على امتداد التاريخ العربي الاسلامي تعرض الفكر و المفكرون لأزمات حادة و لمضايقات شديدة انتهت بقتل الإنتاج المعرفي وكبح الإبداع العلمي بصفة نهائية بعد حقبة من الإزدهار والتطور عز نضيرها حتى دلك التاريخ . فبعدما احتل المسلمون مركز الريادة في مجال المعرفة بفضل ٳضافاتهم النوعية في ميدان الإبداع الفلسفي العقلاني و ما استحدثوه من ثورة في مجال العلوم الطبيعية باختراعهم للمنهج التجريبي في البحت العلمي، اللدين وصلا مداهما الاقصى في الغرب الإسلامي – الأندلس، هاهم الآن يعانون من شتى الأمراض الثقافية و من تكريس للتخلف الفكري، مما أدى معه الى استفحال حدة المشاكل الاجتماعية من فقر و أمية و بطالة، والى انعدام الامن الاقتصادي، وكل هده الافرازات تتم بالموازات مع التردي في الاوضاع السياسية الراهنة التي تبدو أنها لم تجد بعد طريقها نحو الاستقرار رغم مرور 5 عقود عن رحيل الاستعمار المباشر عنها. مند بداية الإرهاصات الاولى للتشظي السياسي للدولة الاسلامية مع بداية القرن الثالت الهجري، بدٲت الأوضاع الفكرية و المعرفية تشهد أزمات تتفاقم كلما توغل الوضع السياسي في التمزق بسبب الصراعات الداخلية على السلطة من جهة وكنتيجة لتحول السلطة المركزية القائمة الى نظام تسلطي شمولي لم يستطع التأقلم مع أي رأي مخالف من جهة أخرى. في ظل هذا الوضع الفاقد للاستقرار السياسي الدي بلغ أوجه في القرن السابع للهجرة، تجسدت الازمة التي عانت منها المعرفة في عدة اوجه من ابرزها محنة ابن حنبل و فرقة المعتزلة في الشرق الاسلامي و في نكبة ابن رشد في الغرب الاسلامي. أما ابن حنبل فقد كان هدفا لقمع شرس من طرف سلاطين العهد العباسي الاول الدين انتهوا الى مصادرة حقه في التعبير بفرض الاقامة الاجبارية عليه باعتباره من أبرز مثقفي جيله ممن تبنوا إنتقاد الاوضاع الاجتماعية القائمة ومعارضة السياسات الرسمية. في حين تعرضت المعتزلة لاضطهاد قوي في العصر العباسي الثاني بعدما تبنت الخلافة التوجه الاديولوجي الحنبلي المناهض لعقلانية المعتزلة. اما ابن رشد فلم يكن بافضل حال من الاخريين. لفقد عاني الرجل من قهر المنصور الخليفة الموحدي الدي أمر باحراق كتبه لكونه تجرأ على انتقاد الواقع السياسي في الاندلس و الحديث عن مزايا الحكم الجماعي و عن مساوئ الحكم الفردي الطغياني في كتابه "جوامع سياسة أفلاطون". من خلال تلك الواقعتين التاريخيتين تبين كيف تم استهداف المعرفة من طرف السلطة التي أصبح نفودها يتغول تدريجيا مع مرور الزمن على حساب المجتمع الدي استطاع في فترات معينة و أماكن محددة أن يوفر الاجواء المناسبة، من حيت حرية التعبير و استقلالية البحت العلمي، لازدهار الفكر العقلاني المتنور. و لقد تجسد دلك الازدهار في أعمال أجيال من العلماء المسلمين الدين نبغوا في شتى العلوم و تصدروا مواقع الريادة فيها و تحديدا في الفترة الزمنية ما بين القرن الثالت و الخامس للهجرة. غير أنه بفعل الاستبداد السياسي المتفشي، بات واضحا أن المعرفة قد دخلت نفق الاضمحلال لكونها تتعرض لرقابة شديدة و عنف قوي مع انحسار تدريجي لهامش الحرية الدي بلغ درجة الحضيض مع نكبة ابن رشد في العقد الاخير للقرن السادس عشر، دلك الفيلسوف الذي اعتبر من أبرز مؤسسي المدهب العقلاني الذي شكل أساس