لم يبق له من مرتبه الشهري سوى مبلغ 600 درهم. هو قائد لكن بدون مكتب ولا مهام. تم توقيفه عن العمل بتهمة إفشاء السر المهني بعد نشره لعمل إبداعي روائي. تعرض لمحنة حقيقية مباشرة بعد تخرجه من مدرسة وزارة الداخلية بالقنيطرة. إنه الشاب يونس فنيش، زميل بوبكر الجامعي في الدراسة. "" القائد يونس فنيش لا زال بدون مكتب وراتبه الشهري تقلص إلى 600 درهم. أنصفه القضاء، لكن بعض الجهات في الوزارة التي ينتمي إليها لا تريد إنصافه. لماذا؟ ربما لأنه الصوت الوحيد الذي غرد خارج السرب داخل وزارة معروفة بالتزام الصمت والانضباط المبالغ فيه. تخرج فنيش في مدرسة تكوين أطر وزارة الداخلية سنة 1996 بعدما أمضى فيها سنتين من التكوين، وألحق مباشرة بالميدان. كان هذا الشاب يطمح إلى أن يكرس المفاهيم الجديدة للتدبير وممارسة السلطة، لكنه في النهاية أبعد عن العمل بعدما أغضب الكثيرين وأزعج بعض المستفيدين من استمرار الوضع القديم. عندما تجالس فنيش تحس بأن هذا الشاب المزداد سنة 1966 بمدينة سلا شاب صارم في كل شيء، حتى في طريقة كلامه. هو الآن محتفظ به في بيته بسلا. إلى متى؟ لا أحد يعرف. في كل مرة مبررات. وفي كل مرة وعود. لكن الوضع لا يتغير. القائد فنيش يعاني البطالة المقنعة في انتظار أن تجود وزارة الداخلية، أم الوزارات، برجل يقدر عمله وقناعاته ويستعين بمؤهلاته لمحاربة البناء العشوائي وانتشار أحياء الصفيح ومحاربة الرشوة. في سنة 1996 اجتاز تقدم لاجتياز مباراة ولوج مدرسة تكوين أطر وزارة الداخلية، ونجح في كل مراحلها، بدءا بالإمتحان الكتابي والشفوي وانتهاءا بتعميق البحث الذي تجريه أجهزة الوزارة لكل مرشح لدخول سراديبها. قبل هذا التاريخ كان فنيش منشغلا باستكمال دراسته العليا بكلية الحقوق بالرباط. ربما كانت له طموحات أخرى وآمال أخرى، لكن الثابت هو أن هذا الشاب يؤمن بضرورة الإصلاح لبناء المغرب القوي والمنيع كما يقال. ازداد القائد فنيش بسلا لكنه كبر في الرباط. درس المرحلة الإعدادية في إعدادية التقدم وبعدها في ثانوية ابراهيم الروداني. ولم يتم الدارسة بهذه الثانوية، بل أتمها في ثانوية دار السلام. في فصل الدارسة كانت المنافسة لاحتلال الرتبة الأولى تجري بينه وبين بوبكر الجامعي، الصحفي الذي تعرض بدوره لأكثر من محنة في مساره المهني. وفي ثانوية دار السلام، كان في نفس الفوج منير الماجيدي، المسؤول عن الكتابة الخاصة للملك. لكن الماجيدي لم يدرس معه في نفس القسم. ويحتفظ فنيش بذكريات كثيرة عن المنافسة التي كانت تشتد بينه وبين بوبكر الجامعي. فهذا الأخير كان دوما يحتل الرتبة الأولى في الفرنسية، وهذا ما يغضب فنيش. في إحدى المرات سأل أستاذه: "لكن لماذا هو الذي يحصل دوما على النقطة الأولى وأنا على النقطة الثانية؟" أجابه الأستاذ على التو: "لأنه ابن الصحفي خالد الجامعي، ألا تعرف هذا؟". بدأت معاناة القائد فنيش مباشرة بعد تخرجه من مدرسة وزارة الداخلية. كان من الأوائل في فوجه، ولذلك أسندت له مهام خارجية. ويعرف أن الأطر الشابة بعد تخرجهم يتم الإحتفاظ بهم قليلا في الإدارة العامة للوزارة قبل أن يلحقوا بالدوائر والمقاطعات. وسافر فنيش إلى فاس، المدينة التي عاش فيها عذاباته وصراعاته مع أطر أخرى وجهات أخرى تخالفه نفس القناعات في تدبير الشأن العام. وكانت أول مواجهة له مع نافذين في المدينة تتعلق بغموض شاب فاتورات للصباغة، طلب منه أن يوقع عليها. في فاس عمل في عدة مقاطعات قبل أن يتوقف