تتجاذب الحقل الديني في المغرب اتجاهات تقليدية معروفة لجميع المتخصصين، يتعلق الأمر بالإسلام الرسمي والإسلام السياسي، وكلاهما يضعان موضوعا لهما الإسلام الشعبي. وإذا كان الإسلام الرسمي هو الأكثر قبولا للإسلام الشعبي وتماهيا معه، ولا يفعل إزاءه أكثر من حمل الملتزمين بمقولاته على الطاعة والمهابة الواجبتين لولي الأمر "أمير المؤمنين"/الملك، فإن الإسلام السياسي غايته أخرى. وبصرف النظر عن ما يعنيه في ركام العقائد والسلوكات البانية لجسد الإسلام الشعبي، بحيث أن هناك من يعنيه بالأساس أمر العقيدة، وهناك من يعنيه بالأساس أمر الموقف من الحكم، وبصرف النظر عن ذلك فغاية ذلك الإسلام السياسي هي فك وإعادة تركيب ذلك الإسلام، وذاك بالتمترس من داخل تشكيلاته الخطابية، وتغيير أماكن الحواجز التي نصبتها الثقافة ضمن مسالكه وشُعبه. وفي الآونة الأخير لاحت بوادر أطراف أخرى ستشرع في لعب دور في تجاذب الحقل الديني المغربي مع الأطراف التقليدية، ويتصل الأمر هنا بفئة الفقهاء المحسوبين على الإسلام الرسمي/المؤسسي لكنهم يمثلون بداية ميل لتكوين طابع شخصاني/نجومي أكثر تأثيرا في الرأي العام. ويعتبر الدكتور مصطفى بنحمزة من بين أهم أولئك، فالرجل هو رئيس المجلس العلمي لوجدة، وهو فقيه مواظب على الكتابة والحضور إلى الأنشطة الأكاديمية والبحثية، ويواكب جديد الإعلام ومستجدات ساحة التفاعلات الوطنية، ومنها مثلا الضجة التي أثارتها مؤخرا مواقفه من "البنوك الربوية"، وهو الأمر الذي جعل البعض يتهمه بميولات "وهابية". وإذا كانت واضحا أن شيوخا من قبيل "النهاري" و"أبو النعيم" هم موجات نافرة صادرة عن الإسلام السياسي بشكل أو بآخر، وينضاف إليهم حتى شيوخ من قبيل "الفيزازي"، والذي انتقل من بنية "الإسلام السياسي الأكثر تطرفا" إلى بنية الإسلام الرسمي!. إذا كان ذلك واضحا فإنَّ ما حدث مع الدكتور مصطفى بنحمزة يميط اللثام عن خطر يهدد بنية الإسلام الرسمي، والبنية ذات الصلة بالحقل الديني المغربي بركيزتيه الرسمية والشعبية، بحيث أن ثمة خطرا يهدد الإسلام الشعبي/الثقافي المغربي، وبصرف النظر عن الغايات التي يُسخر لها الإسلام الرسمي إلا أنه صمام أمان قمين بالحفاظ على الإسلام الشعبي/الثقافي، ومهما كان قناةً تربطه بالسلطة إلا أنه لا يمنعه من الالتحام أكثر بخاصيته العفوية وانفتاحه على التطور والتجدد والتعدد، وهي السمات التي يتغيى الإسلام السياسي القضاء عليها بشكل أو بآخر. والخطر المذكور يتمثل إجرائيا في اختراق تسعى جماعات الإسلام السياسي إلى إحداثه في بنية الإسلام الرسمي. فإذا كان ذلك الاختراق سهل تماما إحداثه في بنية الإسلام الشعبي/ الثقافي نظرا لسماتها المذكورة، فإنه يصعب للغاية إحداثه في بنية الإسلام الرسمي، ذلك أن الدولة باعتبارها الوصية على الإسلام الرسمي، والذي تسعى من خلاله إلى التحكم في مفاعيل الإسلام الشعبي، ومنع حركات الإسلام السياسي