خرج وزير العدل الأسباني Alberto Ruiz Gallardón مرفوع الرأس بعد إعلانه الاستقالة من منصبه كوزير للعدل، وقال بعيد استقالته: “لست الشخص المؤهل للاستمرار في أداء مشروع قانون الإجهاض الجديد الذي أعلن عنه رئيس الوزراء”. كان الرجل واثقا من نفسه وهو يعرض مشروع قانون الإجهاض، فهو له باع في السياسة والحكامة الجيدة. استوطن السياسة منذ أكثر من 30 سنة، وحكم بلدية مدريد والإقليم المستقل "لمدريد" لأكثر من 15 سنة، والرجل معروف بنزاهته وحبه لوطنه وملكه وكنيسته. كان ولا يزال محافظا، يميني التوجه، صلب المواقف، والرجل القوي في الحزب الشعبي الذي لا يتخلى عنه إلا لضرورة قصوى. صحيح أن مشروع قانون الإجهاض سحب لافتقاره للأغلبية الكافية في البرلمان الأسباني، إلا أن المشروع الذي لم ير النور عرف انقساما كبيرا في الدوائر السياسية والشعبية في أسبانيا، حيث خرج مئات الآلاف من المتظاهرين منددين بالمشروع، وانقسم الحزب الحاكم على نفسه بين مؤيد ومعارض، أما المعارضة الاشتراكية فقد رأت في المشروع فرصة للنيل من العدو اللدود في السياسة. لينتهي الصراع السياسي بسحب المشروع، مع الوعد -من قبل راخوي رئيس الحكومة للمجتمع الإسباني- بإعادة صياغة مشروع القانون قبل نهاية العام الجاري. لتأتي الاستقالة في خضم هذا الحراك، استقالة يمكن استخلاص الدروس والعبر منها: إن السياسة عهد ووفاء، ففي سنة 2004 سحبت الحكومة الاشتراكية الاسبانية جيشها من العراق لأنها وعدت الشعب الإسباني بذلك في حملتها الانتخابية، فأوفت بعهدها بالرغم من خسارتها السياسية، وفقدها لدورها الإقليمي والدولي، وفي سنة 2014 يستقيل Gallardón لعدم قدرته الوفاء بعهده الذي أعطاه في الحملة الانتخابية التي حملته إلى الوزارة، فقد وعد الحزب الشعبي أنصاره بتعديل قانون الإجهاض، وبما أنه استعصى عليه فعل ذلك فقد اختار الطريق الأنسب للوفاء بالعهد. إن الوزير المستقيل عزم على ترك السياسة كلية لعلمه بأن السياسة بحر لا ساحل له، فقد ورث من ثقافته السياسية أن فقدان الشعبية عربون على موت السياسي، فمشروع الإجهاض سيقسم ظهر الوزير أينما حل وارتحل وسيضعف تطلعاته ويقضي على آماله في السيطرة على الحزب. إن تربيته الدينية "الفرنكاوية"، وتربية زوجته "ابنة وزير في عهد فرانكو" -وهو أب لأربعة أبناء- لا تسمح له في التساهل في مسألة القيم المقدسة، والتنازل عن إيديولوجيته اليمينية. فسحب المشروع هو تنازل جديد للاشتراكيين والمدافعين عن تفسخ الأخلاق. إن دور الكنيسة في تراجع مستمر مع هبوب عواصف الاقتصاد المتدني، فالكنيسة القوية في أسبانيا لم تستطع الضغط على الحكومة اليمينية للتصويت على المشروع، وهي "الحزب القوي" داخل المملكة الإسبانية الذي فقد شعبيته وتأثيره في الحياة السياسية والاجتماعية والدينية في الجارة الشمالية. إن المشاريع اللاشعبية تبقى مشاريع ورقية غير قابلة للتنزيل، وعدم تنزيلها لا ينقص من قيمة الحكومة، فالحكومة منبثقة من الشعب ومن اختياراته، لذا على الساسة مراعاة نفسية ومصلحة "الإرادة الشعبية". إن الرجل المستقيل قضى أكثر من ثلاثة عقود في السياسة ومع ذلك يشهد له بالنزاهة والتشبث بالمبادئ الحزبية وعدم مراكمة الثروات طيلة حياته السياسية. أخيرا وليس آخرا، إن الرجل لقن للساسة درسا في أخلاق السياسة لمن كان له قلب أو ألقى السمع لما يفيد، فالرجل السياسي هو رجل المبادئ كما قالت La Razón وفعله يستحق كل التقدير كما قالت صحف يسارية. لقد أنهى Gallardón حياته السياسية لينام بدون أرق، وسيكتب له التاريخ هذا الموقف الشجاع؛ فوزير العدل لا بد له أن يكون عادلا في اتخاذ القرارات، ومن العدل ترك وزارة العدل حتى يشيع العدل الذي هو أساس الحياة.