تعرضنا في المقال السابق للنوع الأول من النهي الوارد في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو النهي المصحوب بقرينة دالة على التحريم. وانتهينا إلى أنه نهي تشريعي تحريمي أبدي، أي أنه يحرم المنهي عنه على الصحابة والأمة. وهو في جوهره نهي من الله تعالى، لا دور للنبي صلى الله عليه وسلم فيه إلا التلقي ثم التبليغ والبيان. وقد تضمن مقالنا الأول حقائق ومعلومات، يعرفها المشتغلون بتاريخ التشريع ونشأة المذاهب الفقهية والمدارس الأصولية، كتعدد مواقف السلف من مدلول النهي في الكتاب والسنة قبل استقرار المذاهب الفقهية ومدارسها الأصولية على أيدي الحكومات. وهي حقائق بدهية لم يسمع بها بعض الأحبة المعلقين، فطالبوني بالتوثيق والتمثيل. ونظرا لأنها معروفة مشهورة، يستطيعون الوصول إليها بسهولة، ولأننا في مقال لا في بحث أكاديمي، فإنني أعتذر إليهم عن عدم استعدادي لمجاراتهم فيما يقترحون، وأنصحهم بالمطالعة والبحث في المصادر والمراجع الأمهات، كما أدعوهم لسؤال المختصين الموضوعيين. هذا، وقد عاب علينا بعض الإخوة المتابعين تفريقنا بين النهي في القرآن والنهي في الحديث الشريف، لأنه تفرقة لم يفعلها المتقدمون حسب زعمهم. والجواب من وجوه: أولا: إن التفريق بين القرآن والحديث كان أمرا بدهيا مسلما لدى السلف من الصحابة والمجتهدين قبل عصور الانحطاط والتقليد، فلم نبتدع شيئا جديدا، بل نهدف لإحياء القواعد السليمة المطموسة بفعل التعصب. ثانيا: إننا متعبدون باتباع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على فهم مجتهدي الصحابة الأعلام دون غيرهم، وما كان الفقهاء والأصوليون إلا رجالا يجتهدون لزمانهم وظروفهم، ويحاولون فهم النصوص الشرعية وفق معايير تبدعها عقولهم المتأثرة بالأرضية المعرفية السائدة في عصورهم. وقدكانت بعض معاييرهم مقبولة لدى فئات عريضة من معاصريهم، لكنها معيبة في عمقها، لذلك اختلفت مدارسنا السنية وتعددت. ثالثا: لو كنا راضين على كل ما قعده السابقون ورسخوه، ولو كنا مقدسين للأشخاص، ما خضنا لجة هذه القضايا الشائكة، فلا يصدعن أحد رأسنا بمثل هذه الانتقادات النابعة من العاطفة وتقديس الأشخاص على حساب المبادئ. إنالنقد العلمي الموضوعي يتوجه إلى ما نعتمد عليه من أدلة وشواهد، فإن كانت آراؤنا مؤسسة على البراهين الصحيحة المعقولة ، فهي حق وصواب لذاتها لا لشخصي، وإن كانت غير ذلك فبينوا لنا بالعلم لا بالتعصب والعناد، فالحق أحق أن يتبع. وإن نبينا صلى الله عليه وسلمكان يستفيد من بني إسرائيل المنكرين لرسالته، فصام عاشوراء وأمر به، واستقبل في صلاته بيت المقدس تبعا لهم، فهل علماؤنا والباحثون منا على استعداد لاقتفاء سنة المعصوم، فيقبلون الحكمة أيا كان قائلها؟ هذا، وليس في سريرتي أي تحامل على الأئمة المجتهدين الكبار، كساداتنا فقهاء المذاهب الأربعة وأمثالهم، فقد كانوا رحمهم الله متحررين من التعصب والتقليد، وإنما مشكلتنا مع المقلدة والمتعصبين الذين لم يفهموا الرواد المؤسسين، ولم يتقبلوا الحرية الفكرية كما أصل لها هؤلاء الأسلاف، بل ولم يلتزموا آراءهم واختياراتهم إلا نادرا، وهم يدعون أنهم على خطاهم يسيرون. ثم نعود لاستكمال المقصود، فنقول وبالله التوفيق: النوع الثاني من النهي النبوي: هو النهي الصادر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجردا عن أي قرينة، متصلة أو منفصلة، تفيد التحريم