*هذه القصة جزءا من الرواية القصصية (تاريخ روحي)التي ستصدر قريبا في بيروت بغداد القرن الحادي عشر ها أنا ما أزال أزحف وأزحف في هذا النفق المعتم الذي أجهل نهايته. أنا (الأمير التواب) ابن (الخليفة القادر)، هارب من الموت، تائه في أحشاء الأرض. يفتشون عني لأني وريث العرش الوحيد، بعد أن اغتالوا أبي وأبادوا عائلتي وحطموا قصري واستولوا على أملاكي. لا أدري كم من الزمن مرَّ وأنا أجول تائها في أحشاء الأرض في هذا النفق السري في أطراف بغداد. ظلمة حالكة وصمت مطبق لا يتخلله غير صجيج أنفاسي. عندما أنهض لأتحسس ما حولي، يصطدم رأسي بسقف. في كل حركة أتوقع أن يبتلعني وحش رابض أو أسقط في هاوية بلا قرار. الذين اغتالوا أبي لم يعلموا أني منذ أعوام لم أعد وريثه فقد أوصى بإبعادي عن سلطانه، باعتباري مارقاً زنديقاً من أتباع العقيدة المعتزلية. وأنا في الحقيقة كنت أكثر من ذلك، أميل إلى التصوف وأنبذ حياة الترف والبذخ وأعاشر زهاد بغداد والبصرة وأحاور أهل الفكر والبرهان. تصير أرض النفق أكثر طينية كلما أتوغل، حتى يستحيل الدرب إلى شبه مستنقع من أطيان وبرك مياه تعبق بعتق. لقد أنهكني تعب وجوع وعطش. من دون وعي أحني رأسي على الأرض وأشرع باللعق من برك المياه مثل حيوان. إنه ماء عذب فأشرب حتى أرتوي. أستلقي بظهري على الأرض الطينية وأتمرغ بالأوحال متلذذاً باكتشاف جسدي الذي بدأت تسري فيه دماءُ الحياة. أمضغُ بفمي الأطيان والطحالب. أطلقُ أصوات شبع وانتشاء. صرخاتي تنطلق صامتة في أعماقي ويهتز لها كياني من دون أي ضجيج. كم نصحت أبي أن يحذر من حاشيته الفاسدة، ويقرب أهل الخير والعلم؛ فأخبار الظلم والقسوة صارت كثيرة الانتشار في بغداد وأنحاء بلدان الخلافة، والصراعات بين المتنافسين والطامعين قد استفحلت، والثوار والمتمردون زاد انصارهم. حينما تصاب الحضارة بالتخمة يستشري الطمع والتبلد في النفوس.. يبتعد الناس عن رب الخير والمحبة ويتقربون من شيطان الشر والانحطاط الذي يغويهم بالمطامع والتحاسد ضد بعضهم البعض. يعم الظلم وتنطلق طاحونة الحقد الجهنمية بدوارنها فيفرض الانحطاط سلطانه ويعّم الدنيا الخراب. يبلغ الفساد والتناحر ذروتهما حتى يشرع الناس بالاستعانة بالغرباء للانتقام من بعضهم البعض. تكثر الفتن والحروب وتخرب السدود ويتفجر الطوفان الأعظم وتغرب الشمس عن البلاد وتغدو الحياة خربة تعيث فيها طواعين وجحافل غزاة. أشعر بالأفكار في رأسي خارجة عن المألوف؛ تارة تبدوا مجسمة تطير وتزحف حولي حتى أكاد أن أمسكها في الهواء والأطيان، وتارة تبدوا مثل أصوات تصدح حولي. تختلط عليّ الأمور وتمتزج الأحاسيس. لا أدري هل أنا أفكر أم أرى أم أسمع؟ من حولي وفي أعماقي تتردد أفكار وأصوات تقول: الإنسان من الأرض يولد وينمو ويكبر وإليها يعود. مهما تحضر وتجبر فإنه يظل في أعماقه بعضاً من تاريخه البدائي المنسي. يظل ميراثه الحيواني المخزون يطوف في مجاهل البدن. ما يولد ويستمر بالتناسل إلاّ من أجل أن يسمو على ماضيه الحيواني الفاني، ليستحيل إلى ملاك خالد. الإنسان ما هو إلاّ معبر بين الحيوان والملاك.. بين البدن والروح.. بين المادة والمطلق.. إن جهنم الإنسان تكمن في حيوانيته، وجنته تكمن في روحانيته.. وداعا يا بغداد، يا أرض جذوري ومأوى حبي ومدينة ذكرياتي وأحلامي وأمجادي. يا ترى أأعود إليك ذات يوم؟ * * * بعد زمن مجهول أصحو من إغفاءة فأرى العتمة قد خفتت. أمامي ممر نفق طويل يكفي لمرور انسان. في النهاية البعيدة تظهر هالة أشعة مثل ضوء نهار يتسلل عبر منفذ بعيد. أركض وأركض متجهاً نحو النهاية، أملُّ وأتعب بعد ساعات وأنا أرى الضوء البعيد يختفي بالتدريج ومازال بعيداً، أعرف أن الليل يحل فأترك نفسي تغرق في نوم، أظل على هذه الحال زمناً لم أحسبه. أركض وأركض من دون أن أبلغ مصدر الضوء. أركض في النهار وأنام في الليل وغذائي الوحيد مياه النفق والطحالب والأعشاب. ثيابي تتمزق ولا يتبقى منها على بدني غير أسمال وأطيان تعفر كل بدني. أصير بأجمعي من طين. الطحالب والأعشاب تنمو فوقي وأصبح جزءاً من الأرض. رغم التعب والضنك فإني أظل في أعماقي مؤمناً بقرب خلاصي؛ لأني أريد فعلاً الخلاص ومقتنع بكل جوارحي بأني لا بد أن أبلغه.. لا بد من ذلك. عذابات النفق ضرورية للارتقاء من كينونة سفلى إلى كينونة عليا، أدرك جيداً أني سأظل حياً ما دمتُ متشبثًا برؤية النهاية المضيئة، حتى عندما يحل الليل فإني أرى الضوء في دواخلي. فجأة يهتز صمت النفق بانفجارات وبروق، ويمتلئ المكان بدخان وغبار يخنقني، وأحس بنفسي أنهار وأتدحرج في منحدر جبار يبتلعني في أعماق مجهولة.. أظل أتدحرج وأتدحرج.. رغم فقداني السيطرة على كياني إلاّ إني أرى دائماً بصيص نور وفي داخلي نداء يجلجل: حي.. حي.. حي. * * * أجد نفسي في حمرة شفق، تائه بين بوادي ومرتفعات صخرية. الأرض جسد امرأة ينتظر خصباً. بعد زمن أجهله وأنا هائم في البوادي أعتاش على بعض النباتات البرية، تظهر فجأة من بعيد مجموعة ذئاب متجهة نحوي ببطء وهي تحدق بي، كأنها تتفحص وضعي للتأكد من أني وحيد. أتجمد في مكاني مرتعباً، وأتلَّفت حولي عسى أن أعثر على ما ينقذني. لا ألمح إلاّ ربوات هنا وهناك لا تشكل أي حماية، بسرعة لا أتوقعها أراها تفترق عن بعضها وتشكل دائرة حولي، وهي تقترب بشكل متناسق كأنها تطبق خطة، تزمجر وترمقني باشتهاء كأنها تحاول أن تختار القطعة الأفضل مني، لا أحس بالرعب من الموت، بل من المهانة والذل أن أترك بدني تعبث به هذه الحيوانات. مع صرخاتي الهوجاء التي تصدح في البرية وتشق عباب السماء ألوح بعصاي وأشهر خنجري، فتتراجع الذئاب قليلاً، لكنها كعادتها تعود وتهاجمني وبوثبة واحدة تصيرت فوقي، لا تنفع معها ضربات عصاي ونهش خنجري؛ إذ أسقطُ أرضاً وتشتد ضراوة صرخاتي متخذة طابع عتب وملامة للإله، وأنا أنخوه وأناجيه وكأني أراه شيخاً محارباً واقفاً يشاهدني بلا حراك: يا الله وينك؟ يا الله .. خلصني .. وينك يالله؟! معركة ضارية لم أشعر خلالها بوجع الأنياب والمخالب وهي تمزق لحمي؛ فثمة رغبة جياشة واحدة تفور في دمي: أن أستنفذ آخر ما تبقى لي من لحظات الحياة؛ كي أمارس حقي بالانتقام وتفريغ حقدي الانتحاري ضد هذه الكائنات التي تغتصب مني حياتي. قناعة مطلقة بأن هذه الذئاب هي مختصر كلي لجميع السفلة الذين استغلوا طيبتي وسببوا لي الأذى في حياتي. أرى وجوه جميع الأصحاب الذين غدروا بي وأذاقوني سم الخيانة في ذلك الذئب الذي أطبق على عنقه بقبضتي وأنهش لحمه بأسناني. * * * أثناء لحظات الغيبوبة الأخيرة، أحس بأنياب صلبة مثلجة تخترق لحمي، تذوب في دمي الساخن وهو يفور ويفيض، ثم يفيض ليصير بحراً تعصف فيه ريح تسمو بموجاته إلى الأعالي والأعالي ليصير روحاً تطوف في كون من نور. أصير كائناً من أثير، أحلق في الأعالي وتحتي قطيع ذئاب تنهش ببدني المهجور، عاصفة غبراء تحيطني ولا تعميني، البادية تمتد تحتي حتى حدود الأرض، في كل أرجاء الكوكب أرى قطعان ذئاب تنهش بأبدان تهجرها أرواح تحلّق في أعالي الكون. كم أشعر بالشفقة نحو عالم الذئاب والضحايا الذي أخلفه ورائي. السماء كلها تستحيل إلى نفق من نور، أغور فيه وأغور، كما لو أن روحي مدفوعة بشوق وحنين إلى حب قديم، تتناسخ في عوالم أليفة بأبدان سالفة سبق أن عشت فيها: نطفة في لجة طوفان.. جنين يطوف بين أمواج.. وليد يحبو على ضفاف.. طفل يتقافز في غابة.. شاب يعيش في مغارة.. ثم رجل يشيّد مدناً ويخوض حروباً وحروباً لا تنتهي ضد جحافل غزات مدججين بجوع وطواعين تدمر المدن وتفتك بالبشر وتطلق على النهرين وحوش طوفان؛ لتبيد الإنسان وتغسل عن الوطن نسله الفاسق. تجول روحي في كل الأوطان وتتقمص أبدان من جميع الأقوام: نساء ورجال، فقراء وأغنياء، مؤمنون وجاحدون، ملوك وأنبياء ومجرمون وثوار وخونة. خلال حقب وحقب وروحي الجوالة تعيد دورتها من جديد: نطفة تنبثق من طوفان تصير جنيناً ثم إنساناً تنهشه حروب ويغرق من جديد في طوفان يتصاعد ويتصاعد حتى يصير روحاً من نور تهيم في الأعالي نحو حشود من نور. بعد أن تمحق النفوس الفاسدة وتتطهر الأرض بحروب ومجاعات وطواعين وطوفانات يمل البشر من الخضوع للغواية الشيطانية ويتعبون من الحقد والتحاسد، عندها تبدأ براعم الأخوة والحب تنبثق بسرية في النفوس وتنصت الاسماع إلى كلام الحق الذي ينطق به الأنبياء والمصلحون ويسري الإيمان بطيئاً في القلوب، وتتراجع طاحونة الحقد والتحاسد أمام تقدم فلك الحب والتآلف، فتستقر الأوضاع ويسود الحب والوئام وتعود الحضارة من جديد من أجل تكرار دورتها الأزلية. * * * بعد حقب وحقب من التناسخ والتجوال بين حيوات لا تحصى، أجدُ نفسي في كون فضي خلاب أطوف فوق مياه متوهجة بزرقة وحولي خضرة وزهور وفراشات وعصافير. أناس من مختلف الأعمار والأجناس والأشكال يطوفون بثياب بيضاء يتضاحكون ويتصافحون ويتراقصون. فوق عرش شمس دافئة يجلس شيخ جبار وقور تمتد يداه خطوط ذهبية تتلقفني وتحملني نحو شجرة عملاقة بلا منتهى، متوهجة بخضرة فضية جذعها أطيان وأغصانها غيوم وأوراقها نجوم وثمارها أقمار. أمضي حياتي الأبدية مع إخوتي البشر، أيادينا متشابكة نرقص ونغني حول أمنا شجرتنا الطيبة نتغذى من ثمارها، ونتسلق أغصانها الخضراء الحمراء الزرقاء الليلكية، وأبي شمس يحمينا ويداعبنا بأيادي من أشعة ذهبية.