في مقالٍ سابق حول مدى استقلالية القضاء المغربي من خلال بنود الدستور، تم الخُلوص إلى القول بأن إلحاق السلطة القضائية بالمؤسسة الملكية لا يعني أنها مستقلة عن السلطة التنفيذية، فالملكية في المغرب ليست برلمانية، وإنما الملك يُمارس جزءا مهما من السلطة التنفيذية، سواء من خلال رئاسته للمجلس الوزاري الذي يشرف على السياسات العامة للبلاد، أو من خلال تعيينه رؤساء هيئات الحكامة والمرافق العمومية. فكون الملك هو الضامن لاستقلالية القضاء وهو الذي يرأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية وفي نفس الوقت يعتبر هو الرئيس الفعلي للسلطة التنفيذية، لا يعني أن السلطة القضائية مستقلة فعليا. فهي فقط مستقلة عن تأثير الفاعل السياسي الذي يأتي في مرتبة أدنى من المؤسسة الملكية. أما أمام الأخيرة فهو غير مستقلة وإنما تابعة، ولا يمكنه أن ينفصل عن توجيهاتها وتأثيراتها. ومن هنا جاء طرح الأسئلة التالية: هَبْ مثلا أن شخصا معتقلا على ذمة "الاخلال بالاحترام الواجب للملك"، فهل يمكن أن نتصور أن الحكم سيكون لصالحه؟ وهَب أيضا أن فاعلا اقتصاديا دخَل في نزاع أمام المحاكم ضد شركة تابعة للهولدينغ الملكي، فهل يمكن أن نتصور أن المحكمة ستحكم ضد شركة رئيس السلطة القضائية أم أنها ستطلب منه تقديم "استعطاف للملك" كما حدث في قضية "مزرعة عبد العزيز"؟ وحتى لا تبقى تلك الأسئلة مُعلّقة، نحاول في هذا المقال التذكير ببعض المحطات التي تأثر فيها القضاء المغربي بالرسائل الملكية سواء كانت مباشرة أو رمزية، ولأن الوقائع متعددة، وبصرف النظر عن الوقائع التي تَستشفُّ منها المنظمات الحقوقيات أنها خضعت لمنطق التوجيه (الحكم على مُغنّي الراب معاد بلغوات، حل حزب البديل الحضاري، رفض انتخاب نقيب المحامين بمراكش، تجمد أنشطة نادي قضاة المغرب...)، فإن هناك قضايا أثبتت بأن القضاء لم يقوَ على تجاوز الرسائل الصادرة عن رأس السلطة القضائية. نمثّل لهذه القضايا بواقعتين: الأولى قديمة والثانية حديثة: حلّ الحزب الشيوعي المغربي: بالرجوع إلى حيثيات القضية، يسجّل أن الهيئة كانت مازالت مكونة من قضاة فرنسيين التي أصدرت الحكم الابتدائي الذي في 29 أكتوبر 1959، اقتنعت بأن "ليس لها الصلاحية لمعرفة إن كان هناك حقا انعدام التوافق بين الماركسية اللينينية والدين الاسلامي؛ وأن الحزب الشيوعي المغربي يؤكد في قانونه الأساسي أنه "يحترم مقدسات البلد ومؤسساته الوطنية"؛ وبما أنه لا وجود لما يدفع إلى افتراض وجود الوقائع، ولا أي اقتراح لتقديم الدليل، قررت المحكمة اعتبار الطلب باطلا". لكن خلال مرحلة الاستئناف التي انطلقت يوم 26 يناير 1960، انقلب الحكم عقِبًا على رأس، حيث أصدرت المحكمة في 9 فبراير 1960 حُكما بحل الحزب الشيوعي المغربي، رغم أنها اعترفت بخلو سجّل الحزب من أية أفعال يمكن أن يحاسب عليها، بل إنها اشارت إلى دوره في الكفاح من أجل استقلال المغرب، وأقرّت أيضا أنه لا يسعى إلى النيل من الملكية". لكن لماذا تم حل الحزب؟ وما هي المبررات القانونية التي استند عليها قرار الحل؟ الواقع أن المحكمة لم تُعلّل حكمها بأيٍّ من نصوص القانون، ولكنها لجأت إلى ما ورد في خطاب للملك محمد الخامس في 17 نونبر 1959 بمناسبة الذكرى الثانية والثلاثين لاعتلائه العرش، وهو الخطاب الذي قال فيه الملك :"لا مكان بيننا للمذاهب المتناقضة مع ديينا وقيمنا الأخلاقية وبنيتنا الاجتماعية، وكفانا الاسلام بعدالته وتسامحه" (المحامي موريس بوتان في كتابه: الحسن الثاني..ديغول، بن بركة، ما أعرفه عنهم، ص 85). وهكذا تحوّل خطابٌ ملكيٌّ إلى نصٍّ قانونيّ ارتكز عليه القاضي لحل حزب سياسي من دون موجب قانوني، ومن غير أسباب موضوعية. أي أن القاضي تصرّف كخصم سياسي لفاعل سياسي، وبهذا تم توظيف القضاء من أجل النيل من الخصوم السياسيين؛ تعزية "خالد عليوة": يتعلّق الأمر برسالة التعزية التي بعث بها الملك في 04 مارس 2013، لخالد عليوة المدير العام السابق للقرض العقاري والسياحي، والمعتقل على ذمة قضايا فساد مالي (وهو بريء حتى تثبت إدانته). وهي واقعة فريدة من حيث أنها المرة الأول من نوعها -حسبي علمي على الأقل- التي يُعزّي فيها ملك البلاد شخصًا على ذمة التحقيق. الأمر الذي يثير العديد من الملاحظات