يبدو أن شمس الانفتاح الإعلامي وانفراج حرية التعبير والرأي والصحافة بالمغرب سرعان ما اختفت.فبعد الانفراج النسبي في أواخر عهد الملك الراحل الحسن الثاني بظهور صحف مستقلة تتمتع بهامش متميز من حرية التعبير، كجرائد الصحيفة ولوجورنال والأحداث المغربية،بالإضافة طبعا إلى بعض الصحف الحزبية التي اكتسبت هامشا من الحرية بفضل أدرعها الحزبية والسياسية. لقد استمر هذا الانفتاح الإعلامي حتى مطلع الألفية الحالية مع اعتلاء العاهل محمد السادس عرش العلويين بالمغرب،وظهرت عشرات المنابر الإعلامية المستقلة والتي نجحت في اٍكتساب هوامش أكثر من الحرية والاستقلالية بفعل ظهور جيل جديد من الصحفيين يتميز بالجرأة على اقتحام مجموعة من الطابوهات والخطوط الحمراء.إن جل المتتبعين بالمغرب وخارجه تفاءلوا بالعهد الجديد حيث جاءت خطوة تحرير القطاع السمعي البصري من احتكار الدولة، وكذا تقنين قطاع الاتصالات عامة بالمغرب،وذلك بإنشاء المجلس الأعلى للسمعي البصري والوكالة الوطنية لتقنين الاتصالات،وما تلا ذلك من بروز عدة إذاعات خاصة وقنوات تلفزية عمومية،لكن هذا التفاؤل سرعان ما سيضمحل عندما تبين أن هذه الاداعات والقنوات لا تتوفر على أدنى حرية خصوصا في القضايا السياسية والديموقراطية بالبلد ،مما جعلها تستهلك الخطاب الرسمي بشكل يفوق ما كان سائدا في الإعلام العمومي في بعض الأحيان،كما تبين أن المؤسسات العمومية المحدثة لتقنين القطاع الإعلامي تسير وفق قوانين وإجراءات ثقيلة وتعجيزية تحد من تأسيس المزيد من المنابر الإعلامية. إن الانفتاح الإعلامي النسبي بالمغرب تراجع بشكل ملفت قبل حوالي خمس سنوات من اليوم ،وذلك ما يتجلى من خلال مجموعة من الممارسات التضييقية، والتي اختلطت فيها أيادي السلطات الإدارية والقضائية والأمنية والسيادية والمؤسسات الاقتصادية،بشكل جعل المحللين يعجزون عن فك طلاسم مجموعة من القضايا،فقد كانت هذه الممارسات موجهة على هذا النحو من أجل إبعاد كل الشبهات عن الجهات الرسمية بالدولة فيما يخص التضييق على حرية التعبير،وقد تمثلت هذه الممارسات في عشرات الحالات على المستوى الوطني كان أبرزها متجليا في: -التضييق الضريبي والاقتصادي على المؤسسات الإعلامية،من خلال تسلط المفتشين الماليين والاجتماعيين ،وكذا تني المقاولات الاقتصادية من تقديم الدعم الاشهاري للمنابر المزعجة(مجلتي لوجورنال،نيشان...) -التضييق القضائي بفرض غرامات مالية خيالية، وجعل مجموعة من الملفات القضائية للجرائد مفتوحة أمام القضاء حيث يمكنه تفعيلها متى شاء(جريدة المساء...) -الإغلاق التعسفي لمقرات بعض الجرائد دون سند قانوني(جريدة أخبار اليوم،جريدة المشعل...) -اعتقال صحفيين واستنطاقات ماروطونية هدفها التحطيم النفسي لمجموعة من مدراء الصحف(توفيق بوعشرين،علي عمار،عبد المنعم ديلمي،نور الدين مفتاح...) -سجن صحفيين ومدراء صحف في ظروف لا إنسانية(دريس شحتان... ) -منع صحفيين من الكتابة أو من الظهور في القنوات التلفزية العمومية(علي المرابط،...) -إتلاف كميات من الصحف بعد طبعها أو منعها من التوزيع مما شكل أعباء مالية عليها(مجلة نيشان،جريدة أخبار اليوم...) -الهجوم البوليسي على مقرات مجموعة من الجرائد(جريدة الوطن الأن...) -المحاكمات الصورية لمجموعة من المراسلين الصحفيين والجرائد الجهوية بعدة مدن ومناطق مغربية. -منع البث التلفزي الفضائي لقناة الجزيرة وسحب اعتمادات صحفييها. ولقد كان القرار لوزارة الاتصال المغربية باٍغلاق مكتب قناة الجزيرة العالمية بالرباط ضربة أخرى موجعة لحرية التعبير والصحافة بالمغرب،توضح بالملموس أن كل الشعارات الرسمية المرفوعة باتساع هامش الحرية بالمغرب مزيفة غرضها هو الاستهلاك الإعلامي الداخلي والخارجي.