"حب، أخوة، تضامن، سلام" هي كلمات خطها شباب فرنسي وقاموا بتعليقها على السياج الحديدي لمسجد ستراسبورغ أكبر مسجد في فرنسا، للتعبير عن تضامنهم مع المسلمين الذين أصبحوا متهمين بعد أحداث باريس، أمام السياج الحديدي للمسجد يقف جنديان من الجيش الفرنسي لحماية المسجد من أي اعتداء "بعد أحداث شارلي كان هناك أكثر من 20 جنديا يحمون المسجد إلى جانب رجال الشرطة والآن تم تخفيف درجة التأهب الأمني" يقول فؤاد الدواي وهو مهاجر مغربي وأحد المشرفين على المسجد. وبينما تستوقفنا الكلمات المعلقة على سياج المسجد يأتي صوت آخر من الشارع المقابلة للمسجد يصرخ في وجه الجنود الفرنسيين "ولماذا لا تقومون بتأميننا نحن" يصيح مواطن فرنسي مستنكرا على الجنود حمايتهم للمسجد، ولعل كلمات الشباب المتضامنة مع المسلمين وبين صراخ الرجل الرافض لحماية المسجد، تبين إلى أي حد أدت أحداث شارلي إيبدو إلى انقسام مواقف الفرنسيين من غير المسلمين بين مساند لمسلمي فرنسا وبين مدين لهم، في حين يعيش مسلمو فرنسا بين مطرقة العنصرية أو سوء الفهم وسندان مواجهة المتطرفين الذين يحاولون احتكار الإسلام. رب ضارة نافعة ندخل مسجد ستراسبورغ الذي يعتبر معلمة إسلامية بنيت على الطراز المغربي، حيث أشرف على عملية البناء وتزيين المسجد حرفيون تم استقدامهم من المغرب لإبراز معالم العمارة المغربية على جدران المسجد، هذه الجدران التي يحدق فيها دافيد وهو مواطن فرنسي جاء إلى المسجد ليس بغرض الصلاة وإنما من أجل التعرف على العمارة الإسلامية، "زرت قصر الحمراء في قرطبة ومن ذلك الوقت أصبحت معجبا بفن العمارة الإسلامية وبعدها قررت أن أزور هذا المسجد للتعرف أكثر على المعمار الإسلامي"، يقول دافيد الذي أبدى فضولا للتعرف على كل تفصيل في المسجد حتى آية "الله نور السماوات والأرض" المنقوشة على سقف المسجد سأل عن معناها، هذا النور الذي يحاول بعض المتطرفين إخفاءه بظلامية أفكارهم. ننتقل من مرفق إلى آخر في المسجد ودافيد لا يتوقف عن طرح الأسئلة حول أدق التفاصيل في المسجد، وما إن وصلنا إلى المكان المخصص للنساء في المسجد، حتى سأل هذا الشاب الفرنسي عن إمكانية حضور صلاة الجمعة ليجيبه فؤاد بأنه مرحب به في أي وقت وبإمكانه حضور خطبة الجمعة، "أنا ولدت في مدينة ستراسبوغ وهذه المرة الأولى التي أزور فيها المسجد"، يقول دافيد الذي يشتغل كرسام، الذي لم يخفي بأن أحداث شارلي إيبدو كانت من بين الدوافع التي حفزته على التعرف على الإسلام عن قرب "لأنني أعتقد أنه يجب الحوار بين الديانات والتعرف عن الإسلام عن قرب قبل إصدار الأحكام" يقول دافيد وهو يغادر المسجد مؤكدا بأنه سيعود لحضور صلاة الجمعة. بين العنصرية والتعصب "أيام المسلمين في فرنسا ستكون عصيبة" عبارة رددها العديدون بعد أحداث شارلي إيبدو، وبالفعل فقد صدقت نبوءتهم، حيث يعيش المسلمون حاليا تحت ضغط رهيب بسبب نظرة الفرنسيين من غير المسلمين لهم، نظرة ملؤها الاتهام وتحميلهم المسؤولية عما حد ث في باريس، ولعل الضغط تزداد وطأته عندما ينتقل الأمر من النظرات إلى الأفعال والأقوال، فعلى سبيل المثال حاول مجهولون إحراق بوابة مسجد ستراسبورغ وذلك حتى قبل وقوع أحداث شارلي إيبدو. كما تزايدت الاعتداءات اللفظية على المسلمين في هذه المدينة ولعل احتجاج مواطن فرنسي على الجنود الفرنسيين الذين يقفون لحماية المسجد بدعوى أنه يجب عليهم الاهتمام بحماية الفرنسيين وليس حماية أماكن عبادة المسلمين، هو أبلغ تعبير عن التخوف الذي أصبح لدى بعض الفرنسيين وخلطهم بين المسلمين وبين من قاموا بهجمات باريس. غير أن هذا الخلط يستحيل إلى عنصرية مقيتة