ينص الدستور المغربي على ما يلي: «يرأس الملك المجلس الأعلى للسلطة القضائية» (الفصل 115)، و«الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية» (الفصل 107)، و «يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء؛ ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط» (الفصل 109)، و «يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون. كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها» (الفقرة الثانية من الفصل 110). نسوق هذه النصوص الدستورية لتحليل واقعة فريدة وغريبة على المشهد السياسي المغربي، ويتعلق الأمر برسالة التعزية التي بعث بها محمد السادس بصفته ملكا للمغرب، لخالد عليوة المعتقل على ذمة قضايا فساد مالي (وهو بريء حتى تنبث إدانته طبعا). وتكمن الفرادة التي نعتنا بها هذا الحدث في كونه الأول من نوعه-حسبي علمنا على الأقل- التي يعزي فيها ملك البلاد شخصا على ذمة التحقيق، وأن الواقعة هي الاولى التي يعزي فيها الملك شخصية لا تنتمي إلى الشخصيات التي اعتاد الملك تعزيتها. فوالدة السيد خالد عليوة (رحمها الله) ليست قيادة سياسية، والسيد عليوة ليس أمين عام حزب سياسي أو قيادي بحزب سياسي، وإنما هو عضو بحزب الاتحاد الاشتراكي وكان وزيرا، وتسلم مسؤولية إدارة مؤسسة بنكية يتابع بسببها أمام القضاء. وأما الغرابة التي وسمنا بها هذه الواقعة فهي عائدة إلى كونها الحالة الوحيدة – حسب علمنا على الأقل- التي يرسل فيها الملك بصفته الرسمية- رسالة تعزية لشخصية في حالة اعتقال على ذمة فساد مالي. قد يقول قائل وأين المشكلة ما دام الرجل بريء حتى تثبت إدانته، وأن الملك كإنسان حر في أن يعزي من يشاء وقت ما يشاء. ولصاحب هذا القول نوضح: أولا: الرسالة – التي سنبثها كما وردت في الموقع الالكتروني لجريدة الاتحاد الاشتراكي- لم تحمل الصفة الشخصية لمحمد السادس، وإنما حملت توقيع "وحرر بالقصر الملكي بفاس في يوم الاثنين 4 مارس، محمد السادس ملك المغرب»، فنحن أمام رسالة خارجة من القصر الملكي وتحمل توقيع الملك بصفته ملكا لا بصفته مواطنا فقط. وهو ما يدخل ضمن الرسائل الرسمية، حتى وإن لم يعلن عنها في وسائل الاعلام الحكومية؛ ثانيا: الملك في المغرب وكما ينص على ذلك الدستور الذي عين بنفسه لجنة صياغة ودعا الشعب المغربي ليصوت عليه بنعم، ليس شخصية عادية او بدون مسؤولية، أو غير معنية بواجب التحفظ. بل هو شخصية عمويمة تسود وتحكم، بل ويرأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية التي ينتمي إليها قاضي التحقيق الذي يحقق في قضية خالد عليوة، وينتمي إليها السادة القضاة الذين سينظرون في هذه القضية، ويحكمون إما ببراءة السيد عليوة أو إدانته. فكيف يمكن لقضاة التحقيق وقضاة الحكم أن يتجاهلوا رسالة التعزية التي بعث بها رئيسهم المتهم يمثل أمام محكمتهم؟ أم أننا في بلد ديمقراطي لا تأثير فيه للرسائل الرمزية على أحكام القضاء؟ ماذا لو حضر قاضي التحقيق الذي يحقق مع خلد عليوة في جنازة والدته؟ فهل سيعتبر ذلك مخالف لواجب التحفظ المفروض في القاضي؟ ولماذا يعتبر هذا القاضي في حالة غير قانونية مادام رئيسه –الذي يعتبره الدستور «ضامن للسلطة القضائية»- قد بعث برسالة تعزية لنفس المتهم؟ ثالثا: إذا قمنا بتحليل رسالة التعزية فإننا سنقف على إشادة – غير مباشرة – بأخلاق «المتهم بقضايا فساد مالي» خالد عليوة؛ إذ جاء في التعزية «وإننا إذ نشاطركم مشاعر الأسى في هذا المصاب الجلل، لنقدر حق التقدير ما كان للفقيدة من أثر بالغ ومحمود في تنشئة أسرتها، وأنت واحد من أبنائها، على القيم المغربية المثلى». فالمرحومة أنشأت أسرتها تنشئة حسنة، وهذه التنشئة استفاد منها السيد خلد عليوة. فهل يمكن لمن حصل على هذه التنشئة المعترف بها رسميا من قِبل ملك البلاد، أن يتورط في قضايا اختلاس مالي؟ و لماذا اضافت البرقية جملة وأنت واحد من أبنائها ؟وهل يستطيع القاضي أن يحكم بإدانة المتهم متجاهلا تعديل (نستعير هنا مصطلح "التعديل» الذي يوظفه الفقهاء في ما يسمى «علم الجرح والتعديل») رئيسه؟ ختاما أتمنى أن تكون رسالة التعزية التي نشرتها جريدة الاتحاد الاشتراكي – لسان حال حزب السيد خالد عليوة – ألا تكون حقيقية، لأنه إذا كانت كذلك فإننا سنكون أمام ردة حقيقية على عدة مستويات، وآخر تلك المستويات ما نحن بصدده وهو الجانب القضائي الذي انتقده أحد السفراء الأجانب مؤخرا واعتبره غير مشجع على الاستثمار. رسالة التعزية كما وردت في الموقع الالتروني لجردة الاتحاد الاشتراكي http://www.alittihad.press.ma/def.asp?codelangue=29&id_info=169006&date_ar=2013-3-6%2019:55:00&wss=1Y09io000101: برقية التعزية التي بعث بها جلالة الملك إلى خالد عليوة «سلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد، فقد تلقينا بعميق التأثر نبأ وفاة والدتكم المشمولة بعفو الله، المرحومة زبيدة بنت أحمد، شملها الله بمغفرته ورضوانه وأسكنها فسيح جناته. وبهذه المناسبة المحزنة نعرب لك ومن خلالك لأفراد أسرتك الموقرة وذوي الفقيدة المبرورة، عن أحر التعازي وصادق عبارات المواساة، سائلين الله سبحانه أن يمن عليكم بالصبر الجميل ويعوضكم عن فقدانها بحسن العزاء. وإنا لله وإنا إليه راجعون. وإننا إذ نشاطركم مشاعر الأسى في هذا المصاب الجلل، لنقدر حق التقدير ما كان للفقيدة من أثر بالغ ومحمود في تنشئة أسرتها، وأنت واحد من أبنائها، على القيم المغربية المثلى، جزاها الله خير الجزاء عما أسدت لوطنها ولأبنائها من عمل مشكور وسعي مبرور. وأن يجعلها في عداد الصالحين من عباده، الذين يصدق عليهم قوله عز وجل: «فأما من كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم». «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي». صدق الله العظيم» وحرر بالقصر الملكي بفاس في يوم الاثنين 21 ربيع الثاني 1434 ه الموافق ل 4 مارس 2013 محمد السادس ملك المغرب *باحث في العلوم السياسية [email protected]