صراحة أو تلميحا، كأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: "لا تفعل كذا"، أو "أنهاكم عن كذا"، أو يقول الصحابي: "نهاني أو نهانا رسول الله عن كذا"... في هذه الحالة ننظر إلى أي مجال ينتمي المنهي عنه: أولا: مجال العقيدة والعبادة: إذا كان المنهي عنه متصلا بشيء من العقائد أو العبادات المحضة كالصلاة، فالنهي المجرد عما يفيد التحريم والبطلان، يحمل على الكراهة التنزيهية، ويكون تشريعا عاما أبديا يشمل الصحابة ومن بعدهم، لأن الأصل في العقائد والعبادات التوقيف والاحتياط. ومن هذا النوعنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التبول في مكان الوضوء والاغتسال، ونهيه عن الإسراف في الوضوء، فإنهما مكروهان عند الجمهور تنزيها لا تحريما. ومن ذلك حديث مولاتنا عائشة الصديقة الطاهرة المخرج في صحيح مسلم: (كَانَ أي سيدنا النبي ينهى عن عقبة الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع). فنهى النبي صلى الله عليه وسلمهنا عن حالين: الأول: "عقبة الشيطان"، وهو الإقعاء بين السجدتين، حيث يُلصق المصلي أَلْيَتَيْهِ بالأرض، ويَنصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض. والثاني: افتراش الذراعين في السجود، كما يفترش الكلب وغيره من السباع. والنهي عنهما محمول عند الفقهاء على التنزيه والكمال، لا على التحريم والبطلان، لأنه لم يتضمن أي قرينة تفيد التحريم. ومن زعم أن الإقعاء والافتراش فعلان محرمان يبطلان الصلاة بدعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنهما، أو لأن فيهما تشبها بالشيطان والسبع، فهو مخبول في عقله عند العلماء. وبالمناسبة، فمن أخطاء بعض الأصوليين والفقهاء، الزعم بأن نسبة الشيء إلى الشيطان أو تشبيهه بهيفيدان التحريم، وهو غلط فاحش سمعنا بعض الدعاة والعلماء يكررونه تقليدا للمجازفين بالدين، وتقصيرا في تأمل نصوص الشريعة. وبناء على هذه (القاعدة) المناقضة لصحيح السنة، حرم كثير من المنتسبين لعلوم الشريعة الغناء والموسيقى بحجة قول سيدنا ومولانا أبي بكر الصديق عن الغناء وضرب الدف: (أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟) ولسنا بصدد مناقشة ما ذكرنا هنا استطرادا، لكن يجب تذكير المنفرين المعسرين بهذاالحديث الصحيح، والذي يتجاهلونه عندما يتكلمون في موضوع الغناء: رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يلعب بطائر من الحمام، فقال: "شيطان يتبع شيطانا". رواه أحمد، والبخاري في الأدب، وأبو داود وابن ماجه. ونحن نسألهم فنقول: أيها السادة، أيهما أشد: قول مولانا رسول الله في الحمام؟ أم قول سيدنا أبي بكر في الغناء؟ سيقولون: بل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأنه رسول مبلغ، ولأنه سمى الحمام شيطانا، والتسمية أبلغ وأقوى من النسبة. وهنا نفجعهم بهذا السؤال: هل أكل الحمام أو تربيته وبيعه وشراؤه حرام ما دام النبي صلى الله عليه وسلم سماه شيطانا؟ سيتلعثمون وينفعلون، لأنهم لا يحسنون غير ذلك، وربما يشتمك أحدهم ويتهمك في إيمانك لأنهم لا يتواضعون إلا من رحم ربك، ولنا تجارب مع القوم، فلا تتهمنا بالتحامل رعاك الله أيها القارئ المحترم. ثانيا: مجال الحياة الدنيوية: إذا كان المنهي عنه يندرج في مجال من مجالات الحياة، كالسياسة والاقتصاد والعادات والأعراف الاجتماعية ونحو ذلك، ولم يصرح النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم المنهي عنه، فالنهي في هذه الحال اجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم في تسيير شئون رعيته لا وحي من الله تعالى، وبالتالي فهو خاص بزمن النهي وبالصحابي أو الصحابة الذين توجه النهي إليهم، ولا يصلح اعتباره تشريعا عاما خالدا أبديا. وعليه، فلا يعقل الإفتاء اليوم بتحريم أو كراهة شيء دنيوي بدعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه أصحابه، نظرا لحجم الاختلاف بين عصرنا وعصر النبوة. فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن بيع العربون، لكنه اليوم من ضرورات ولوازم المعاملات التجارية الكبرى. ونهى عليه السلام، أن يبيع حاضر لباد، أي أن يأخذ التاجر المقيم بالمدينة المنتوجات الغذائية من الفلاح القروي قبل أن يصل السوق، ليبيعها لأهل المدينة بسعر يزيد على ما يطلبه الفلاح البدوي. وهو إجراء اقتصادي واجتماعي أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم رفقا بالمسلمين في مجتمعه المدني البسيط، وكانت أحوال عصره الفلاحية والتجارية تسمح بذلك. ولو فهمنا أن ذلك النهي تحريمي مؤبد لتعطلت مصالحنا اليوم، ولكان ذلك حجة على عرقلة الشريعة للحياة. فالتجار هم الواسطة بيننا وبين الفلاحين، والفلاح المعاصر لا تسعفه ظروفه لينقل منتوجاته بنفسه إلى الأسواق ويبيعها بالتقسيط للمستهلك، وساكن المدينة لم يعد بإمكانه السفر إلى الضيعات والحقول... ونهى النبي عليه السلام أصحابه عن كراء أراضيهم الزراعية، وأمرهم بمنحها لمن يرغب في حراثتها دون مقابل. وهذا كان قرارا إداريا واجتماعيا مؤقتا بزمن النبوة ومجتمع الصحابة، ولا علاقة لهبالتحريم والتشريع الدائم، وإلا فمن يقدر اليوم أن يمنح أرضه لقريبه أو جاره دون تعويض؟ إن المسلمين الأوائل لم يفهموا أن النهي النبوي المرتبط بالشئون الحياتية يستلزم التحريم أو الكراهة، بل فهموا ما لخصناه، لذلك انتشر بيع العربون وكراء الأراضي والتوسط بين الفلاح والمستهلك ... بعد توسع الدولة الإسلامية بفعل الفتوحات وما تبعها من تحولات في نمط الحياة. وقد ظهرت تلك المعاملات التي نهى عنها رسول الله أيام سيدنا عمر الفاروق، وترسخت بعده، فهل كان الصحابة متمردين على النهي النبوي؟ أم كانوا يفرقون بين النهي التنظيمي والنهي التشريعي؟ أما نحن فقد اخترنا التفريق، لذلك فالصحابة عندنا لم يقعوا في أي مخالفة أو سوء أدب. وأما الذين لا يفصلون بين ما هو ديني محض وما هو دنيويخالص، ولا يميزون بين النهي المقرون بالتحريم وبين النهي الخالي المجرد، ولا يعترفون باختلاف الأحوال من جيل إلى جيل، ومن بلد إلى آخر، ولا يسلمون بأن النبي كان يجتهد لأهل زمانه وفق ظروفهم بوصفه حاكما وقائدا، فيقعون في "حيص بيص"، ويتخبطون ويتناقضون، ولا يستقرون على منهج مستقيم، بل يتناقضون ويضطربون، فيشوهون دينهم وينفرون منه القريب والبعيد. وربما احتجوا على تحريم مسألة دنيوية بنهي النبي المجرد، ثم إذا وجدوا غيرهم يحرمون شيئا بنفس الحجة، وكان أئمة مذهبهم يبيحونه، سارعوا إلى القول بأن النهي المجرد لا يقتضي التحريم. وهكذا يفعل أتباع كل المذاهب الفقهية، وما عليك إلا أن تنظر في كتب الخلاف العالي، كمحلى ابن حزم ونيل الأوطار للشوكاني لتعرف إن كنت منكرا. وهذا لون من التلاعب بالشريعة تعصبا وعاطفة. تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة في أمور الدنيا هو الأصل: كان النبي صلى الله عليه وسلم إماما حاكما، ومرشدا اجتماعيا، وقائدا عسكريا... وهذه الناحية منه عليه السلام، كانت تسمح له بالاجتهاد في إطار أحكام القرآن وتوجيهاته، فيسعى عليه الصلاة والسلام لتنفيذ الأوامر القرآنية، وإدارة شئون رعيته وفق ظروفه وعصره. وكان مأذونا له ، كأي إمام وحاكم عادل مجتهد، أن يمنع المباحات أو يقيدها تحقيقا للمصلحة العامة، وتربية متدرجة لأصحابه. وكان عليه السلام يجتهد أحيانا فينهى الصحابة عن الشيء، ثم يتغير اجتهاده عليه السلام، ويظهر له أن الإجراء الذي اتخذه دون وحي من الله ليس ملائما، فيأذن لهم بعد النهي. وكان القرآن يتدخل أحيانا تعقيبا على بعض قرارات النبي صلى الله عليه وسلم وإجراءاته تصويبا وتصحيحا، كما في شأن أسرى بدر. وأحيانا لا يتدخل لما سبق في علم الله من أن النبي سيتراجع عن المنع بعدما ترتفع أسبابه، أو يتأكد لديه أنه خالف الأولى. نماذج من النهي النبوي الاجتهادي المرحلي ما ذكرناه هنا وقررناه يدركه كل عالم فقيه، وهو موضوع الإمام القرافي في كتاب "الفروق". ومن الأمثلة الشهيرة في هذا الباب حديث تأبير النخل،وفيه تلك القاعدة الذهبية: "أنتم أعلم بشئون دنياكم". وعلى الرغم من كفايته في إثبات المقصود، فإن جل ساداتنا العلماء لا يقفون عند معانيه وأسراره، فتوجب أن نورد لهم أمثلة إضافية لعلهم يستيقظون ويتنورون: المثال الأول: لم ينزل الله في القرآن نهيا عن زيارة قبور المشركين، فاجتهد النبي صلى الله عليه وسلم، بصفته إماما مفتيا، ونهى أصحابه عن زيارتها أول الأمر، ظنا منه أنه لا نفع في زيارة المقابر، وأنها توقع أصحابه في المخالفات والشرك. ثم ظهر له أن ما ظنه غير صحيح، وأن الزيارة تقوي الإيمان وتذكر الآخرة، فتراجع عن المنع والنهي، وأذن للمسلمين في زيارة موتاهم ولو كانوا مشركين، ونهاهم عن المخالفات. ونهى أيضا عن إمساك لحوم الأضاحي أكثر من ثلاثة أيام، ظنا منه أن ذلك يعرض الفقراء والضيوف للجوع، ثم تراجع عن ذلك. وكان عليه السلام يظن أن وضع نبيذ التمر أو الزبيب في بعض الأوعية يساعد على تحولها إلى خمر مسكر، فنهى المسلمين عن الانتباذ فيها وأمر بكسرها، فاشتد على المسلمين ذلك لأنهم لم يكونوا يجدون غير الأوعية التي نهى عنها. ثم إنه توصل إلى أن الوعاء لا يؤثر في السائل الموضوع داخله، فرفع الحظر والمنع، وأعلن رجوعه عن النهي. وبعض العلماء يتهربون من الاعتراف بأن النبي نهى عن هذه الأشياء باجتهاده وخبرته، فيزعمون أنها نماذج لنسخ السنة بالسنة. والحقيقة غير ذلك تماما. فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى ومنع ولم يصرح بالتحريم، ثم لما تراجع عن قراراته عللها بما يفيد أنه كان مجتهدا. والصحابة كانوا مأمورين بطاعة أوامره باعتباره إماما واجب الطاعة، كما هو حال أي حاكم عادل راشد، لذلك امتثلوا الأمر النبوي رغم أن بعضهم لم يكونوا مقتنعين ببعض تلك القرارات. ولو أنه نهى نهي تشريع وتحريم، لنسب ذلك إلى الله تعالى، ولما اعترض بعض أصحابه الأطهار. وقد جمعت بين الأمثلة الثلاثة لأن التراجع عن منعها جاء في حديث واحد: روى الإمام مسلم من حديث بريد رضي الله عنه قَال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فامسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الاسقية كلها ولا تشربوا مسكرا". وفي صحيح مسلم عن أَبِى سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا أهل المدينة، لا تأكلوا الأضاحي فوق ثلاث " . فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لهم عيالا وحشما وخدما فقال: "كلوا وأطعموا واحبسوا وادخروا". وفي صحيح مسلم عن سيدنا سلمة بن الأكوع أن رسول الله قال: " من ضحى منكم فلا يصبحن في بيته بعد ثالثة شيئا"، فلما كان في العام المقبل قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا عام أول؟ فقال: " لا، إن ذاك عام كان الناس فيه بجهد، فأردت أن يفشو فيهم". وصح في الموطأ ومسند أحمد عن أبي سعيد الخدري قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني نهيتكم عن لحوم الأضاحي وادخاره بعد ثلاثة أيام، فكلوا وادخروا فقد جاء الله بالسعة، ونهيتكم عن أشياء من الأشربة والأنبذة فاشربوا وكل مسكر حرام، ونهيتكم عن زيارة القبور فإن زرتموها فلا تقولوا هجرا. وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن حبان والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور وأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث وعن نبيذ الأوعية، ألا فزوروا القبور فإنها تزهد في الدنيا، و تذكر الآخرة، و كلوا لحوم الأضاحي وأبقوا ما شئتم فإنما نهيتكم عنه إذا الخير قليل توسعة على الناس، ألا أن وعاء لا يحرم شيئا، فإن كل مسكر حرام. وصح عن أنس بن مالك أن النبي قال: ألا إنى كنت نهيتكم عن ثلاث: نهيتكم عن زيارة القبور ثم بدا لي أنها ترق القلوب وتدمع العين فزوروها ولا تقولوا هجرًا، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث ثم بدا لي أن الناس يبتغون أدمهم ويتحفون ضيفهم ويرفعون لغائبهم فكلوا وأمسكوا فيما شئتم، ونهيتكم عن الأوعية فاشربوا فيما شئتم، من شاء أوكى سقاءه على إثم. (أخرجه أحمد وابن أبي شيبة وأبو يعلى والبيهقي والضياء، وصححه الحافظ الضياء، والأرنؤوط طريق أحمد بالشواهد). فنهيه صلى الله عليه وسلم عن الأمور الثلاثة دون نسبة النهي إلى الله، ثم تراجعه السريع عن المنع، وقوله صلى الله عليه وسلم في رواية أنس: "ثم بدا لي" كل ذلك صريح في أنه كان مجتهدا لا متلقيا للوحي، وأنه نهى عن تلك المسائل من باب تسيير شئون المجتمع لا على سبيل التحريم. وهذه روايات خاصة بالتراجع عن منع الانتباذ في الأوعية التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها، نذكرها لما فيها من مزيد فائدة: في صحيح البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الظروف، فقالت الأنصار: إنه لا بد لنا منها، قال: ( فلا إذا ) . "الظروف" هي الأوعية التي كانوا يضعون النبيذ فيها، وقوله: (فلا إذا) أي فلا أنهاكم عن تلك الظروف طالما أنكم في حاجة إليها، هكذا فسره العلماء، وهو كذلك. واعتراض الأنصار دليل على أنهم فهموا من كلام النبي أنه مجتهد لا مبلغ للوحي، إذ لو كان غير مجتهد لما ترددوا. وأخرج أحمد والشيخان وأبو داود، واللفظ له، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأوعية: الدباء والحنتم والمزفت والنقير، فقال أعرابي: إنه لا ظروف لنا؟ فقال عليه السلام: «اشربوا ما حل». وله شاهد صحيح عن أبي هريرة، وفيه: إني لشاهد لوفد عبد قيس، قدموا على رسول الله -صلي الله عليه وسلم -قال: فنهاههم أن يشربوا في هذه الأوعية: الحنتم والدباء والمزفت والنقير، قال: فقام إليه رجل من القوم فقال: يا رسول الله، إن الناس لا ظروف لهم. قال: فرأيت رسول الله -صلي الله عليه وسلم كأنه يرثي للناس قال: فقال: "اشربوا ما طاب لكم فإذا خبث فذروه". (مسند أحمد ومسند أبي يعلى وشرح الآثار للطحاوي، وصححه أحمد شاكر). قلت: (الحنتم): جرارمدهونة خضر، تسرعالشدة فيها لأجل دهنها، و(الدباء): القرع يجوف ويفرغ داخله، و(المزفت): الإناء المطلي بالزفت، و(النقير): أصل النخلة ينقروسطه ثم ينتبذ فيه. وهي الأواني والأوعية التي كانوا يضعون نبيذهم فيها. فثبت بالروايات المتقدمة أن النبي عليه السلام لم يمنع الأمور الثلاثة منع تحريم، بل نهى عنها احتياطا وسياسة، وأنه لم يفعل ذلك عن وحي من الله بدليل قوله: "ثم بدا لي". فلا يجوز بعد هذا، ذكر تلك المسائل في باب الناسخ والمنسوخ، لأن النبي كان مجتهدا لا مشرعا فيها، ولأن القول بالنسخ يعني حرمان الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حق منع تلك القضايا مؤقتا إذا اقتضت الأحوال ذلك. فللحاكم المسلم الحق في أن يمنع ادخار لحوم الأضاحي في حال الشدة والعسرة، ومن حقه أن يمنع زيارة المقابر في بعض الأحوال والبلدان. المثال الثاني: لما أسس النبي صلى الله عليه وسلم دولة المدينة، كان الناس في ضيق وشدة، وكان التمر غالب طعام المسلمين، وكان لا يكفي لسد حاجيات المجتمع. وربما اجتمع في المجلس عدد كبير مقابل تمرات قليلة، فكان بعضهم يحمل في المرة الواحدة تمرتين أو أكثر، فيشبع هو ويترك غيره جوعى. ولا شك أن هذا السلوك قبيح مستبشع، لكنه لا يبلغ درجة الحرام. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم إماما عادلا يحرص على رعيته، فإنه نهى عن الجمع بين تمرتين إذا كان الرجل يأكل مع الجماعة. وكان هذا المنع إجراء اجتماعيا مؤقتا، وإرشادا نحو الأدب والخلق الحسن، لا تشريعا تحريميا عاما مستمرا، بدليل أنه أرخص للمسلمين في ذلك لما كثر الخير وارتفع العسر. وهذا لا يمكن التمثيل به على النسخ في السنة، فمن حق الأب والقائد والحاكم أن يمنعوا رعاياهم من الإقران بين التمر ونحوه إذا احتاجت الأسرة أو المجتمع إلى ذلك الإجراء. وليس من حق أحد أن يزعم تخصيص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم، فينكر على من يمنع الإقران بدعوى نسخ النهي. وبعد، فإليك النصوص الدالة على قضيتنا: عن سعدٍ مولى أبي بكر قال: قَدَّمتُ بين يديْ رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرًا، فجعلوا يَقْرُنون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَقْرنوا". رواه أحمد وابن ماجه والحاكم،وصححه ووافقه الذهبي). وروى أحمد والشيخان عن جَبَلة بن سحيم قال: كان ابن الزبَير يرزقنا التمر، وبالناس يومئذ جَهْد، قال: فمر بنا عبد الله بن عمر، فنهانا عن الإقران، وقال: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم نهى عن الإقران، إلا أن يستأذن الرجل أخاه. وروى البزار والطبراني والروياني بإسناد حسن عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا كنا نهيناكم عن قران التمر، فأقرنوا، فقد وسع الله الخير ". وهذا مع حديث ابن عمر يفسران علة النهي، وهي قلة التمر لا غيرها. أي إذا كان التمر كثيرا، فلا يكون الإقران سوء أدب إذا استأذن الآكل أصحابه، أو كان الجميع يقرن بين التمر: فعن أبي هريرة قال: كنت في أصحاب الصفة، فبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر عجوة، فكبت بيننا، فجعلنا نأكل الثنتين من الجوع، وجعل أصحابنا إذا قرن أحدهم قال لصاحبه: إني قرنت، فأقرنوا. رواه ابن راهويه وابن حبان والحاكم والبغوي، وصححه وافقه الذهبي. النتيجة: بعد هذا العرض الواضح، نسأل علماءنا هذه الأسئلة المصيرية: هل النهي المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم يعادل النهي الوارد في كتاب الله تعالى؟ وهل كان نبينا عليه السلام ينهى بأمر الله دائما؟ أم كان يجتهد أحيانا بصفته حاكما، فيمنع ما يراه ضارا برعيته؟ وإذا نهى من غير نسبة النهي إلى الله، ومن دون التصريح بتحريم المنهي عنه، فكيف نفرق بين النهي الاجتهادي التنظيمي المرحلي، وبين النهي التشريعي المؤبد؟ وهل كان الصحابة يميزون بين النهي التشريعي، وبين النهي التنظيمي؟ فإن كانوا يميزون، فأيهم أهدى سبيلا: الصحابة أم الأصوليون والفقهاء؟ وإذا أقررتم بما خلصنا إليه من تفاصيل، فلماذا تفتون بتحريم أو كراهة كل ما نهى عنه النبي أصحابه من القضايا الدنيوية رغم اختلاف ظروفنا عن أحوالهم؟ أعتقد أن إعادة النظر في مبحث النهي النبوي من ضرورات المرحلة، لكي يعيد العقل المسلم تشكيل نفسه وفق الصحيح من دينه وشريعته، ويراجع العلماء المتحررون من التعصب مئات المسائل التي حرمها أو كرهها الموروث الفقهي المعرقل لمسيرة الأمة نحو الوحدة والقوة بكل تجلياتها. الجواب على الاعتراضات المحتملة: قد يعترض علينا بعض الأحبة بقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى)، فيزعم أن النبي عليه السلام لم يكن ينهى إلا عن وحي. فنقول لهم: إن تحريف معاني كتاب الله عن مواضعها من أمصب مصائبنا، وهذه الآية من جملة ما يحتج به كثير من علمائنا في غير محل الاحتجاج بها، إذ معناها أمران: المعنى الأول: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر وينهى بهواه وشهوته، بل كان يفعل ذلك عن وحي حينا، وعن اجتهاد في تحقيق مصلحة مواطني دولته حينا آخر. وعندما نهى عن زيارة قبور المشركين وادخار لحوم الأضاحي، كان مجتهدا لا هاويا متلاعبا، حاشاه من ذلك. المعنى الثاني: وما ينطق محمد صلى الله عليه وسلم بما ينسبه إلى ربه في القرآن عن هوى وتأليف منه، بل هو وحي منزل عليه من ربه بواسطة جبريل عليه السلام. وهذا هو المعنى الذي فهمه المفسرون من الآية. وبالنظر إلى المعنيين، فلا مجال للاستدلال بالآية الكريمة على عدم اجتهاده عليه السلام. وربما يحتج أحدهم بقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا)، فيدعي أن الانتهاء عن كل ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم واجب مطلقا بنص الآية، أي دون تفريق بين النهي المتعلق بالعقائد والعبادات والمرتبط بالدنيا. والجواب أن هذا التفسير من جملة التحريفات اللاحقة بالآية، ومعناها عند المفسرين الموضوعيين هو كالآتي بالنظر إلى سياقها وسبب نزولها: إذا أعطاكم النبي شيئا من الغنائم الحربية فتقبلوها مهما كانت قليلة ولا تحتقروها، وإذا نهاكم عن شيء من المغانم فلا تأخذوها لأنه حاكم عادل يحرص على المصلحة العامة، فطاعته واجبة عليكم. فتكون الآية خاصة بالصحابة رعايا دولة النبوة. نعم، يمكن أن نضيف معنى ثانيا تحتمله الآية، وهو: إذا نهاكم النبي نهيا منسوبا إلى الله، أو يتضمن التحريم الصريح، فانتهوا عما نهاكم عنه، لأنه لا يحرم إلا بإذن الله ووحي منه. فتكون الآية بهذا التقييد عامة تخاطب الأمة