من أخذ قواه الضاربة صوب أنواع من الانفلات والعصيان. يقصد بالإسلام الرسمي بنية متكاملة من الأفكار والمؤسسات والوقائع، باعتبار ذلك التقسيم لا يتناقض مطلقا مع حقيقة أن الإسلام واحد، ولكنه تعبير عن أن الإسلام/النص/التاريخ لا يفصح عن ذاته إلا من خلال تمظهرات أخرى قد تتعارض هي مع النص/التاريخ، وهذه التمظهرات توجد في الثقافة والسلوك الشعبيين ذوي الانتساب/الإرث إزاء الإسلام/النص، وتوجد في تأويل مؤسسات السلطة السياسية عبر العصور للنص الديني ووقائع الماضي، واستخدام تلك التأويلات لإقناع "العامة"/الشعب بضرورة طاعة السلطة إياها، وتوجد أخيرا في تأويلات عدة حركية بزغت جذورها منذ زمن الفتنة والى اليوم ترمي إلى تصحيح إسلام الثقافة/الإرث والاعتراض على إسلام السلطة وإقامة إسلام النص حسب منظوراتها المختلف عليها عقيدة وشريعة، سواء فيما بين دعاة ذلك الإسلام/الحركي/السياسي أو بينها/بين كل منها وبين السلطة السياسية من جهة، أو بينها وبين الإسلام الشعبي/الثقافي من جهة ثانية. فالإسلام الرسمي لا يفعل إزاء الإسلام الشعبي/الثقافي أكثر من تطويعه، وذلك بمسايرته في كل أركانه، وفي المغرب يتمظهر الإسلام الرسمي في فكرة "إمارة المؤمنين" وحضورها الضمني في مؤسسات التدريس والبث الديني، بحيث هناك مركزية تتمتع بها هذه المقولة داخل مختلف مدارس ومؤسسات التعليم الديني، وتحوم حولها خطب الخطباء في المساجد، وتُرَوَّج/يروِّجها الناس/ العامة حملة الإسلام الشعبي/الثقافي، وهي مركزية أيضا حتى في مضامين ومُتون ما يتبناه فقهاء المغرب في مؤسسة القرويين ومدرسة الحديث الحسنية وغيرها من مؤسسات تخريج كوادر الحقل الديني المغربي، وهي أيضا محط النزاع بين بعض من تيارات الإسلام السياسي كالعدل والإحسان، وهناك حركات أخرى لا تعطيها أولوية في الصراع كالوهابية، فصراعها الأساسي والآني مع الإسلام الشعبي/ المملوء بدعا، وضمنيا هو صراع مع المؤسسة الدينية/السلطوية/الرسمية التي تحمي وتكرس تلك البدع. فإمارة المؤمنين في المغرب باستثمارها إرث فترة حكم السلاطين/الملوك قبل الاستعمار، وتقعيد أركانها بترسانة الفتاوى والمؤسسات، هي بذلك أمسكت خيوط الربط بين السلطة وبين المجتمع/الشعب، فالإسلام الشعبي كما هو محافظ عليه يصونه أئمة مساجد وقيمون دينيون هم أصلا جزء منه وتلقوا تعليمهم الديني في مؤسسات لا تتصادم معه، ويجري توظيفهم خطابيا للحفاظ على البلاد من "الفتنة" وهي غاية لا تتصادم لا مع الإسلام الشعبي ولا مع الإسلام/ النص، وفوق كل هذا تحاول إمارة المؤمنين على الدوام إعادة تأسيس مشروعيتها عملانيا، وإضفاء المقبولية والرضى عليها. فتصبح إمارة المؤمنين بشكل أو بآخر صمام أمان يحمي الحقل الديني المغربي بركيزتيه الرسمية والشعبية من التشظي، وذلك بقطع الطريق أمام الإسلام السياسي ومنعه من اختراق المؤسسة الدينية الرسمية، والوسائل بالطبع ليست فكرية فقط، وإنما متمثلة في التناغم الحاصل بين المؤسستين الدينية والأمنية. وإذا كانت الميزة الوحيدة لإمارة المؤمنين هي تلك التي أشرنا إليها، والمتمثلة في تحصين الحقل الديني المغربي ضد التشرذم، وصون الأمن الروحي للمغاربة، فإنها لا تسلم هي الأخرى من الانتقادات إذ تتكدس حولها العديد من الممارسات البروتوكولية التي تصل بشخص الملك إلى حد التقديس!