في كتابه (سيكولوجية الجماهير) يرى المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي كوستاف لوبان : "... أن احتكار أي فئة لأي مسؤولية لمدة أطول ينتج عن فساد وترهل لا محالة ومن ثم يتسبب في انفلات الأمور وتفاقم حالة السخط التي يمكن أن تخرج عن السيطرة، ليأتي بعدها الجمهور في رسم الفصل الأخير من الفوضى والعنف بعد أ ن يضيع زمام الأمور ..." بالرغم من أن كتاب "لوبون" كتب أكثر من نصف قرن لكن أفكاره تظل نابضة مفعمة بالحياة اليوم نظرا لتشابه القضايا وتداعي الأحداث الذي وإن اختلفت ظروف ملابساته وأجوائه يضل عنوانه الأبرز الانتكاسة والترهل الذي يعتري أغلب مكونات الجسم السياسي والحزبي العربي عموما والمغربي على وجه الخصوص، فكلما اقتربت الحملات الانتخابية ارتفعت في بلادنا درجة حرارة السياسيين والمرشحين الحزبيين، فنلاحظ عدة تجمعات مشبوهة (ولائم ووعود وشعارات براقة وحفلات هنا وهناك... ) وتحركات مريبة واستقطابات حادة وتحريك لبعض الآلات المعطلة وتركيز على فئات خاصة دون أخرى داخل مكونات المجتمع خاصة الشباب، الأمر الذي يبين وبشكل ملموس أن تعامل السياسيين في بلادنا مع هذه الفئة تعامل باهت وموسمي ظرفي تحكمه هواجس انتخابوية ضيقة. والواقع أن الشباب رأسمال لا يجادل أحد في أهميته وقطاع يصعب القفز عليه أو تجاوزه، فلا يتصور تأسيس عمل سياسي بناء ومنتج دون أن يكون حضور الشباب وازنا لا مجرد حضور شكلي هامشي، لذا يحق لنا أن نتساءل عن مسؤولية الأحزاب في نفور الشباب من العمل السياسي والحزبي آخذين بعين الاعتبار أن من مهام العمل الحزبي الجوهرية التأطير بمعناه الخاص والعام، مع العلم أن قطاع الشباب ترصد له مبالغ مالية ضخمة من أجل التأطير والتكوين والتأهيل،لكن مع الأسف هاته الأموال تصرف في أمور تافهة دون جدوى . لا يحتاج المرء إلى كبير جهد لإدراك أن الديمقراطية مسار وان المؤسسات الديمقراطية تتنبئ عن نفسها من خلال آليات اتخاذ القرار وفرز النخب وتدبير الخلاف وطبيعة الأولويات ونمط القيادات. فما مدى حضور هذه المؤشرات في أحزابنا السياسية؟ الواقع أن الكيان الحزبي يغلب عليه مظاهر أخرى مخالفة تماما لما ذكر سلفا وهذه بعض تجليات التصدع والترهل التي تعيشها أحزابنا المهترئة. استبدال القناعات السياسية والمرجعية الإيديولوجية بعصبية مقيتة. الكولسة والتآمر و المكر والخداع وشراء الذمم بدل العمل المؤسساتي الشفاف. السلطوية ومركزة القرار بدل التدبير التشاركي. الشرعية التاريخية والعمرية بدل شرعية الانجاز والعطاء. الانقسام والتشظي بدل ثقافة تدبير الاختلاف. المتاجرة بالآم و آمال الناس وأحلامهم بدل تحمل المسؤولية السياسية بكل تجرد وشجاعة. التحكم بدل شرعية القاعدة. وهم التجربة بدل تبادل الخبرات ونقل التجارب. سياسة الكيل بمكيالين بدل ربط المسؤولية بالمحاسبة. كل قضية من هذه القضايا كافية لإبعاد الشباب عن العمل السياسي والحزبي لأن الشباب ينتعش في أجواء