حدثنا الإمام الخطيب في أحد المساجد الجامعة بمدينة المحمدية، في صلاة الجمعة بحديث قال عنه إنه أثار إعجابه، لما يحمله من أحكام وعبر. وكان ذلك هو حديث البخاري عن الثلاثة الذين لم يتكلم غيرهم في المهد؛ جاء فيه: " 3253 حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا جرير بن حازم عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، عيسى، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج كان يصلي جاءته أمه فدعته فقال أجيبها أو أصلي فقالت اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات وكان جريج في صومعته فتعرضت له امرأة وكلمته فأبى فأتت راعيا فأمكنته من نفسها فولدت غلاما فقالت من جريج، فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوه، فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال من أبوك يا غلام قال الراعي قالوا نبني صومعتك من ذهب قال لا إلا من طين. وكانت امرأة ترضع ابنا لها من بني إسرائيل فمر بها رجل راكب ذو شارة، فقالت اللهم اجعل ابني مثله فترك ثديها وأقبل على الراكب، فقال اللهم لا تجعلني مثله ثم أقبل على ثديها يمصه قال أبو هريرة، كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمص إصبعه، ثم مر بأمة فقالت اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها، فقال اللهم اجعلني مثلها، فقالت لم ذاك، فقال الراكب جبار من الجبابرة، وهذه الأمة يقولون سرقت زنيت ولم تفعل". كان بودي أن أتجاهل هذا الموضوع كما تجاهلت مواضيع كثيرة قبله، حملت أمورا ظنّ الناس أنها من الدين وتنسب إلى الله ورسوله، لكن دين الله ورسوله منها براء. وكان بودي أن لا أسمح للذين يعلمون كل شيء من عنوانه، دون أن يقرأوا؛ ويدركون معاني كل الأشياء دون أن يتدبروها؛ ولديهم من الأحكام أكثرها جاهزية لإصابة كل مخالف لما يرددون ويجترون من غير علم ولا هدى ولا كتاب منير.لكنهم نصبوا أنفسهم حماة للدين وحراسا للعقيدة؛ وسيتخذون من إسمي ومقالتي هدفا يشهد ببراعتهم في رد كيد المعتدين. لكن الذي دفعني للكتابة في الموضوع هو وجود عقلاء كثيرين ومنصفين من مختلف الاتجاهات، يحبون الله ورسوله، ويؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولا يفرقون بين أحد من رسله؛ ولا يقبلون أن ينسب إلى دين الله وكتبه ورسله ما ليس منها؛ وعلى رأسهم خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع المرسلين. تحدث الإمام بحماس شديد عن هذا الحديث، ووقف عند كل مفردة من مفرداته وفقرة من فقراته، وشرح مضامينه مُطعِّما إياها بأحاديث أخرى. تحدث عن زهد جريج، وعن تعارض صلاته ونداء أمه له؛ وكيف أنه كان يسأل ربه في صلاته، هل يكمل صلاته أو يجيب أمه؟ وكانت أمه ترجع دون أن يجيبها لمدة ثلاثة أيام؛ حتى حنقت ودعت عليه في اليوم الثالث أن لا يموت حتى يريه الله وجه المومسات؛ وكذلك كان. قال الإمام إنها دعت عليه أن يرى وجه المومسات ولم تدع عليه بالسقوط في فاحشة الزنا، ولو دعت عليه بذلك لوقع فيها. وواصل محدثنا شرح الحديث وعجائبه، ثم ختم خطبته وقد شحن أذهان مستمعيه بالعديد من الإشكالات والأسئلة والشبهات، التي لاحقت السادة المصلين وهو يرجعون إلى بيوتهم بعد الصلاة؛ لكنها بقيت من غير إجابات شافية. الذي لا يدركه سادتنا المحدثون والخطباء ورواة الأخبار والمسؤولون في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، هو أن