عندما يقدم مواطن فرنسي على قتل مهاجر مغربي من خلال طعنه 17 طعنة وهو يصرخ "أنا ربك أنا إسلامك" وقطع سبابته لمنعه من التشهد، وهي الحادثة التي أثرت في مسلمي مدينة ستراسبورغ بشكل كبير على اعتبار أن مكان وقوع الجريمة لا يبعد سوى 12 كيلومترا عن المدينة. "مسلمو فرنسا نحن نحبكم" باقة ورد وبطاقة كتب عليها "مسلمو فرنسا لا تنسوا أننا معكم ونحبكم"، كانت هي الوسيلة التي اختارها مجموعة من الشباب الفرنسي من أجل التعبير عن تضامنهم مع المسلمين، حيث قام هؤلاء الشباب الذي أسسوا جمعية "العيش المشترك"، بالحضور إلى مسجد ستراسبورغ وتقديم باقة الورد إلى القائمين على المسجد وعبروا لهم عن مساندتهم للمسلمين في هذه الظروف الصعبة التي يمرون منها. ولم تكن رسالة الشباب الفرنسي إلى واحدة من بين العشرات التي تقاطرت على مسجد ستراسبورغ للتعبير عن التضامن مع المسلمين ضد الإسلاموفوبيا التي اجتاحت فرنسا منذ سنوات ولكن أحداث باريس ساهمت في تأجيجها، ومن بين هذه الرسائل تلك التي بعث بها كريستوف وهو قس فرنسي، إلى فؤاد الدواي المشرف على المشرف على المسجد، تقول "أعرف أن المسلمين يمرون بوضعية صعبة وأنا أدعمكم لأنني أعرف أن قيم الإسلام بعيدة عن كل الجرائم المرتكبة باسمه"، ولعل هذه الرسائل هي الكفيلة بأن تخفف نوعا ما من إحساس الحذر والترقب لدى المسلمين لأنهم أصبحوا يتوقعون جميع ردود الأفعال من طرف بعض الفرنسيين. المسلمين ومراجعة تراثهم وإذا كانت أحداث شارلي إيبدو قد أحدثت ردود أفعال متباينة لدى الفرنسيين من غير المسلمين، فإنها ألقت بمسؤولية كبيرة على عاتق المسلمين من أوروبا، لأنهم أصبحوا مطالبين بإعادة النظر في التراث وإعادة قراءة النصوص الدينية على ضوء الواقع الذي يعيشونه في أوروبا، "على المسلمين مراجعة الكتب الدينية التي يعتبرونها مرجعا لتعلم مبادئ الدين"، يقول فؤاد الدواي الذي يحتك بشكل يومي مع المسلمين نظرا لإشرافه على مسجد ستراسبورغ. فؤاد أقر بأن هناك العديد من القضايا التي على المسلمين أن يجدوا لها إجابة، من بينها قضية المرأة، والمشاركة السياسية، والإرث، "كل هذه القضايا يجب أن نجد لها أجوبة من خلال إعادة قراءة للقرآن والسنة حتى لا يتم اتهام الإسلام بأنه دين لا يصلح لأوروبا"، فؤاد الذي وصل إلى فرنسا قبل أكثر من عقدين ألح على ضرورة مراجعة العديد من المفاهيم التي أصبحت دارجة على الألسنة دون فهم معناها وهي معاني الجهاد، الأمة، والخلافة "هذه مفاهيم تم نقلها إلى الغرب وتوظيفها توظيفا خاطئا أضر بالمسلمين بالدرجة الأولى" حسب رؤية فؤاد الدواي. فالس و"الأبرتايد" الاجتماعي كان للخطبة التي ألقاها الوزير الأول الفرنسي مانويل فالس أمام البرلمان الفرنسي والتي قال خلالها إن "هناك أبرتايدا اجتماعيا واقتصاديا في فرنسا ويجب محاربته"، وقع قوي لدى الأوساط السياسية والإعلامية في فرنسا، نظرا لقوة الكلمة وخلفياتها، غير أن فالس كان يقصد ما يقول ويحمل الدولة مسؤولية التمييز الذي أصبح يمارس على المسلمين أو العرب خصوصا في فرنسا. فوفقا لتقرير المجلس الأعلى للحسابات في فرنسا، تعتبر حظوظ أي شاب فرنسي له اسم عربي في الحصول على وظيفة أقل بنسبة 25 في المائة من شاب فرنسي يحمل اسما فرنسا، نفس التقرير تحدث على أن هناك تمييزا يعاني منه الشباب الذين يحملون أسماء عربية وهو ما يؤثر عليهم حتى في إيجاد التداريب، كما أظهرت أرقام المجلس الأعلى للحسابات على أن نفقات الدولة الفرنسية على مدرسة في ضواحي المدن الفرنسية حيث يقيم العرب بشكل كبير، هي أقل بنسبة 50 في المائة من نفقات المدارس الموجودة في قلب المدن الفرنسية.