لا يمكن لأي متابع للساحة السياسية الوطنية إلا أن يشيد بالخطوة الاندماجية التي أقدمت عليها ثلاث أحزاب يسارية مغربية والقاضية بتشكيل قطب يساري تم التوافق على تسميته "بفيدرالية اليسار"، يتعلق الأمر بكل من حزب الطليعة الاشتراكي واليسار الاشتراكي الموحد وحزب المؤتمر الوطني الاشتراكي، جاء ذلك بعد اختيار دقيق لتوقيت إعلان هذا التحالف والمتزامن مع ذكرى 23 مارس، في إشارة رمزية إلى كون هذا التحالف سيبقى وفيا لخط النضال الذي عرفته الساحة الوطنية منتصف الستينات من هذا القرن. تشكيل هذا الجسم، وكما صدر على لسان مؤسسيه، يندرج في إطار إعادة بناء حركة اليسار المغربي على أساس الدفاع على مجموعة من المحاور، من ضمنها النضال الديمقراطي الجماهيري السلمي لتحقيق ملكية برلمانية، الارتكاز على القيم الكونية للحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان بما في ذلك المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، فصل السلطة عن الثروة والتوزيع العادل لهذه الأخيرة... قد يكون من المفيد الرجوع قليلا إلى الوراء في محاولة لفهم بعض خلفيات قرار تشكيل هذا التحالف، وهنا لا بد من الإشارة إلى ما ميز المشهد السياسي المغربي إبان ما بات يصطلح على تسميته بالربيع العربي، والنسخة المغربية لهذا الربيع ممثلة في حركية شباب 20 فبراير، حيث شكل اليسار أحد التوجهات الداعمة لحركية هذا الشباب وأنشطته، بما أعطى نوعا من الزخم النضالي لليسار كان قد افتقده لسنوات بحكم الأزمة التي يمر منها في السنوات الأخيرة. على أن الطريقة التي تمت بها إدارة هذا الحدث، بدء بالخطاب التاريخي ل9 مارس، مرورا بالتعديلات التي أدخلت على نص الدستور، وإقرار انتخابات سابقة لأوانها، قد ضيقت الأجواء بشكل نسبي على حركية هذا الشباب، اعتبارا لكون الحزب الإسلامي المتصدر للانتخابات كان يعتبر تيارا صاعدا سبق وأن عانى هو الآخر من كل أشكال التضييق والحصار من طرف السلطة، وربما كانت فرصته قد حانت مع هبوب رياح الربيع ليتصدر سبورة النتائج، وبالنظر لقيمة التعديلات التي أدخلت على الوثيقة الدستورية، حيث اعتبرت صيغة متقدمة حظيت باستحسان جزء من الفرقاء السياسيين وتم التصويت عليها بالإيجاب. غير أن جزء من اليسار لم يتفاعل إيجابا مع ما اعتبره التفافا من طرف السلطة على الحركية النضالية التي كانت قد أطلقتها حركية 20 فبراير، وهو ما تجلى من خلال التصويت "بلا" على الوثيقة الدستورية، وتمت عملية مقاطعة الانتخابات التشريعية التي جرت أواخر 2011، حفاظا ووفاء للخط النضالي التصاعدي الذي عرفته المرحلة، وللتعبير عن عدم الرضى وتسجيل موقف جزء من توجه اليسار على ما يعتمل في الجسد المغربي من توجهات واستراتيجيات. بابتعاد المسافة مع أجواء الربيع، توارى إلى الخلف إشعاع هذا التيار، متأثرا بالانحصار الذي يعرفه اليسار عموما، وبتصاعد إشعاع الحركات الإسلامية وكذا بالنظر للإرث التدبيري شبه السلبي الذي كان قد راكمه المغرب مع الحكومات التي كانت محسوبة على الاتحاد الاشتراكي، الحزب المحسوب على قطب