الحرية والحيوية والتعبير والطموح والتوثب. إن الطبيعة تأبى الفراغ والشيء الذي لا يتحرك يأسن ويتكلس والتفكير النمطي يعمي،وإن العمل الحزبي أصبح آلية من آليات الربح السريع وبات منبعا لا ينضب لطلاب الثروة، والعقليات التي ترعرعت في هذه الأجواء الملوثة ليس من مصلحتها تشبيب العمل السياسي لأن مثل هذه العقليات التقليدية المتكلسة يصعب عليها تقبل النقد وتحمل أعباء التغيير، فدخول الشباب إلى العمل الحزبي سوف يزلزل أركان الفساد السياسي فتتكسر من ثم أوهام قدامى السياسيين وتتحطم على صخرة طموحات الشباب الصاعد والواعد. وهذا الذي يخيف صناع القرار ويدفعهم إلى تيئيس الشباب من المشاركة السياسية والإقصاء الممنهج. لطالما سمعنا في مناسبات عدة من قساوسة وكهنة سياسيين من يبرر هذا العزوف بأسباب واهية لا تستقيم كنقص الخبرة وضعف التكوين والتجربة والرعونة السلوكية والأخلاقية والعضلات السياسية على شاكلة الحنكة السياسية وغيرها من المبررات الواهية التي تكشف عن خبث الطوية ولؤم الفاعل السياسي والحزبي. فنظرة سريعة على مواقع التواصل الاجتماعي، وبعض المواقع الالكترونية يجعل الباحث المنصف يخرج بفكرة عامة، حول وعي الشباب ومدى متابعتهم الدقيقة ومشاريعهم الطموحة و آمالهم العريضة، وأفقهم الواسع في فهم وتحليل الواقع الاجتماعي والسياسي بشكل يتلاءم ومستجدات العصر،شباب مسلح بقيم وطنية في الوفاء والتضحية والكفاح، شباب مشبع بروح المسؤولية الخلاقة ومفعم بثقافة الإلهام والابتكار والتجديد، شباب قادر على التغيير والإصلاح في سبيل بناء صرح وطن يكفل الحرية والكرامة والعدالة والمساواة لكل فئاته، بمختلف انتماءاتهم واختلافاتهم المرجعية. لكن في المقابل هناك فئات عريضة من الشباب تم توجيه انشغالاتهم إلى أمور هامشية وثانوية وقد صيغ هذا الأمر بطرق ذكية أعدت سلفا بعدما تمت دراسة سيكولوجية هذه الفئة وطرق تفكيرها وتطلعاتها وحتى نزواتها، طبعا لم يكن ذلك حبا في سواد عيونها أو خدمة لمتطلبات هذه الفئة الحيوية التي تعد القلب النابض لنهضة الأمم، بل على العكس من ذلك كان الغرض التشويش وتشتيت أفكار الشباب الطموحة من أجل أن يعرض عن الدور الفعال المبادر الذي يفتح له أبواب معانقة الابتكار والتجديد والإبداع، وللأسف الشديد نجحوا في مكائدهم الخبيثة واستطاعوا تدجين فئات عريضة من الشباب المتألق والطموح بلغت حد التنويم ،مما أفضى إلى تنميط ثقافتهم,وتشتيت انتباههم حول قضايا الشأن العام. الخلاصة هي أن وراء كل دخان نار مشتعلة وهو ما يعني أن هناك استراتيجيات ممنهجة هدفها إقصاء الشباب وإلهاؤهم وقبر قدراتهم بدل إشراكهم وتحفيزهم لكي يقوموا بالدور المنوط بهم، و هو ما أفرز هذا النوع من العشوائية واللامبالاة من لدن فئة الشباب في التعاطي مع عدد من القضايا ذات الصلة بالعمل السياسي الحزبي وهذا هو واقعنا المر الذي لا يرتفع. فهل من آذان صاغية يا صناع القرار قبل فوات الأوان؟ [email protected]