، وهي مسألة تثير انتقادات الإسلام السياسي وسخط القوى اليسارية والليبرالية الأخرى، وتضع الملكية على التخوم بين الرغبة في تكريس وجودها عبر الحفاظ على تلك الطقوس وبين مخاطر الاصطدام مع عوامل الزمن، وهي العوامل التي جعلت مرجعيات دينية ارتبطت بالملوك في بلدان أوروبا تستحيل مرجعيات رمزية. يعتبر تدبير الحقل الديني مسألة ملحة، وهي تنطوي على مخاطر جمة إذا تُرك الحقل الديني رهين تفاعلات غير منضبطة، ومادام قدَر الأديان عبر التاريخ أن تستغل لفائدة طرف ما، فالأفضل أن تحتكر الدولة سلطة التأويل تلك، ولذلك تحتاج الدولة إلى مرجعية معيارية تضبط استنادا إليها تفاعلات الحقل الديني. وقد اهتدت الكثير من الدول والنظم إلى مرجعيات دينية تمكنها من توحيد الحقل الديني وصونه من التشرذم، إلا أن دولا أخرى قريبة منا عانت ولا تزال تعاني جراء غياب مرجعية دينية جامعة قادمة من مركز ما في الدولة ومتموقعة ضمن مؤسسات التكوين والبث الدينيين. إذا كانت المرجعية الدينية في المغرب هي إمارة المؤمنين والتي أفادته في هذا المضمار، فإن إلقاء نظرة سريعة على الحالة الدينية في مصر على سبيل المثال كفيلة بأن تُبيّن الفرق. عدا سلطة "الحاكم بأمر الله" الخليفة الفاطمي الذي حكم مصر فيما بين القرنين العاشر والحادي عشر، وبعض التجارب الشبيهة به، ومنها محاولة الإخوان المسلمين في القرن العشرين إقناع الملك الفاروق بأن يدعي سلطة دينية ما، عدا تلك التجارب لم تعش مصر في العصر الحديث تجارب وجود مرجعية دينية تجمع بين السلطتين الدينية والزمنية، وكانت كل الإصلاحات التي عرفتها مؤسسة الأزهر على عهد الرئيس جمال عبد الناصر موقع إدانة، بحيث اعتبرت بمثابة تأميم للدين. وفيما بعد تلك المرحة بقيت مؤسسة الأزهر ودار الإفتاء المصرية معرّضتين لأن تخترقهما مختلف التيارات، فلم تكونا في يوم خلوا من تيارات ليبرالية/عقلانية تتصارع مع تيارات أخرى محافظة، وانضافت إليها في الثمانينيات وما بعدها تيارات إخوانية وتيارات سلفية/وهابية، ولا غرابة أن يلاحظ أي باحث اليوم فوضى تلك التيارات داخل الأزهر، فيجد تيارا عقلانيا يضم الشيوخ احمد الطيب وأحمد كريمة وسعد الدين الهلالي ومحمد عبد الله نصر والشيخ، وتيارا وهابيا يضم الشيخ محمود شعبان وغيره وتيار محافظ يقف في الوسط ويضم الشيوخ خالد الجندي ويوسف البدري وغيرهم. إن التشرذم والفوضى التي تسود الحقل الديني في مصر، سببها غياب مرجعية تقوم بدور مثل الذي تقوم به "إمارة المؤمنين" في المغرب و"ولاية