ذكريات الطفولة: "مسيد الفقيه السهلي" بسلا .. أنت أذبح و أنا نسلخ... أنا الآن الطالب في مسيد الفقيه السهلي، ذلك الرجل الورع الذي ساهم في إسراج مصابيح مدينة سلا و إعلاء شأنها، بتدريس أفواج من أبناء الأعيان و الفقراء سواسية في نفس الصف. كل الذين مروا من هناك اكتمل صرحهم، و استطال و زاد شموخا. هم الآن وجهاء، و علماء، و قضاة. لم يمهلني الفقيه فرصة لأحضر نفسي كمبتدئ يكتشف لتوه عوالم الكتاب القرآني، و مقبل على التدرج في تعلم حروف الهجاء. لقد أجلسني فوق كرسي مستطيل في الصف الأول، في شكل يؤثث نصف حلقة مقابلة لمجلسه الموقر. كان الأطفال يحملون لوحات صغيرة يتهجون فيها الحروف الغير منقوطة، رافعين عقيرتهم في تناغم غير منسجم، صارخين بأصواتهم المبحوحة: " ألف، باء، تاء، جيم ..." و أعينهم تسترق خلسة النظر إلى العصا التي يحكم الفقيه قبضتها بيده اليمنى، و يرسم بها أشكالا هندسية، تضبط تناغم الأصوات، في شبه عزف موسيقي لجوق لا يحسن النوطة. تأملت بفضول اللوح و قلم القصب، المركونان جنب الجدار الخلفي للمسيد. و مددت يدي لأتحسس مداد الصمغ، تلك المادة اللزجة كالغراء التي تتحلب و تسيل من بعض الأشجار، و تتجمد بالتجفيف، و تقبل الذوبان في الماء، وضعت سبابتي داخل المحبرة الممتلئة بالمداد، كمن يريد التذوق بلهفة لذة العسل المذوب قبل أن تغمس فيه الرغيفة "الفلالية"، ذات صباح عيد فطر. سرحت عيناي في تأمل تفاصيل فضاء المسيد، بنشوة الطفل الذي أصبح طالبا كما كان إخوته الأكبر منه سنا. إنها الوثبة نحو المستقبل التي أنعشت الأمل في نفسي، لأنفتح على عوالم القراءة و الكتابة و حفظ القرآن الكريم. تأملت وجوه أقراني من الطلبة. فغمرتني الفرحة عندما وجدت من بين المتحلقين، بعض أبناء الحي الذين ألعب معهم "الخوشيبات" و "البي" في الحومة. التصقت عيناي بعصا غليظة يوصل بطرفيها حبل، بجانبها ينتصب سوط جلدي مظفر بشكل بديع. خلتهما لعبتان بمتناولنا لتقوية الفهم و صقل المواهب، و تطوير المدارك. ازداد فضولي، و تمنيت لو اكتشف سر تلك اللعبة بسرعة، فكان لي ما تمنيت. لقد لا حظ الفقيه شرودي وسط هذا العالم الجديد، فلم يمهلني الوقت لأتشبع و أروض نفسي على كذا موقف. و دون سابق إنذار أو توبيخ، أمر غلامين قويين أن يحسنوا قبضتي و وضع رجلي وسط اللعبة الأولى التي تقوي المدارك، و تكبيلي، لأنال ضربات على رجلاي باللعبة الثانية التي تصقل المواهب. استغربت من ردة فعلهم ، حتى أنني لم أتألم من فرط الضرب المبرح. رجعت باكيا للمنزل، أشكو هذا الاغتصاب المفاجئ. لأتلقى جوابا باردا من والدي: "تكبر و تنسى...راه الأماكن للي كتضرب بعصا الفقيه لا تمسها النار يوم القيامة..." يا و يلي، إنه تواطؤ الآباء، فهم يعتقدون أن العقاب وسيلة فعالة لإرغام النشء على العمل الجدي. و يتضح ذلك منذ اليوم الأول. فبمجرد الحضور أمام الفقيه، تصبح تحت سلطته المهابة، سلطة مفوضة، بتأشيرة مفتوحة من الوالد: "غير اسلخ و أنا ندبح". لقد أصبح الفقيه بمثابة كابوس في حياتي، فأضحيت المتعلم الذي يتعرض إلى كل أشكال العقاب، كلما عسر علي الفهم، أو ارتكبت خطأ، لسبب أو لآخر. فالفقيه هو المتكفل بتهذيبي و تقويم سلوكي و أخلاقي، و لو خارج الكتاب القرآني. مما أرغمني لأرتب أوراقي، و ادرس خطواتي، ليراني والدي في المكانة المرجوة. فالفقيه لا يسعه إلا سماع ما اقترفه من أخطاء، حتى يحسن تأديبي. كانت فرائصي ترتعد كل صباح، و أنا في اتجاه المسيد. لا طمأنينة في الفصل. و إن قدر و نجيت من الفلقة لأنني حفظت دروسي جيدا، فمن يضمن لي النجاة من ذلك السوط الجلدي، الذي كان الفقيه " يفرفر" به فوق رؤوس الطلبة بقوة تحدث زفيفا، كأنه حوامة تتأهب للطيران ، ليهوي به على رأس كل من جنا على نفسه بالسهو أو الكلام. المشكل أن سوط الفقيه عندما يهوي على رأس، فإنه يجر معه الأخضر و اليابس. فيصيب الجاني و البريء في "جدارة الأذن"، لعدم دراية الفقيه بفن الرماية. و هكذا أصبحت العصا شر لا بد منه، في كل الأحوال. إنه رعب حقيقي تعايشت معه و أنا طفل لم يطفئ بعد شمعته الثالثة، و أقبل لتوه على تعلم الأبجديات الأولى للكتابة و القراءة و حفظ ما تيسر من القرآن. كانت أسعد أيام الأسبوع، عندما يخبرنا الفقيه أننا سنذهب بيت سيدة أشتد حملها و عسر عليها الوضع، لندعي لها بالأدعية المعروفة" آ نفيسة طال بها النفاس، يا ربي أعطيها لخلاص". أو يجمعنا في مقدمة صفوف الداعين الله بعد صلاة الاستسقاء، في مواكب مهيبة، بجلابيبنا المقلوبة، مرددين" ربنا نعسوا رضاك و على بابك واقفين، يا من يرحمنا سواك، يا أرحم الراحمين". ومع كل ذلك، أجدني اليوم أفتخر أنني درست بالمسيد، و دقت لذة الفلقة، و مسحت صمغ اللوحة، و حفظت تحنيش الفقيه للوح بسطرين أو ثلاثة، و اتبعت ما خطه بالقصبة و مداد الصمغ، قبل أن أملك زمام نفسي. لقد كانت طاعة الفقيه من طاعة الله. و هذا ما أثار حفيظة المستعمر، الذي استاء من هذا الإتحاد بين الأسرة و المدرسة و المجاهدين ضد الاستعمار. فقام بتحدي بلغ مداه، عندما أغلق الكتاتيب القرآنية و حولها لخمارات بمدينة سلا. مما دفع رجال المقاومة الوطنية ذات يوم من سنة 1934 ، للقيام بمسيرة ضخمة بالهراوات، حيث تم إفراغ 27 خمارة. أرجعت بعدها الكتاتيب القرآنية لتقوم بوظيفتها. رحم الله الفقيه السهلي و أسكنه فسيح جناته.