خروف. كبش. حوليّ. وجه مستقيم. مليح أقرن. كل مواصفات النموذج المثالي الأعلى المتناثرة في المعاجم والقواميس والحكايات، وأحاديث الوعاظ والفقهاء وفطاحل الخطباء، والملضقات الإشهارية والتغريدات البمكية. كبش نموذجي، معشوق الملايين. يردد الشناقون صفاته الإغرائية في لحن سمفوني: سردي، أبيض الوجه، ملولب القرنين، مكتمل الذيل، أسود الحوافر، سليم الأذنين. تحاصره الأنظار من كل مكان. تتعالى هتافات المعجبين. تشتد سواعد الشناقين. يتسرب الزهو إلى المناطق المظلمة في أعماق الكبش الفاتن. تنتعش القرون. يطاول العنق الفضاء. تتقوس الأذنان. تلتقطان إشارات صوتية قادمة من الآفاق البعيدة. من الماضي السحيق. تستعيد المشهد الدرامي لجد قديم. يُشمر الجدِّ الأكبر على ساعده، يُشهر سكينه الصقيل. يمدد طفله على النصب، يستعد للنحر، لإرواء عطش قديم للدماء. تومض السماء شعاعا غريبا. هكذا عاش المشهد حلما. تتسرب الإشارات إلى أجهزة التفكيك داخل دماغ الكبش المختار. يرتجف. يرتعد. يتصبب غطاؤه الصوفي عرقا. يستعيد اتزانه من هول الصدمة الإخبارية. يفك شفرة الرسالة. يطلع على التفاصيل المملة لمهمته الجديدة. يأخذ نفسا عميقا. تشرق عيناه. تحمرَّان غضبا. يفتح فاه. تصطف أسنانه الرباعية. أسنان الشعير ههههه. يتدلى لسانه المخضب بلون الشمندر. ينتصب قَرْناه. يحرك حافره الأيمن. يدق على سطح الشاحنة. تنتبه الأكباش المكدسة. تصطك القرون. تحمر العيون. تفغر الأفواه. تتدلى الألسنة الشمندرية. يوزع كبير الأكباش نظراته بين السماء وبين عيون رفقاء الشاحنة. تتسرب الشحنات الانفعالية عبر العيون. تصعد إلى القرون. تتحرك الحوافر. تهتز الشاحنة. تهتز الشاحنات المجاورة. يرتفع إيقاع الحوافر. تتسابق نقرات القرون. يهيج الكبش المختار. يتحول غثاؤه زئيرا، هديرا، نذيرا. يتراجع تأهبا للانطلاق. تفسح الأكباش المجال. يصيح "المختار" صيحة الزعيم. يرتمي من أعلى الشاحنة. يتبعه الأتباع. يختلط الغثاء بالنباح بالهدير بالزئير بزعيق الدراجات والناقلات الصغيرة. تختلط القرون بالحوافر. يتصاعد الغبار. تتطاير عواصف القش والبرسيم والفحم الحجري وأنفاس الشناقين. ينتشر الخبر. تتقاطر وفود الصحفيين والإعلاميين والمخبرين والمحللين والقوات الخاصة والقوات العمومية وشبه العمومية. يستمر في هيجانه. تتسلط الكاميرات، تحوم المروحيات، تُستنفر الذبابات. يستمر المختار في سيره نحو قمة الجبل. تستمر قافلة الأكباش في اللهاث وراءه. يهرول الشناقون. يحملون حبالهم في انتظار هدوء العاصفة واسترجاع الأكباش المتنمِّرة. تختلف تأويلات مراسلي وسائل الإعلام، على اختلاف وسائطها. تقول مذيعة القناة الثامنة: " إنه لأمر غريب. حدث مثير. لم يشاهد العالم قبل اليوم مسيرة كبْشية بهذا الحماس وهذه الكثافة. انظروا إنهم يسيرون وراء زعيمهم، في نظام وانتظام. أمر محير فعلا". تقترب مروحية القناة الثانية من رأس المسيرة. تركز الكاميرا على الزعيم. تأخذ وجهه في لقطة مكبرة. تضيق أكثر، لتؤطر عينيه العسليتين، المثبتتين بإصرار نحو الوجهة المحددة. يعلق المراسل بالكثير من الانبهار" ياله من بطل. أكبر تجسيد للكاريزما، قرأت عنه، ولم أره قط في حياتي. عيون عنوانها