الإسرائيليات والنصرانيات المخالفة لدين الله وكتبه ورسله، يمكن تصنيفها في "فن تحريف الكلم" عن مواضعه ومن بعد مواضعه؛ وقد خصص القرآن الكريم نصوصا عديدة لبيان هذا "الفن" وفضح أصحابه وكشف أسراره وتقنياته والإجهاز على طرقه وأساليبه؛ التي قد يكون بعضها عن جهل أو غير قصد من طرف القائمين به والمروجين له، سواء من أهل الكتاب أو من المسلمين أنفسهم؛ لكن الكثير منها إنما هو على علم وبقصد الصد عن سبيل الله. حديثنا هذا الذي أورده البخاري في صحيحه ومسلم والإمام أحمد وغيرهم، هو واحد من هذه الإسرائيليات، التي تصدى القرآن الكريم لفكرتها بالمرصاد، وكشف زيفها في مراجعته النقدية لما عند اليهود والنصارى؛ والتي بلغت بعض نصوصها إلى نسخ الإنجيل المعتمد عندهم إلى اليوم. لكن المسلمين، وخصوصا المحدّثون منهم والإخباريون، بسبب جهل كثير منهم بمضامين كتب أهل الكتاب، استرجعوها في كتب أحاديثم وتفاسيرهم وأعادوا تفسير القرآن وفهمه بواسطتها، فالتفّوا بذلك على القرآن ومقصده، وجعلوا من آياته شواهد على الباطل الذي جاء لإزهاقه؛ وكانوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا. موضوع هذاالحديث الرئيسي هو التقليل من أهمية آية كلام عيسى بن مريم في المهد، وبيان أن هذه الآية لم تكن خاصة به من دون العالمين، ولم يكن هو المتكلم الوحيد في المهد؛ بل كان هناك صبيان آخران تكلما في المهد ؛ إحداهما ابن زنا، تكلم ليبرئ الراهب جريج من أم الصبي المومسة ؛ ولكنه في نفس الوقت شهد بأن أمه كانت زانية. وهناك صبي آخر تكلم في المهد ليرد على أمه التي تمنت أن يكون مثل صاحب الشارة، فرفض أن يكون مثله لأنه كان جبارا؛ وردّ عليها أيضا عندما سألت الله أن لا يجعله مثل المرأة التي قيل إنها سرقت وزنت وهي لم تفعل، لكنه سأل أن يكون مثلها. رغم أن حديث البخاري الذي أوردناه تحدث عن ثلاثة صبيان تكلموا في المهد، ومنهم عيسى بن مريم عليه السلام؛ الذي عرضته الرواية عرضا هامشيا، حتى أنها لم تنسبه إلى أمه مريم؛ ولا ذكرت صفة "عليه السلام" التي تلحق عادة بالأنبياء والمرسلين. إلا أن هذا الحديث فتح السبيل أمام روايات كثيرة تناسلت لتنسب آية الكلام في المهد الخاصة بعيسى بن مريم، إلى أشخاص آخرين كثر بدءا من أربعة، ووصولا إلى تسعة كما شرح بعض علماء المسلمين حيث قال: "وقوله صلى الله عليه وسلم: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة قيل: لا يفيد حصر ذلك في كل من تكلم صغيراً، وإنما الحصر فيمن تكلم صغيراً وهو في مهده، لكن يعكر عليه ما رواه الحاكم وأحمد والبزار عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لم يتكلم في المهد إلا أربعة: عيسى، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وابن ماشطة فرعون ففي هذا الحديث لم يذكر الثالث الذي في حديث أبي هريرة الأول. وفي صحيح مسلم من حديث صهيب في قصة أصحاب الأخدود : أن امرأة جيئ بها لتلقى في النار أو لتكفر ومعها صبي يرضع فتقاعست، فقال لها يا أمه: اصبري فإنك على الحق!. فبهذا يجتمع ستة كلهم تكلموا في المهد. قال الحافظ ابن حجر : وزعم الضحاك في تفسيره أن يحيى تكلم في المهد. أخرجه الثعلبي . فإن ثبت صاروا سبعة . وذكر البغوي في تفسيره: أن إبراهيم الخليل تكلم في المهد. وفي سير الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم أوائل ما ولد. وقد تكلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مبارك اليمامة، وقصته في دلائل النبوة للبيهقي من حديث معرض. على أنه اختلف في شاهد يوسف. فقيل: كان صغيراً. