصرف اللص "الشهم"، وبقيت أسئلة كثيرة تراودني: كيف استطاع أن يتحدث بتلك الثقة، ويلبس ثياب الناصح، ويقول بكل جرأة ووقاحة: أنا لص، وقد كنت سأسرقك، دون أن يخجل مني أو من نفسه؟ سألت نفسي أيضا هل كانت كتابتي اللغة العربية فعلا هي التي جعلته يتخلى عن سرقتي؟ ماذا لو كنت أكتب بالهولندية أو بلغة أخرى، أكان قد سرقني فعلا؟ الله أعم، لكن، ومن منظور إيماني، فليست اللغة ولا الأسباب هي التي تحفظ، وإنما الحافظ هو الله. لقد أراد الله أن يحفظ متاعي من السرقة، فهيأ لذلك سببا، ولم لم أكن حينها أكتب اللغة العربية لهيأ الله سببا آخر سيحميني به من السرقة، قد تكون ملامح الوجه أو حضور الانتباه أو غيرها من الأسباب، فالفضل إذا لله وليس للص. وأنى يكون للص فضل وهو يروع الآمنين في كل حين؟ ثم أنى يكون له علي فضل بالخصوص، وهو يشوه صورتي وصورة ديني بأفعاله المشينة، باعتباره ينتمي إلى نفس الدين الذي أنتمي إليه ويتكلم نفس اللغة ويحمل نفس الملامح؟. كم سأحتاج وسنحتاج من الوقت لإصلاح ما تفسده هذه النماذج؟ وأنا أتساءل هذه التساؤلات، تذكرت أمرا كان قد حدث معي قبل سنوات، لكن ولشدته لا زلت أتذكره ولن أنساه ما حييت: كنت جالسا في أحد الأماكن العامة في هولندا، وبالقرب مني عجوز هولندية لم تلتفت إلي حينما جلست، فجأة رأتني جالسا بالقرب منها، فإذا بها تأخذ حقيبتها – التي كانت قد وضعتها إلى جنبها- بسرعة وتضعها بين ركبتيها إحساسا منها وتعبيرا على أن في المكان من لا يؤمن جانبه!. تصببت عرقا، وتمنيت لو انشقت الأرض وابتلعتني من هول ما حدث، أنا الإمام الخطيب حامل القرآن الذي أبيت وأظل أنصح وأوجه الناس يفعل بي هكذا؟ تظن بي السرقة وأحشر مع اللصوص؟ ثم قلت في نفسي: إن هذا كله نتيجة لجرائم أمثال هذه النماذج القذرة (أعني الشاب اللص). حضرتني هذه الواقعة بعيد انصرافه وقبل نزولي من القطار. استرجعت صوابي الذي كدت أفقده تحت ضغط العاطفة نتيجة ما قام به الشاب تجاهي، وزنت الأمر بميزان الشرع فأيقنت أنه من الخيانة إن لم أبلغ عنه. بعد لحظات، مر بي عامل مراقبة من عمال القطار فناديته وأخبرته بتفاصيل ما حدث وأن في القطار لصوصا، سألني عن شكله وملامحه فأخبرته - ويا للأسف- أن ملامحه عربية مثل ملامحي!. نادى العامل في الركاب عبر مكبر الصوت أن ينتبهوا إلى أمتعتهم لأن في القطار لصوصا. غادرت القطار لما توقف بالمدينة التي أسكن فيها، وتركته يكمل طريقه في غير أمان ولا سلام نحو مدينة بروكسيل، يستمر القطار بلصوصه لتستمر معه مآسي جالية مسلمة في الغرب، بل سيتوقف القطار عند محطته النهائية "بروكسيل ميدي" غير أن قطار مآسينا لم يعلن بعد رغبته في التوقف، ولا حتى في خفض السرعة! سيندم الشاب بعد سماع التحذير على ما صنع معي، وسيرى تبليغي عنه خيانة ونذالة، وربما لن يفرق في قادم سرقاته بين ضحية يكتب بالعربية وآخر يكتب بالعبرية!. [email protected]