تعتبر تجربة الجهوية المتقدمة بمثابة رافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقاطرة في أفق مواجهة التفاوتات بين الجهات، قادرة على الإسهام في البناء الاقتصادي والاجتماعي المتوازن والعاجل للجهة. وفي هذا السياق ، جاء ميلاد اللجنة الاستشارية حول الجهوية التي أخذت من الخطاب الملكي لثالث يناير 2010 خارطة طريق بالنسبة لأعضائها، وفي هذا السياق دعت اللجنة من خلال توصياتها إلى إعادة النظر في عمق العلاقات بين السلطات والمنتخبين بهدف الانتقال من علاقات السلطة المبنية على مفهوم الوصاية إلى علاقات التشارك والتعاون والتضامن، دون الإخلال بسلطة السيادة التي تعود حتما إلى الدولة، ودون الإخلال أيضا بصلاحيات الدولة التي تمكنها من ضمان سير وتطبيق القانون والحكامة الجيدة وحسن التدبير. كما دعت اللجنة إلى تحسين وتجديد العلاقات بين مختلف الجماعات الترابية على قدم المساواة، وفي الوقت ذاته تنخرط في دينامية جهوية جديدة تستلزم التجاوب والتكامل والانسجام بين المبادرات والأعمال والبرامج، ومن تم تحقيق نموذج مرتبط بكيفية مباشرة بالحكامة الترابية الجيدة المعمول بها في المجتمعات المتقدمة من حيث مناهج تدبير الشأن العام وإيجاد آليات فعالة للتنمية والتتبع وتأهيل الموارد البشرية. إن تعزيز الجهوية ببلادنا بعد صدور الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 الذي شكل نقلة نوعية في تعاطي الدولة مع مفهوم الجهات حيث تم تخصيص الباب التاسع منه « للجهات والجماعات الترابية الأخرى »، كتعبير عن إرادة المشرع في الارتقاء بالجهوية ببلادنا. ومن بين جميع المستجدات والميزات التي تشكل نقاط قوة الدستور الجديد ، يبقى مبدأ الجهوية المتقدمة الذي بات الدعامة الأساسية للإدارة الترابية، حجر الزاوية في تكريس لامركزية متقدمة وتنمية محلية ، والتي أضحت أكثر من أي وقت مضى ، في صلب انشغالات وأهداف مغرب اليوم. فقد تم تخصيص باب "تاسع" وما لا يقل عن 12 فصلا من الدستور للجماعات المحلية ممثلة بالجهات والعمالات والأقاليم والجماعات التي أضحت هيئات لامركزية تتوفر على آليات وأدوات ووسائل قانونية ومالية لتمكينها من الاضطلاع بالدور المناط بها كمحرك أساسي للتنمية. ومقارنة مع مقتضيات الدستور المعمول به منذ عام 1996 ، فإن حجم ومضمون الباب التاسع من دستور 2011 ، يعكس الزخم الكبير الذي حظيت به اللامركزية والجهوية كخيار لا محيد عنه في التنمية المندمجة والمستدامة ، وفي هذا الباب نذكر بأن دستور عام 1996 قد كرس في الباب التاسع بفصوله الثلاثة "100 و 101 و 102" دستورية الجماعات المحلية ، غير أنه اقتصر فقط على تسمية مكونات هذه الهيئات المنتخبة ، مع تسليط الضوء على صلاحيات ومسؤوليات العمال الذين "ينفذون" قرارات مجالس العمالات والاقاليم والجهات. أما في دستور 2011 ، فإن رؤساء مجالس الجهات ورؤساء مجالس الجماعات الترابية الأخرى يقومون بتنفيذ مداولات هذه المجالس ومقرراتها ، كما تساهم الجهات والجماعات الترابية في "تفعيل السياسة العامة للدولة وفي إعداد السياسات الترابية ، من خلال ممثليها في مجلس المستشارين". وفي نفس السياق ، ولضمان مشاركة حقيقية للمواطنين في تدبير الشأن المحلي ، فإن نص الدستور قد اعتمد مقاربة تشاركية ، حيث أن مجالس الجهات والجماعات الترابية الأخرى تضع آليات تشاركية للحوار والتشاور لتيسير مساهمة المواطنات والمواطنين والجمعيات في إعداد برامج التنمية وتتبعها، وفضلا عن هذه الاختصاصات الجديدة، أضحت الجهات والجماعات الترابية الأخرى، تتوفر أيضا ، "في مجالات اختصاصاتها وداخل دائرتها الترابية، على سلطة تنظيمية لممارسة صلاحياتها" ، في حين يساعد ولاة الجهات والعمال ، رؤساء الجماعات الترابية ، وخاصة رؤساء المجالس الجهوية ، على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية. وتأسيسا على ذلك ، فإن دستور 2011 ليمهد ، من خلال أحكامه المتقدمة التي تعيد تنظيم الاختصاصات بين مختلف المؤسسات الدستورية، الطريق أمام إعادة تنظيم ديمقراطي للاختصاصات بين الدولة والجهات، مع تكريس المبادئ الأساسية للجهوية المغربية، والمتمثلة في الوحدة الوطنية والترابية، والتوازن والتضامن والممارسة الديمقراطية ،وانتخاب مجالس الجهات عبر الاقتراع المباشر ونقل السلطات التنفيذية لهذه المجالس إلى رؤسائها ، وتم تدعيم هذا النظام من خلال إحداث صندوق للتضامن بين الجهات وصندوق للتأهيل الاجتماعي لسد العجز في مجالات التنمية البشرية والبنيات التحتية الأساسية والتجهيزات. وبالتالي، فإن الدستور الجديد يعكس الأشواط الهامة التي قطعها المغرب في ما يخص المقتضيات القانونية والموارد المالية والبشرية، على درب تعزيز استقلالية الهيئات المنتخبة، بهدف جعل اللامركزية والجهوية على الخصوص، رافعة حقيقية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إن التجربة الترابية ببلادنا، ليمكننا أن نقول بشأنها بأنها أمام رهان حقيقي ، قوامه الجرأة في التنزيل السليم والاني للقوانين التنظيمية الخاصة بالجماعات الترابية ومن بينها الجهات ، هذه الأخيرة التي بوأتها الوثيقة الدستورية الحالية مرتبة الصدارة ، كما مكنتها من اختصاصات يمكننا أن نقول بشأنها بأنها ستخدم لامحالة واقع مغرب الأوراش التنموية الكبرى ، غير أن الأمر لن يتأتى بلوغ تنزيل أهدافه ومن ثمة حصد نتائجه بدون قوانين تنظيمية تتماشى والتوجهات الجديدة للدستور الحالي بشأن الوضع الجديد لمجالات تدخل الجماعات الترابية في تدوير عجلة التنمية الاقتصادية ، الاجتماعية والثقافية. إن الأمل لمعقود ، على كل مكونات الخريطة السياسية أغلبية ومعارضة بالإضافة إلى منظمات المجتمع المدني ، والمواطن ، من أجل تكثيف جهود الجميع ، والعمل على ميلاد قوانين تنظيمية تستجيب لمعايير التنمية الترابية المتوازنة ، بعيدا عن الحسابات السياسية الضيقة ، والتي وإن استمر استفحالها سوف لن تخدم مسارنا التنموي في شيء. [email protected]