فالادعاء بأن قناة الجزيرة تعادي الوحدة الترابية للمغرب لا يقبله العقل، خصوصا إذا علمنا أن جل العاملين بمكتب القناة بالمغرب من خيرة الشباب المغربي خريجي المعاهد والجامعات المغربية والمعتز بوطنه،كما أن القناة تقوم بالعمل الإعلامي الإخباري فيما يخص قضية الصحراء مثل ما تقوم بذلك القنوات التلفزية الاسبانية والفرنسية والأمريكية والبريطانية وغيرها،فمهام هذه القنوات ليس هو الدفاع عن المواقف السياسية المغربية، وإنما عملها مهني بالأساس يتجلى في نقل المعلومة والخبر وكذا وجهات نظر جميع أطراف النزاع بمن فيهم جبهة البوليزاريو بالطبع،فاٍذا كانت القناة معادية للمغرب كما يدعي وزير الاتصال في خرجاته الصحفية الكثيرة فلماذا كان يملئ شاشاتها صباح مساء قبل أن يكون وزيرا مستغلا ذلك في نقل أرائه السياسية والحزبية. أما الادعاء بأن القناة نقل فقط الجوانب السلبية من الوضع الداخلي بالمغرب (الفقر،البطالة،الاحتجاجات...)،فهذا شأن يخص القناة وخطها التحريري وهو ما تفعله في كل دول العالم حيث تتوفر على مايزيد عن 150 مراسلا. في الحقيقة إن إغلاق مكتب قناة الجزيرة بالرباط وسحب الاعتمادات من صحفييها يعبر بشكل ملموس عن انزعاج الجهات الرسمية من ارتفاع نسبة مشاهدة القناة بالمغرب وجودة برامجها الإخبارية والوثائقية والحوارية ،وكذا من خطها التحريري الذي يعمل على مبدأ الرأي والرأي الأخر فقد فتحت القناة استديوهاتها لكل التيارات الفكرية والسياسية بالمغرب وللمعارضين السياسيين الحقيقيين منذ التسعينات اٍلى اليوم، في وقت تغلق فيه أبواب القنوات المغربية أمامهم وهذا ما يسجلها التاريخ للقناة بحبر من ذهب،فقد استضافت القناة أبرز رموز الحركة اليسارية (بنسعيد أيت يدر،أحمد بن جلون،برهام السرفاتي...)،والحركة الأمازيغية(أحمد الدغرني،حسن اٍدبلقاسم،أحمد عصيد...)،والحركة الاسلامية(نادية ياسين،فتح الله أرسلان،أحمد الريصوني،مصطفى المعتصم...)،والحركة الحقوقية(عبد الحميد أمين،عبد الرحمان بعمرو،خديجة الرياضي...)،والوزراء والمسؤلين المغاربة(عبد الهادي بوطالب،...)،كما استضافت القناة رواد الحركة الفنية الجادة بالمغرب والمقموعون من تلفزات وطنهم(أحمد السنوسي،مجموعة اٍزنزارن عبد الهادي ...).كما كان للصحفيين المغاربة دور مهم في تأسيس القناة وتألقها على المستوى العالمي ،فقد كان هؤلاء الصحفيون مهمشون ومحرمون من حرية المبادرة حين كانوا في تلفزات وطنهم وهنا أذكر عبد الصمد ناصر وحسن الراشدي واٍقبال اٍلهامي ومحمد العلمي وغيرهم. إن إغلاق مكتب القناة في هذه الظرفية بالذات سيكون أخر طلقة رصاص حكومية في جثة الحرية بالمغرب التي تشرف على الموت ،لكن هذا الإغلاق سيشكل منعطفا جديدا للتعامل الحقوقي والإعلامي مع المغرب كبلد يقمع حرية الرأي والتعبير،وليس كبلد يصارع من أجل بناء دولة ديمقراطية. *باحث سياسي مغربي