الإصرار. خطوات عنوانها الإصرار. مشهد مثير اسمه الإصرار". يُصر المراسل المنبهر على هذيانه. تتسابق التعاليق، الأوصاف، الروايات، المزايدات، التأويلات الفتاوي والتهديدات. يحاول المحللون. يحاول سماسرة المحللين. يحاول سماسرة السماسرة عبثا، بناء تفسير مقبول، معقول، قابل للهضم، للبيع، للرواج والتوزيع. يزداد عطش المتلقين للمزيد من الفهم، لتفصيل تفاصيل الأخبار، للجرعة التحليلية الكافية من أجل قسط من النوم الهادئ المطمئن. يستمر المختار في طريقه. تزداد حوافره إصرارا على المسير. لا يسأل. لا يتساءل. لا يهتم أصلا بالسؤال. ولم السؤال؟. جاءه صوت السماء. صدق أنه صوت السماء. لم يكن يعرف أبدا أن للسماء صوتا. ومتى كان للسماء صوت تفهمه الأكباش؟. كبر صوت السماء في مخيخ القائد المختار. أصبح جزءا منه. لم يعد هناك فرق بين السماء وبين المختار. أو على الأقل، أصبح الطبش المختار يفهم لغة السماء. كم هو جميل أن تتقلص المسافة بين الأكباش وبين السماء. فجأة يتوقف المختار على بعد خطوات من قمة الجبل، أو لنقل من باب السماء. يأخذ نفسا عميقا. تتمطط قرونه نحو الأعلى. تتماس القرون بأضواء غريبة. تسيطر الدهشة على الجميع. تضطرب أجهزة الاتصال السلكية واللاسلكية أمام الإشارات الضوئية القادمة من البعيد. يلتفت المختار. ينظر من أعلى، في لقطة عصفورية عامة، تؤطر مشهد المسيرة في مجمله. يتراءى له السوق فارغا. الشاحنات فارغة. الناقلات المتوسطة أو صغيرة الحجم معطلة. الغبار يحجب تفاصيل السوق. المختار لا تهمه التفاصيل.. كثيرا. يتلذذ بموقع النظر من الاعلى. يبحث عن امتداد لعليائه. يرفع رأسه نحو السماء. يستعد للنبأ العظيم. في الأسفل، تتعدد زوايا النظر. تتباين الانتظارات، الأهداف، الأصوات والمصالح. يتطلع الأتباع الأصفياء في لقطة صاعدة، خاشعة مطمئنة، نحو الزعيم المختار. يتلقون ابتسامته الخفية برضا وخنوع. ابتسامة العظماء. ابتسامة الطمأنة والولاء. مهم جدا ادعاء الولاء. يتسرب الاطمئنان إلى الأجساد السمينة، المهيأة سلفا للنحر. يعم الصمت. تبتلع المسيرة أصواتها. تختزن القرون شرارتها. تنمحي الفواصل بين الهمس والأنين والصراخ. يشيع الخبر في فضاءات المسيرة. سيتكلم المختار أخيرا. قد يتكلم أخيرا. يزول الشك. يفتح الكبش المختار فاه، يصرخ ويصيح. " ماع.. ماع .. ماع.." يردد القطيع: " ماع.. ماع.. ماع". يبتسم المختار. تنشرح افئدة الأتباع. تمعمع الصحافة. تمعمع القنوات التلفزية. تمعمع الأحزاب، النقابات، الأكباش المهيأة للذبح، الأكباش المعفاة من الذبح. تشعل عبارة " ماع.. ماع .. ماع.." جدلا عنيفا حول دلالة خطاب الزعيم القروني بين السيميائيين واللسانيين والبلاغيين وفلاسفة اللغة وعباقرة النأويل. تتناسل القراءات والتحليلات والاقتراحات. يسود الاتفاق نسبيا على التأويل القائل بعبثية الأضحية. ينبني هذا التأويل البراغماتي الذي يستحضر التضمنات والاقتضاءات والاستلزامات. حسب هذه المقاربة، فعبارة " ماع.. ماع.. ماع" تعني أن جدَّ الأكباش الذي كلف بمهمة إنقاذ ابن النبي المأمور بنحر ابنه قد أدى المهمة على أكمل وأحسن وجه. وإذن فلا حاجة إلى التضحية في غياب مهمة الإنقاذ.. ماع.. ماع.. ماع..