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وسنده ضعيف. وبه قال الحسن وسعيد بن جبير وأخرج عن ابن عباس أيضاً و مجاهد : أنه كان ذا لحية. وعن قتادة، والحسن أيضاً: كان حكيماً من أهلها. اهوالله أعلم." لم يدرك السادة العلماء المسلمون وهم يجمعون هذه الروايات وينشرونها بين الناس، أنهم كانوا ينشرون أفكارا إسرائيلية وردت في الكتب السابقة، جاء القرآن الكريم لمراجعتها ونقدها وبيان الحق فيها وإبطال ما حاول الكاذبون والمحرفون نسبته إلى الأنبياء والمرسلين. لم يدرك العلماء المسلمون أن كثيرا منهم، وهم يتصدون لتعليم الدين وتفسيره والدفاع عنه ونصرته، كانوا يجهلون ما يوجد في الكتب المقدسة وعند أهل الكتاب من معرفة دينية سابقة؛ وأنهم كثيرا ما وقعوا في أخطاء قاتلة أقلها أنهم لا يعرفون ما الذي يميز قرآنهم عما سبقه من معرفة دينية، وما هي إضافته النوعية على هذه الكتب وتصحيحاته لها. ولذلك أصبحوا هم الأداة الفعلية لاسترجاع كل الثقافة الإسرائيلية والنصرانية السابقة عن القرآن، والتي أصدر فيها الله سبحانه قوله الفصل، إلى الثقافة الإسلامية من جديد، عبر الرواية والحديث والتفسير. ومن ذلك حديث البخاري الذي بين أيدينا، وباقي الروايات المماثلة. الذي لا يعلمه كثير من الناس بما فيهم السادة المحدثون والخطباء والعلماء المسلمون هو أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي اتخذ مواقفدفاعية عن السيدة العذراء وابنها وعائلتها ضد ما نسبه اليهود زورا وبهتانا لهذه العائلة برمتها؛ وخصص سورتين من سوره هما آل عمران ومريم لهذا الأمر، ولم يذكر من أسماء النساء في القرآن بكامله إلا مريم العذراء، وذكر اسم عيسى مربوطا بأمه عيسى بن مريم. كما ساهمت سور عديدة من القرآن في الدفاع عن طهارة العذراء وعفتها واصطفاء الله لها وعائلتها وابنها على العالمين، وجعلها وابنها آية للعالمين. وكانت آية الكلام في المهد هي أهم الآيات التي ركز القرآن الكريم على إظهارها وبيان خصوصيتها لمريم وابنها؛ واعتمادها في بيان براءة العذراء وصدق آيتها وآية ابنها ورسالته في العالمين. لاشك أن علم مقارنة الأديان ليس من السهولة بمكان؛ ولاشك أن القرآن الكريم هو كتاب مقارنة أديان بامتياز؛ وكان ذلك آية بينة لعلماء أهل الكتاب على نبوة محمد صلى الله عليه ورسالته، وخصوصا بني إسرائيل منهم؛ قال تعالى: "أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل". لذلك فإن الجهل بما ميز القرآن الكريم من معرفة علمية في مجال الأديان عن باقي الكتب السماوية السابقة، هو الذي فوّت على علماء المسلمين خصوصا أن يستفيدوا من التوجيهات القرآنية في هذا المجال، وجعلهم ينزلقون إلى تفسيرات إسرائيلية ومسيحية ما أنزل الله بها من سلطان؛ رفعوها زورا وبهتانا لتصبح من كلام رسول الله عليه السلام وسنته؛ بعد أن عجزوا عن جعلها من القرآن الكريم؛ لكنهم مع ذلك جعلوها جزءا من الوحي الإلهي، قائلين إن الأحاديث النبوية هي من الوحي ومثلها مثل القرآن؛ واستدلوا على ذلك بحديث منها مفاده أن الله آتى محمدا صلعم القرآن ومثله معه؛ وقصدوا بذلك هذه الأحاديث. وحتى لا تأخذنا قضية التأصيل النظري في هذا الموضوع إلى التعمق في التفاصيل؛ سندلف مباشرة إلى معالجة قضية الكلام في المهد، وبر المسيح بأمه؛ والتي