في كل زمان. وعلى هذين المعنيين يجب حمل قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم فانتهوا". أي أطيعوني في الأمر والنهي باعتباري إمامكم وحاكمكم بالعدل، وإذا نهيتكم عن شيء نهي تحريم فاتركوه لأنني رسول مبلغ عن الله، لا أحرم شيئا بهواي ومزاجي الشخصي. وبخصوص النوع الأول من الأمر والنهي الداخلين في التصرف بالإمامة والقيادة السياسية، فإنه ليس خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هو عام في كل حاكم وأمير شريطة أن يكون متفقا وشريعة الله، وذلك قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ). فطاعة الله تعني تنفيذ أوامر القرآن واجتناب مناهيه، وتلحق بها الأوامر والنواهي المنسوبة إلى الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. فهي أوامر ونواه موجهة للصحابة وكل الأمة من بعدهم، لأنها تشريعات خالدة. وطاعة الرسول تعني تنفيذ الصحابة لقراراته واحترامهم لإجراءاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لأنه أميرهم وقائدهم السياسي والعسكري. فهي طاعة خاصة بهم، أما الذين يأتون بعدهم، فأمراؤهم وقادتهم أعلم بشئون دنياهم، وطاعتهم في المعروف واجبة على رعيتهم، لذلك قال سبحانه: (وأولي الأمر منكم). ولهذا كان الصحابة يطيعون أوامر الخلفاء الراشدين، وإن كانت مخالفة لما عهدوه في عصر النبوة، من ذلك امتثالهم لقرار سيدنا عمر بمنع متعة النساء ومتعة الحج اللتين كانتا مشروعتين معمولا بهما إلى زمن الفاروق رضي الله عنهما، وامتثالهم لقرار سيدنا عثمان في جمع القرآن الكريم على حرف واحد وتحريق ما سواه حفظا لوحدة الأمة. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الصحابة في آخر حياته عن قيام رمضان في المسجد فرادى أو جماعات، ففي الصحيحين وغيرهما من حديث سيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة مخصفة أو حصيرا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيها، فتتبع إليه رجال وجاؤوا يصلون بصلاته، ثم جاؤوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم مغضبا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خيرصلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة". لكن الصحابة خالفوا هذا النهي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعادوا لقيام ليالي رمضان بالمسجد النبوي فرادى ومجموعات، مما دفع سيدنا عمر لتنظيم صلاة القيام، فابتدع صلاة التراويح، وهي من بدعه الحسنة رضي الله عنه، ولولاها لاندثرت سنة القيام من الأمة، وهذه البدعة من جنس إجراء القرعة لاختيار الحجاج تنظيما. فهل كان الصحابة عصاة بمن فيهم سيدنا عمر؟ أم أنهم فهموا من النهي عن القيام بالمسجد الإرشاد إلى الأفضل والأكمل؟ أما نحن فنرى أنه كان نهيا اجتهاديا مرحليا مؤقتا يهدف إلى تنظيم الشأن التعبدي زمن النبوة، وأنه كان رحمة بالمسلمين وشفقة عليهم، لا تحريما أو كراهة، لذلك فالصحابة لم يكونوا عصاة ولا متمردين على النهي النبوي، ولم يكن سيدنا عمر مخالفا لروح السنة، بل مجتهدا في تسيير وإدارة دولته وفق ظروفه الاجتماعية. وفي المقال الآتي، سنتناول بإذن الله نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة، لننظر هل كان تشريعا وتحريما كما يقول ساداتنا الفقهاء، أم كان إجراء تنظيميا اجتهاديا مؤقتا؟ * خريج دار الحديث الحسنية [email protected]