الفقيه" في إيران و"خادم الحرمين" في السعودية، وبصرف النظر عن مضمون ذلك الدور فغيابه في بلد كمصر انعكس على الحقل الديني الرسمي، مما سهل نقل حالة التشرذم تلك في الإسلام الرسمي المؤسسي إلى الإسلام الشعبي/الإرث/ الرأي العام، وكما كان الرسمي مفتوحا على تيارات مختلفة كان الشعبي أيضا، وهذه الحالة هي أفضل ما يمكن أن يتاح للإسلام السياسي كي يتعيش عليه، فحركات الإسلام السياسي تشتغل بمنطق الطفيليات التي لا تنمو إلا في الظلام، وهي بالتالي لا تنمو إلا في الفوضى، وضع كهذا لا يعني سوى شيء واحد هو أن الأمن الروحي للشعوب يكون مفقودا أو على وشك أن يكون كذلك. لا توجد في الإسلام وظيفة دينية يؤدى عليها من المال العام، لكن التحولات الاجتماعية وظهور الدولة الحديثة بكل تعقيداتها، وتعقد شبكة المصالح التي تقبع خلف أجهزتها، وبالتالي إذكاء التباعد بين الطبقات الاجتماعية، كل ذلك أدى إلى ظهور أشكال المقاومة داخل المجتمعات الهجينة في شكل الحركات الإسلامية، ولذلك اشتبه الأمر على الباحثين في بدايات القرن العشرين بخصوص تلك الحركات وقارنوها بحركات الإصلاح الديني البروتستنتي. وتبعا لذلك وجدت تلك الدول أنها لكي تحصن المصالح التي تقبع خلف أجهزتها لا مناص لها من "تأميم الدين"، وبقيت الدول الذي مزجت بين المظاهر الحديثة وبين الأساليب التقليدية في التعامل مع الحقل الديني بعيدة عن مخاطر التشرذم، في حين وجدت تلك التي أرادت أن تفصل في مستويات متقدمة بين الزمني والديني نفسها أمام حقل ديني موبوء، فالمضامين الفلسفية لذلك الفصل لا تتحقق بالفصل الإجرائي فقط، وإنما ينبغي أن يواكبها نمو تدريجي/تاريخي لقيم مجتمعية تجعل المرجعية الدينية الجامعة ليست قابعة في الأجهزة المباشرة المعنية بممارسة السلطة الزمنية في الدولة، وإنما قائمة في المؤسسة الدينية نفسها. بالرغم من أن "إمارة المؤمنين" بالمغرب تخترق الإسلامَيْن الرسمي والشعبي قادمة من أعلى موقع في جهاز الدولة، وذلك تحصينا لجملة مصالح هي الدافع إلى أن تكون تلك الدولةُ دولةً، بالرغم من ذلك فإنها تحصِّن الحقل الديني من الانقسامات الممكنة والمختلفة، سيما وأن هذا الحقل لا يحتمل الانقسام السلمي امتدادا في الزمن، فلنا أن نتخيل لو كانت مدارس ومؤسسات التكوين الديني والمساجد بمثابة قنوات تكوين وبث وتصريف لوجهات نظر متناحرة حول الدين عقيدة وشريعة، ولنا أن نتخيل أي وضع كان سيكون عليه المجتمع المغربي وأمنه الروحي حينئذ. ولنا أن نتخيل ماذا لو احتفظت المؤسسة الملكية باحتكار المرجعية الدينية وضمان الأمن الروحي للمغاربة وتنازلت في الوقت نفسه عن الصلاحيات التنفيذية لصالح حكومة منبثقة عن برلمان منتخب، ربما لن تدافع الملكية عن الحقل الديني بنفس القوة حينها، وربما هذا المطلب يحتاج إلى قوة عقلانية حية واعية سياسيا وبعيدة عن أمراض الجنوح للطوبى والجنوح للمصالح الشخصية النابعة عن قصر النظر.