تضمنها حديث البخاري الذي بين أيدينا؛ وكيف استطاع هذا الحديث الالتفاف على مشكلة عميقة في المسيحية واليهودية، ونقلها باسم الرسول محمد صلعم إلى مجال الرواية والحديث والتفسير والثقافة الإسلامية؛ ونقض ما بناه القرآن من تصورات وعقائد وإقامة ما أبطله منها. لقد جادل القرآنأهل الكتاب في هاتين المسألتين، وبين المحاولات اليهودية اليائسة في شأنهما، وهو ما تأثر بهالنصارى في رواياتهم الإنجيلية؛ قال تعالى: "وقولهم على مريم بهتانا عظيما". تشير هذه الآية إلى القضيتين التي نود علاجهما في هذا المقال؛ الأولى تتعلق بالميلاد العذري للسيدة العذراء من غير أب؛ والذي كانت آيته هي الكلام في المهد؛ بحيث يشهد السيد المسيح ببراءة أمه مما قيل عنها من الإفك والبهتان. والثانية هي الاتهام المبطن للسيدة العذراء، في قصة جريج مع أمه حيث لم يجب دعوتها واستمر في صلاته؛ تماما مثلما تبرأ السيد المسيح من أمه، ولم يرد الاستجابة لها؛ باعتبارها لا تسمع لآيات الله ولا تعمل بها؛ ولذلك فإن تلاميذه الآخرين أفضل منها، وهم الذين يستحقون صفة أمه بدلها. لقد عرضت سور القرآن ونصوصه عددا كبيرا من الآيات والبراهين الدامغة على صدق السيد المسيح وصحة رسالته، وطهر أمه واصطفاء الله لها ولعائلتها آل عمران على العالمين. وجادلت نصوص القرآن الكريم أثناء هذا العرض الواسع الشامل كل الشبهات والأكاذيب والتحريفات التي مست قضية المسيح وأمه؛ بما في ذلك ما سجلته نصوص الإنجيل القانوني في رواياته الأربع وأعماله ورسائله المختلفة. كانت قضية الكلام في المهد واحدة من القضايا التي عرضها القرآن الكريم في أكثر من سورة، بما في ذلك سورة آل عمران ومريم؛ قال تعالى متحدثا عن هذه الآية من خلال كلام الملائكة مع العذراء عند بشارتها لها بالغلام: "إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ(47)" (سورة آل عمران). ووصف لنا سبحانه أحداث الولادة المعجزة، وكلام المسيح مع أمه في المهد ناصحا إياها بألا تتكلم مع قومها في شأنه، وأن تلزم الصمت وتترك مهمة البيان والكلام له؛ قال تعالى: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26) " فقامت فعلا بما نصحها به ابنها الصبي، وأتت به قومها تحمله؛ ورغم كل التهم الموجهة إليها منهم لزمت الصمت، وتركت مهمة الدفاع عنها للوليد الذي جعله الله آية للعالمين: "فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (31) وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36)" (سورة مريم).ثم ذكرها في سورة المائدة في بيان نعم الله على عبده السيد المسيح؛ قال تعالى: " إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِيالْمَهْدِوَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (110) - (سورة المائدة). تلكم هي المواضع الثلاث التي ذكر فيها الكلام في المهد في القرآن الكريم منسوبا إلى السيد المسيح رسول الله، وذكر مرات أخرى بصفة ضمنية، عند الحديث عن المسيح وأمه وجعلهما آية بينة للعالمين؛ وهي آية لا تكتمل إلا بالكلام في المهد. نسب القرآن الكريم آية الكلام في المهد إلى السيد المسيح وحده باعتبارها دليل براءته، وكانت تلك إضافته النوعية على كتب النصارى وخصوصا الأناجيل الأربعة القانونية وأعمال الرسل وباقي رسائل وأسفار العهد الجديد كما يسميه المسيحيون؛ فهذه الكتب لم تذكر شيئا عن آية الكلام في المهد؛ إلا ما جاء منسوبا إلى السيد يوحنا