ويحال ملفه على القضاء. عمل في مقاطعة الأدارسة ومقاطعة المشور ومقاطعة النرجس، وفي كل مرة توالت الإصطدامات وافتعال المشاكل لهذا القائد الشاب. في تلك المحنة، عاش فنيش نوادر عديدة. بعضها يسرده وبعضها يحتفظ به لنفسه وربما سيتحدث عنه حينما يحين الوقت. في إحدى المرات، كان المسؤولون ومعهم الموظفون منشغلون بترتيبات معينة، وفي كل مرة كان يطلب من مسؤول أن يتكفل بعشاء هؤلاء الموظفين الذي يقدر عددهم ب 25 موظفا. جاء دور فنيش. ماذا سيفعل؟ قيل له أن يكتفي بإعطاء الأمر لأحد المقدمين وينتهي بذلك المشكل. رفض الأمر وخرج خفية إلى مكان بعيد. أخرج النقود اللازمة ببطاقته البنكية وتدبر الأمر لكن على نفقته الخاصة. "لقد سقط فنيش في الفخ"، هذا ما قاله البعض في تلك الأثناء، ما لم يعرفون في البداية هو أن القائد صرف من جيبه. وقد تبين فيما بعد بأن فنيش لا يمكن أن يسقط. تعرض للكثير من الإعتداءات. كان يدخل، في المساء، إلى بيته فيجد الباب مهمشما. كانت سيارته قد تعرضت لحادث مفتعل. كانت الطرود البريدية التي يبعث بها إلى رؤسائه يتم الإطلاع عليها قبل أن تصل...في زيارة الملك لفاس سنة 1999، ألحق فنيش بمكان مظلم يفتقد للبنية التحتية الملائمة لاستقبال ملكي. وكان هذا المكان لا يدخل في النفوذ الترابي لدائرته. كانت الضربة ترمي إلى إثارة غضب الملك عليه، لكن مرت الأمور كلها بسلام. وزار الملك المكان، وكان الفضاء الذي توقف فيه كثيرا لأنه كان آهلا بالفقراء الذين جاؤوا لاستقباله. ولوضع حد لمعاناته راسل فنيش أكثر من مرة الديوان الملكي. لكنه لم يتلق لحد الآن أي جواب. ويحاول هذا القائد أن يقنع نفسه بأن رسائله وتظلماته لم تصل. في سنة 2002، وصل السيل الزبى. فنيش لم يكن مجرد رجل سلطة، إنه كذلك مبدع. صدرت له أولى أعماله الإبداعية في سن 17 عاما. كان العمل عبارة عن رواية بوليسية سماها "بحثا عن حقيقة". وتحكي الرواية عن عميد شرطة يستعين بصحفي للكشف عن لغز جريمة. العميد يدعى مالك والصحفي أطلق عليه خالد. تقول الرواية إن هذا الصحفي المرموق هو الذي توصل إلى حل اللغز. وربما يحيل اسم خالد إلى الصحفي خالد الجامعي، الذي كان يقرأ له في ذلك الوقت. لقد كان الصحفي في روايته أكثر دهاء من عميد الشرطة. وقد تعاونا لفك لغز الجريمة. في سنة 2002 طبع عملا إبداعيا آخر سماه ب"علي بابا والأربعون كذابا". هذا العمل هو الذي فجر قضيته وحولها مباشرة إلى القضاء. لقد كان خصومه يبحثون له عن فخ، وها هم ربما قد وجدوه. والتهمة؟ كشف أسرار المهنة. حاول فنيش أن يدافع عن نفسه. العمل الإبداعي عمل لا يمكن الإعتماد عليه للإصدار حكم قضائي. العمل الإبداعي قابل لكل التأويلات. وهو إبداع قبل كل شيء. توقف عن العمل ودخل متاهات القضاء. ولم تنته هذه المحنة إلا في سنة 2006. وأخيرا أنصفه القضاء. بعد ذلك طلب منه أن يلتحق بالإدارة العامة للوزارة. وتم ذلك، لكنه بقي بدون مكتب ولا مهام. ولازم منزله ينتظر. مرة أخرى ينادى عليه للالتحاق بالولاية. ونفس الشيء يحدث معه. لا مكتب ولا مهام. ولازم البيت من جديد في انتظار اتصال جديد. وجاءه الاتصال، والتقى بوالي الرباطسلا زمور زعير. طلب منه أن يتكلف بمقاطعة يعقوب المنصور ليحارب البناء العشوائي هناك. وافق على مضض على هذه المهمة. لكنه لا يزال ينتظر القرار. وهو في بيته لا يزال ينتظر الاتصال. في بعض الأحيان يشعر فنيش بالإحباط. لماذا تركته أطر وزارة الداخلية وحيدا في هذه المواجهة؟ لماذا يتهربون منه؟ لماذا ساهم بعض أصدقائه في صنع محنته؟ لماذا لم يتحرك أي إطار للقيام بأدنى مبادرة لمواجهة الفساد؟ وهل هذا هو مآل كل من ينادي بالمفهوم الجديد للسلطة؟ هل هذا هو مآل كل من تأثر بخطابات الملك محمد السادس مباشرة بعد توليه الحكم؟ لماذا لم يرد الملك عن تظلماته؟ لماذا لم يرفع عنه "الحصار"؟ الإحباط يبلغ به مداه فيتساءل: وهل يستحق المواطن كل هذه التضحية؟ كيف بإمكانه أن يعيش هو وعائلته ب600 درهم في الشهر؟ كيف يمكنه أن ينفق على ابنه لكي يكبرفي جو سليم ويتابع دراسته بشكل جيد؟ إنها أسئلة تؤرق القائد فنيش. لكن مع ذلك فالمناعة مرتفعة والرجوع إلى الوراء غير مقبول. في بعض الأحيان يبلغ به التشاؤم مداه، فيبدأ في التفكير في مغادرة المغرب للاستقرار نهائيا في إحدى دول أوربا، لكنه يتراجع عن الفكرة بعد مرور قليل من الوقت. في وقت من الأوقات، وفي فترة المحنة، اجتاز امتحان ولوج مدرسة التعمير بنجاح. الشرط الوحيد الذي بقي له لمتابعة دراسته فيها للتخرج كدكتور متخصص هو تسلم شهادة عمل من وزارة الداخلية تثبت أنه قضى في عمله بهذه الوزارة ما يفوق أربع سنوات. رفضت أجهزة الوزارة تسليمها له. حتى إمكانية الإبتعاد عن الوزارة حرم منها. إذا كان فنيش يزعج البعض في مجال عمله، فلماذا لا يتم وضعه رهن إشارة وزارة أخرى؟ لماذا لا يتم إبعاده عن هذا الجهاز "الحساس" الذي يرفض لحد الآن أي صوت من داخله يخرد خارج السرب. هو لن يستسلم وسيستمر في حربه ضد الإختلالات أينما كان وفي أي موقع كان. دلالات عن المقدمين والشيوخ والموظفين يقال عادة عن المقدمين والشيوخ في المغرب بأنهم يمثلون الفساد في أبهى صوره. ويقدمون على أنهم يعيشون بالرشاوى والهدايا. كما يقال بأن وزارة الداخلية لا تصرف لهم الرواتب التي يمكنها أن تغنيهم عن اللجوء إلى مثل هذه الممارسات. يونش فنيش، عندما يحل بأي مقاطعة يجمع موظفيه ويقول لهم: أنتم ربما قد تكونون سمعتم عني. من يريد العمل في النقاء بعيدا عن أي اختلالات أو ممارسات مشبوهة فأهلا به معنا. ومن لا يرغب فإني جاهز للتوقيع له على الإنتقال في الحال. ومن سأضبطه، فإنني لن أرحمه". حدثت الكثير من القصص مع بعض المقدمين، لكن الحكاية الأساسية هي تلك التي تتعلق بمقد يدعى محمد الألفية. هذا المقدم، وبعد مرور أزيد من 30 سنة وهو يعمل بوزارة الداخلية، لا يزال ينام هو وأسرته على الكارطون في بيت واحد. إنه رمز للعمل بعيدا عن الشبهات. أغلب الموظفين في البداية يرتبكون وتسود أوساطهم حالة من التخوف من فنيش، لكنهم بمجرد ما يقتربون منه يصبحون أصدقاء في العمل الجاد. وقد وقفوا معه في أكثر من محطة كانت ستنزله إلى "الدرك الأسفل من النار". يحدث أن يزور فنيش مقر ولاية الرباط، وبمجرد انتشار "الخبر" يخرج الموظفون من مكاتبهم ليتأكدوا من أن الشخص هو نفسه القائد الذي تحدى كل الصعاب لفرض ذاته. يتأملون في وجهه وكأنه شبح غريب جاء من كوكب آخر إلى وزارة الداخلية. وفي الإدارة العامة، لا يدخل فنيش إلا إذا وضع بطاقة تعريفه رهن إشارة المسؤول عن دخول وخروج المواطنين الذين يأتون لقضاء مصالحهم. في كل مرة تطلب منه البطاقة بالرغم من أنه ينتمي لنفس الجهاز وبالرغم من أنه مسؤول في درجة قائد. كتابات يونس فنيش - "علي بابا والأربعين كذابا" - حديث قائد _ زطاط – الحياة والموت _ أبيض وأسود - المنبوذون - بحثا عن حقيقة - مغرب ومغاربة موقع يونس فنيش http://3006.aceblog.fr