التي من أهمها: أولا: لم تَحمِل الرسالة الصفة الشخصية للملك، وإنما حملت توقيع "وحرر بالقصر الملكي بفاس في يوم الاثنين 4 مارس، محمد السادس ملك المغرب». فنحن أمام رسالة خارجة من القصر الملكي وتحمل توقيع الملك بصفته ملكا لا بصفته مواطنا فقط. وهو ما يُدخِلها ضمن الرسائل الرسمية؛ ثانيا: الملك في المغرب وكما ينص على ذلك الدستور، ليس شخصية عادية أو بدون مسؤولية، أو غير معنيٍّ بواجب التحفظ، بل هو شخصية عمومية تسود وتحكم، ويرأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية التي ينتمي إليها قاضي التحقيق الذي يحقق في قضية خالد عليوة، وينتمي إليها السادة القضاة الذين سينظرون في هذه القضية، ويحكمون إما بالبراءة أو الإدانته. فكيف يمكن لقضاة التحقيق وقضاة الحكم أن يتجاهلوا رسالة التعزية التي بعث بها رئيسهم المتهم يمثل أمام محكمتهم؟ ماذا لو حضر قاضي التحقيق الذي يحقق مع خلد عليوة في جنازة والدته؟ فهل سيُعتبَر ذلك مخالفا لواجب التحفّظ المفروض في القاضي؟ ولماذا يُعتبّر هذا القاضي في حالة غير قانونية مادام رئيسه - الذي يعتبره الدستور «ضامن للسلطة القضائية»- قد بعث برسالة تعزية لنفس المتهم؟ ثالثا: إذا قمنا بتحليل رسالة التعزية فإننا سنقف على إشادة – غير مباشرة – بأخلاق «المتهم بقضايا فساد مالي» خالد عليوة؛ إذ جاء في التعزية «وإننا إذ نشاطركم مشاعر الأسى في هذا المصاب الجلل، لنقدر حق التقدير ما كان للفقيدة من أثر بالغ ومحمود في تنشئة أسرتها، وأنت واحد من أبنائها، على القيم المغربية المثلى» (يمكن العودة إلى نص الرسالة المنشور في الموقع الالكتروني لجريدة الاتحاد الاشتراكي). فهل يمكن لمن حصل على هذه التنشئة المُعترَف بها رسميّا أن يتورّط في قضايا اختلاس مالي؟ وهل يستطيع القاضي أن يحكم بإدانة المتهم متجاهلا تعديل (نستعير هنا مصطلح "التعديل" الذي يوظّفه الفقهاء في ما يسمى «علم الجرح والتعديل») رئيسه؟ والحال، أن ما بعد الرسالة بالنسبة لقضية السيد عليوة ليس كما قبلها، فالرجل دخل السجن في 29 يونيو 2012، وفي 4 مارس 2013 كان خارجه، حيث قضى ثمانية أشهر داخل الزنزانة، بعد أن مكّنته غرفة المشورة بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء من المتابعة في حالة سراح يوم 20 مارس 2013، وهو الطلب الذي طالما رفضته نفس الغرفة قبل رسالة التعزية. ومنذ ذلك الحين وإلى حدود كتابة هذه الأسطر، ظل السيد خالد عليوة يرفض أوامر حضور التحقيق التي وجهه له قاضي التحقيق، إذ رفض أكثر من عشرة أوامر، متذرعا بأسباب صحية تحول بينه وبين حضوره (يُنظر الملف الذي أنجزته "أخبار اليوم" حول هذه القضية بتاريخ، 2015-03-07). وإن كان سؤالا يفرض نفسه في هذا السياق: لماذا يستمرُّ قاضي التحقيق في إمضاء أوامر الإحضار بدل اتباع مسطرة الإحضار بالقوة العمومية التي يكفلها القانون؟ ربما لا يحتاج السؤال إلى جواب، فقاضي التحقيق يَصعبُ عليه إنكار الواقع، وتجاهل الرسائل الرمزية، وفي نفس الوقت لا يمكنه أن يتوقف عن إمضاء أوامر الحضور حتى لا يتحمل المسؤولية التي وضعته فيها السياسة. من خلال هذه الأمثلة التي أظهرت كيف أن القضاء لطَالما وقع تأثير تأثير الرسائل السياسية، يمكن القول بأن مسألة استقلالية السلطة القضائية لا تَستمدّ مشروعيتها ببندٍ في الدستور، وإنما بمدى استجابة طريقة تشكيل السلطة القضائية للمعايير المتفق عليها عالميا، بحيث يبرز عنصر الاستقلالية التنظيمية، إذ لا يمكن أن تكون السلطة القضائية مستقلة ما لم تُنظّم نفسها بنفسها بعيدا عن السلطة التنفيذية، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، لا يمكن أن يطلب القضاة الاستقلالية ما لم يستشعروها في أنفسهم ويعمَلوا على تكريسها على أرض الواقع، وهو ما تمت ملامسته مع ميلاد نادي القضاة الذي شكّل تأسيسه لبنة أساسية من لبنات بناء الذات وتطويرها، ولولا المشاكل الداخلية التي حاقت بالنادي لَكان مؤسسة رائدة في رَفْد الجسم القضائي بمجموعة مُمارسات تساعد على استقلالية القاضي المغربي عن التوجِيهات بصرف النظر عن مصدرها. *باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة [email protected] ttps://www.facebook.com/pages/Abderrahim-Alam/399398136753078