في البشارة به من المَلَاك لأبيه، قال: "لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيماً أَمَامَ الرَّبِّ وَخَمْراً وَمُسْكِراً لاَيَشْرَبُ وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ." (إنجيل لوقا 15/1). وطبعا فإن الامتلاء من الروح القدس من بطن الأم يعني الكلام في المهد عن طريق الوحي؛ وهو أمر لم يحدث ليوحنا (يحيى) ولا حاجة له به، لأن ولادته في حد ذاتها من أبوين عجوزين هي إعجاز لا يحتاج إلى دليل خارجي؛ بينما ولادة فتاة من غير زواج هي التي تحتاج إلى دليل يقنع الذين يعايشونها بكون ذلك آية من عند الله وليس عمل زنا أو فاحشة. رغم أن معتقد الولادة المعجزة من غير أب يوجد في الأناجيل ما يؤكده، مثل قول لوقا في وصف حوار الملاك مع مريم العذراء وهو يبشرها بولادة غلام من غير أب: " فَقَالَتْ مَرْيَم لِلْمَلاَكِ: «كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟» (35) فَأَجَابَ الْمَلاَكُ: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْك وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْك يُدْعَى ابْن اللهِ. (36) وَهُوَ ذَا أَلِيصَابَاتُنَسِيبَتُكِهِيَ أَيْضاً حُبْلَى بِابْنٍ في شَيْخُوخَتِهَا وَهَذَا هُوَ الشَّهْرُ السَّادِسُ لِتِلْكَ الْمَدْعُوَّةِ عَاقِراً (37) لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءَ غيْرَ مُمْكِن لَدَى اللهِ». (38) فَقَالَتْ مَرْيَمُ: «هُوَ ذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ». فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا الْمَلاَكُ." (لوقا 1/34-38). كل شيء ممكن لدى الله بما في ذلك الولادة المعجزة من غير أب. وممكن للمولود أن يمتليء من الروح القدس من بطن أمه أي يتكلم في المهد بالوحي، كما وصفت به البشارة يحيىالوليد ؛ لكن الصحيح أنه أمر خاص بعيسى ابن مريم ولا يتناسب مع يحيى، وأن محاولة نقله إلى يحيى أو أشخاص أخرين غير صحيحة ولا موفقة. إن مشكلة النص المسيحي– حسب ما أشار إليه القرآن الكريم - هي في تحميله بعض المعتقدات اليهودية، وإلزامه بالاستجابة لمطالبها الدينية والسياسية وغيرها. وتبدأ هذه المشكلة منذ النص الإنجيلي الأول عند متى، الذي بدأ إنجيله بالحديث عن نسب السيد المسيح بن داود ابن إبراهيم؛ وهذه البنوة الجسدية في المسيح افترضت سلالة نسب؛ رغم كونها تتعارض تعارضا كاملا مع الولادة المعجزة من غير أب، حيث لا وجود للسلالة ولا للأباء. إن سلالة النسب هذه التي وضعت في مقدمة أول إنجيل هي محاولة لربط الابن الذي ولد من غير أب مع نسب الآباء، الذي يَفترِض أن يكون المسيح ابن داود وسليمان وابن إبراهيم. ليستعيد ملك داود وكرسي سليمان ويحقق وعد إبراهيم. تنتهي هذه السلالة بيوسف الذي وصف بأنه رجل مريم التي ولد منها السيد المسيح، وليس أبو المسيح. نفس الأمر بالنسبة للوقا فقد تم الربط بين المسيح وسلالته عن طريق "ما كان يظن". وبذلك صار للمسيح سلالتان مختلفتان في كل من إنجيلي متى ولوقا. إن ما سماه بولس الولادة الجسدية والولادة الروحية للمسيح من الشعب المختار، ألغت فكرة الولادة المعجزة وغطت على كل مظاهرها، ومن أهمها الكلام في المهد، على اعتبار أن هذه الولادة ستبعد السيد المسيح من أن يكون هو المنتظر وفقا للتقاليد اليهودية، لوجوب أن يكون المنتظر ابنا جسديا من سلالة داود وإبراهيم. ولذلك وضعت العديد من الشبهات لمحاولة