اليسار. كل هذه الأمور جعلت اليسار في وضعية لا يحسد عليها، وهو ما دفعه لمضاعفة الجهود من أجل أن يخلق لنفسه متنفسا من حيث محاولة اقتراب أجزائه بعضها ببعض كي يحصل على بعض الدفيء الذي يمكنه من أن يبقي على نفسه حاضرا في المشهد العام الوطني، وهو ما تأتى له عمليا من حيث خلقه لإطار تحالفي جديد تمت تسميته بالفيدرالية. الإطار الجديد، حاول أن يبقي شعلة اليسار متقدة في المشهد الإعلامي الوطني من حيث قيامه بمجموعة من المبادرات تسير في هذا الاتجاه، من ضمنها فتح إمكانية الالتحاق بهذا التحالف لكل الهيئات المدنية والسياسية والنقابية، كما حرص على إطلاق النقاش حول الجسم الفيدرالي بين أنصاره على المستوى الوطني و الجهوي الإقليمي و على الصعيد المحلي حتى يتسنى له إنضاج مشروع ورقته السياسية، ومن حيث محاولته إعطاء نوع من الديناميكية لنضالات الشباب اليساري من داخل الجامعات المغربية، للخروج من واقع التشرذم والتشتت، ومن دون إغفال باقي الواجهات الأخرى ذات العلاقة بالنضال المدني والحقوقي وإنجاح بعض المحطات النضالية كما هو الحال مع ما حصل مع المشاركة في الإضراب الوطني. بالموازاة مع كل هذا الزخم، بدا بأن تشكيل هذا الجسم الفدرالي، كان مدروسا من جهة التوقيت، بحيث أنه كان على مسافة زمنية فسحت المجال للمكونات الحزبية الثلاث للاحتكاك والتعايش بعضها ببعض من أجل إنضاج فكرة المشاركة الجماعية في الاستحقاقات الانتخابية، وهو الأمر الذي تمت المصادقة عليه بالإجماع من طرف الأجهزة التقريرية للفدرالية مؤخرا، وهو ما جعل الفيدرالية تعلن "وإن بشكل مبكر" استعدادها للمشاركة في كل الاستحقاقات الدستورية المقبلة من انتخابات جماعية وبرلمانية وغرف مهنية. فكرة المشاركة قد تحمل بين ثنايا نوعا من الدعوة المضمرة إلى "كل معني" وإلى أنصار بعض أعضاء الاتحاد الاشتراكي أساسا والراغبين في مغادرته بعد تعنت كاتب عام الحزب وعدم رغبته في الرجوع ولو خطوة إلى الوراء تفضي إلى التئام الوضع، وحتى لا يبدو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية هو الخيار الوحيد أمام الراغبين في الانسحاب، فالجسم الفدرالي يقدم نفسه "كإمكانية أخرى" في وجههم، أكثر من ذلك فهو يقدم إليهم تطمينات بان المشاركة خيار لا رجعة فيه، فلن تكون هناك مقاطعة للانتخابات، وعلى من يريد المشاركة معنا في ظل الأجواء اليسارية من أنصار الاتحاد فهو مرحب به في بيت الفيدرالية. من جهة أخرى، يبدو وكأن قرار "الإجماع الكلي على المشاركة" في الانتخابات، غريبا نسبيا لدى العارفين بالأجواء التي تسود عادة في جسم اليسار، فاليسار كما نعرفه يستعصي على التنميط، وينحو بطبعه نحو التدقيق، وفي بعض الأحيان في الإغراق في التدقيق، وربما يكون قد تعامل سياسيا مع مسألة المشاركة، بالشكل الذي يبدو فيه "القرار" نابعا من الكيانات الثلاث التابعة لجسم الفيدرالية، حتى يتم القطع مع أي تبرير قد يريد أن يلجأ إليه البعض من هذه المكونات يختبئ بموجبها وراء المقولة الفضفاضة "بأنه حفاظا على جسم الفدرالية ارتأينا أن نمضي في اتجاه