الربط بين المسيح وأحد أحفاد السلالة، والذي يحمل أحيانا اسم يوسف ابن يعقوب، مع ما يحمله هذا الاسم ذاته من إيحاءات التحرش به من طرف النساء. فإذا دخل في حياة العذراء وصار خطيبا لها، وعاشت معه تحت سقف واحد قبل أن تلد ابنها البكر؛ وأضاف إنجيل متى قوله: "أَمَّا وِلاَدَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هَكَذَا: لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. (19) فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَان بَارّاً وَلَمْ يَشَأْ أنْ يُشْهِرَهَا أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرّاً." (متى 1/18-19)؛ فإن الشبهة ستصير أكثر إحكاما. إن محاولة كتمان معجزة الولادة من غير أب، وإبدالها بمعجزات أخرى أو أمارات مثل الطفل المقمط في مذوذ أو النشيد السماوي الملائكي أو نجمة الشرق والسحرة الكلدانيين هي التي جعلت آية المسيح يسوع وولادة أمه أمرا عاديا، يمكن إخفاؤه عن الناس، ويمكن للسيد خطيب مريم أن يأخذها ليكتتب معها في مدينة الناصرة عندما تلد ابنها. بهذا ضاعت المعجزة، وضاع تطويب الأجيال الدائم للعذراء، وما صنعه بها من عجائب؛ جاء في إنجيل لوقا: "فَقَالَت مَرْيَمُ: «تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ (47) وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللَّهِ مُخَلِّصِي (48) لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَ ذَامُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي (49) لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ (50) وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ الأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ. (لوقا 1/46-50). انعكس كتمان الولادة المعجزة وغياب آية الكلام في المهد على موضوع السيدة العذراء نفسها في الإنجيل، فباستثناء بعض الآيات القليلة الإيجابية في إنجيلي متى ولوقا عن ولادة العذراء التي لا تتعدى سطورا قليلة مع ما يشوبها من إيحاءات قبيحة؛ فإن الحديث عنها كان معدوما في الإنجيلين الآخرين (مرقس ويوحنا) وفي باقي أعمال الرسل والرسائل والأسفار؛ وهو ما تصدى القرآن الكريم لإعادة الاعتبار له، بالحديث عن العذراء وعن ولادتها المعجزة وكلام وليدها في المهد. إن الحديث الذي أورده البخاري وغيره من المحدثين والذي تعددت صياغاته، إنما هو صياغة حديثية جمعت عددا من الروايات السابقة الإسرائيلية وغيرها، وجعلتها ندا للقرآن الكريم؛ وقدمت عروضا جديدة ألحقت مختلف المرويات بالقرآن الكريم، ونصت على كون الرسول الكريم محمد صلعم هو من قال ذلك، رغم مخالفة بعضها لبعض ومخالفتها الصريحة للقرآن الكريم. فالبخاري جمع روايتين مع آية عيسى الواردة في القرآن الكريم وقال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، وساق الحديث. والملاحظ أن البخاري وفقا لمنهجه النقدي يرفض أن يكون المتكلمون في المهد أكثر من ثلاثة؛ وصيغته في الحديث تفيد الحصر؛ لكن المحدثين الذين ذكروا أربعة بنفس صيغة الحصر، "لم يتكلم في المهد إلا أربعة"، لهم وجهة نظر أخرى؛ وكذلك باقي المحدثين والرواة الذين روى كل منهم حدثا معينا لكلام الصبيان في المهد؛ وهو ما يعني أن لكل محدث وجهة نظر مختلفة في الموضوع، ليس من اللازم أن تتفق مع وجهات النظر الأخرى،(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.). لكن علماءنا المتأخرين ضموا هذه الروايات جميعا إلى بعضها البعض، فصار عدد المتكلمين في المهد تسعة، وليس ثلاثة أو أربعة أو غيرهم كما ذكر العلماء المنقول عنهم. ورغم اختلاف هذه الروايات والأحاديث إلا أنها تتفق جميعا على شيء واحد، وهو مخالفة القرآن الكريم، الذي نص على أن آية الكلام في المهد خاصة بالمسيح وأمه من دون العالمين، وأنها هي دليل براءته من بهتان الآفكين من اليهود والمسيحيين ومن نقل إفكهم من المسلمين. أورد البخاري في هذه الرواية قصة الزانية التي تكلم مولودها في المهد، لكن كلامه إنما كان تأكيدا لتهمة زناها؛ وهي رسالة إسرائيلية صريحة تنقض البيان القرآني في الموضوع، وتجعل الكلام في المهد الذي جعله القرآن دليل براءة هو دليل إدانة أيضا. ومن ثم كانت غاية الرواية أن تقول إن ما تتمسكون به من كلام عيسى في المهد، ليس دليلا على براءته، بل بالعكس قد يكون دليلا على إدانته، كما هو الشأن بالنسبة لهذه المرأة المومسة التي سلطها الله على جريج. تلكم كانت هي الرسالة الأساسية لهذا الحديث الإسرائيلي الذي نسب إلى رسول الله محمد صلعم زورا وبهتانا، وأورده البخاري في ما سماه الناس صحيح البخاري. وأورد البخاري في هذا الحديث أيضا رواية جريج، الذي كان يصلي ولم يجب أمه التي نادته أثناء صلاته، فسلط الله عليه المومسات تماما مثلما دعت عليه أمه. وقصة جريج هذه، هي دمج لقصة شخصيتين نقلتا من الروايات اليهودية عن المسيح إلى الأناجيل المسيحية؛ أولاهما هي قصة المسيح نفسه، عندما جاءته أمه (في رواية مع أبيه وإخوته، وفي رواية أخرى مع إخوته)، وكان يُعلِّم التلاميذ؛ فبعثت له من أخبره أنها تنتظره؛ وكان جوابه لها بالرفض، حيث قال: " أمي وأبي أو إخوتي – حسب اختلاف الروايات الإنجيلية - هم الذين يسمعون كلام الله ويعملون به"؛ وهو كلام يشير إلى أمرين سيئين نسبا إلى السيد المسيح وأمه مريم العذراء في هذه الروايات؛ الأول هو أن المسيح عليه السلام لم يكن بارا بأمه، ولذلك جعلها تنتظر حسب رواية جريج ثلاثة أيام، مما جعلها تدعو عليه بأن يريه الله وجه المومسات؛ وحسب روايات الإنجيل، فهو لم يرد أن يترك تعليمه ويستجيب لها؛ وكان بذلك عاقا لأمه وجبارا شقيا معها. والأمر الثاني الذي توحي به هذه الروايات هو أن العذراء مريم بالنسبة لابنها لم تكن امرأة متقية وفاضلة، وكان تلاميذ المسيح أفضل منها؛ لأنها لا تسمع لكلام الله ولا تعمل بشريعته؛ وهو اتهام وبهتان لا اتهام أكبر منه؛ فكيف إذا نسب للسيد المسيح في شأن أمه عليهما أزكى الصلاة والسلام؟ إن القرآن الكريم قد كان لهذه الدعاوى بالمرصاد، وجعل من أوائل ما نطق به السيد المسيح في المهد هو إسقاط هذا الزور والبهتان الذي نسب إلى العذراء والمسيح والإنجيل؛ قال تعالى: "وبرا بوالدتي، ولم يجعلني جبارا شقيا." (سورة مريم). تلك إذن هي رسالة الحديث التي أثارت إعجاب إمامنا الخطيب في المسجد الجامع في خطبة الجمعة؛ لكنه للأسف لم يكن، ولا الذين نصّبوه في مقعد الخطابة والوعظ والإرشاد؛ عالما بما يحمله هذا الحديث من أفكار إسرائيلية معادية للسيد المسيح وأمه؛ والتي نسبت بهتانا وزورا إلى الأحاديث النبوية ووضعت في كتبها ومسانيدها وجوامعها؛ والتي تحتاج من جميع المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وكتاب الله القرآن الكريم، أن يهبوا هبة علمية لمراجعة هذه المصادر الحديثية، ويتصدوا لما فيها من الأباطيل، ويبينوا زورها وبهتانها.