المشاركة رغم تحفظنا على هذا المنحى"، لقد بدا واضحا هذه المرة بأن المكونات الثلاث كلها قالت "نعم للمشاركة" وانتهى الكلام. وهو القرار الذي لم يكن سهلا هضمه بسهولة على بعض المنتظمين من داخل الهيئات الحزبية للفدرالية، بحيث وفور الإعلان عن خطوة المشاركة، حتى بدأت أصوات الرفض تلوح من هنا وهناك، اعتبارا إلى أن القضية "بحسبهم" لم توضع في التداول وأن القرار كان فوقيا وبيروقراطيا لم يشرك كافة الأجهزة في اتخاذ القرار. القيادية في الحزب الاشتراكي الموحد الأستاذة نبيلة منيب، بدت متفهمة لهذا المطلب من حيث اعتباره نابعا عن طموحات جزء من الشباب الذي بحسبها لا يزال يعيش على سياق واقع نضالات حركية 20 فبراير، وإذا كانت الظرفية إداك قد أملت اتخاذ قرار المقاطعة إلا أنه بحسبها فالمشاركة هي الأصل والمقاطعة استثناء، وأن النضال عليه أن يكون على كافة الواجهات، في الشارع ومن داخل المؤسسات أيضا، حتى تتم الاستفادة من الإمكانيات ومن التمويل ومن التواصل مع الشعب، وربما هي بصدد إبداء رأي الفيدرالية فيما يخص سياسة الكرسي الفارغ. في جانب من تصريحات الأستاذة منيب، يظهر نوع من التطور في أسلوب ومقاربة واقع النضال الديمقراطي، حيث لم يعد المخزن والشروط المسبقة هي المحدد من وراء "المشاركة أو المقاطعة"، إذ بات ينظر إلى المشاركة باعتبارها أحد التقنيات المستعملة في تغيير هذه الشروط، وهو الأمر الذي بادرت بفعله هيئة الفيدرالية من خلال مذكرة تم رفعها إلى وزارة الداخلية في شأن اقتراح مجموعة من التدابير من شأنها توفير شروط مناخ سياسي جديد و متطلبات نزاهة الانتخابات الجماعية المقبلة. في تقديرنا فلم يكن هناك تأسيس جيد "لقرار المشاركة"، يحس المرء كما لو أن هناك انتقالا من موقف إلى موقف مناقض له، وحبذا لو كانت هناك دفوعات قوية تبرر أمر المشاركة، يحس المرء كما لو أن هناك اعترافا ضمنيا بمجموعة من التحولات التي حصلت في البلاد إلا أن الجسم الفيدرالي لا يريد أن يقر بذلك، ربما يريد أن يبقى في التعميم والخلط، أكثر من ذلك كل من سنحت له فرصة قراءة "مشروع الوثيقة السياسية" قد يخرج بتصور بأن الجسم الفيدرالي ومن خلال طريقة تحرير نص الوثيقة كما لو أنه يهيئ للمقاطعة إلا أن المفاجأة تكون كبيرة حين يخلص القرار إلى أمر المشاركة، ومن يدري فربما يريد اليسار أن يحافظ على نبرته المعهودة والتي يعرف بها وكي يحافظ على أنصاره ويتركهم في الأجواء الحماسية والثورية... ربما تكون الفدرالية قد اقتنعت بأن قطار الثورة قد مر مع أجواء الربيع، وخلف ما خلفه من وراءه، وأن وصفة الثورة ليست بالضرورة هي الوصفة المثلى لتغيير واقع الحال، فربما قد تكون هناك "سيناريوهات للحل" وحتى النضال من داخل المؤسسات يمكن أن يكون له بعض المميزات التي بالإمكان استثمار مجالها، سيما في الظرفية الحالية التي تكاد تخلو الساحة من أحزاب يسارية يمكن لها أن تنافس الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية في معترك الساحة الانتخابي. http://freisma.com/zarhouti-blog/ باحث في المشهد السياسي