الثورة العلمية و التكنولوجية التي أنتجها الغرب الحديث. و بحلول القرن التامن الهجري حدث الإنتصار المطبق للتقليد على الفكر العقلاني الحر. الشئ الدي مهد لإنتشار التزمت الفكري و التعصب المدهبي لدى الفقهاء التقليديين الدين حاربوا ببسالة قل نضيرها، باسم مناهضة البدع و التصدي لمثيري الفتن، بقايا الفكر الحر الغير القابل للإحتواء السياسي و المنتفض ضد الجمود و التحجر. على إثر هدا الوضع الجديد تحولت البلاد الاسلامية الى "ماثم للجهل وما للعلم فيها من عرس" على حد تعبير الرحالة العبدري، و كل ما هنالك هو عبارة عن علم دو طابع تلقيني يحفظ عن ظهر قلب و تغيب عنه روح النقاش الحر و أسلوب المناضرة بين الطالب و الاستاذ. وبالتالي دفع التزمت إلى بزوغ الفكر الخرافي الذي هيأ دهنيات الشعوب لتغلغل تقافة الكرامات و الخوارق بعيدا عن بديهيات المنطق و العقل السليم. لقد سبب تعطيل الفكر العقلاني في تكريس عوامل الانحطاط التي أدت الى زوال الوجود الاسلامي في الاندلس مند 5 قرون وأوقعت الدولة الاسلامية في وضعية القابلية للاستعمار من جراء استفحال مظاهر الضعف و الهشاشة التي أفقدتها القدرة على مجابهة التحديات الخارجية و المحافضة على تماسكها الداخلي. فمع نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين الميلادي إنهارت الدولة العثمانية ثم وقعت البلاد الاسلامية تحت نفود المستعمر الاوروبي. وحتى أثناء مرحلة الإستقلال بتنا نشهد إعادة إنتاج نفس السيناريوالدي تمخض عنه الانحطاط، فوضعية المعرفة إزدادت تأزما في الوطن العربي نظرا لافتقاده لهامش الحرية الضرورية للبحت العلمي و كذا لافتقاره للمناخ الثقافي الحي الذي بدونه يستحيل القضاء على معضلتي الجهل و الامية و يتعدر معه بناء مجتمع المعرفة، و كل المعطيات الواردة في التقارير الدولية تؤكد دلك. فقد جاء في "تقرير المعرفة العربي لسنة 2009 - نحو إقامة مجتمع المعرفة في العالم العربي" أن هناك 60 مليون أمي تلثهم من النساء، و 09 مليون طفل في سن التمدرس هم في خارج أسوار المدرسة، و أن معدل القراءة السنوي لايتجاوز كتاب واحد لكل 20000 مواطن عربي، في حين أن عدد القراء سنويا للكتاب الواحد هو على التوالي في انكلترا و اسبانيا في حدود 491 و 713. أما التقرير الذي تعده جامعة جياو تونغ في شنغهاي في كل سنة حول جودة التعليم الجامعي في العالم، فانه لم يدرج أية جامعة عربية من بين ال 500 جامعة الافضل في العالم لسنة 2009. و قد ورد كدلك في مصادر أخرى أن متوسط كلفة الطالب في الجامعات العربية لا تتجاوز 2500 دولار في السنة في الوقت الذي يناهز فيه 45000 دولار في بعض الجامات الغربية. أما بخصوص براءات الاختراع العربية خلال العشرة سنوات الاخيرة فهي في حدود 370 براءة، ويبدو أنه عدد جد هزيل بالمقارنة مع ما توصلت إليه دولة مثل كوريا الجنوبية التي كان في رصيدها خلال نفس الفترة 73000 براءة اختراع. من الواضح أنه بعد استقراء الوقائع التاريخية و الوقوف عند معطيات الواقع العربي الراهن بخصوص وضعية المعرفة، يمكن القول بان السبب الاساسي لازمة المعرفة يكمن في كون السلطة في جل الاقطار العربية تنظر الى المثقف، بصفته يمتلك آليات التأتير على وعي و سلوك الجماهير، وكأنه عقبة أمام تنفيد سياساتها دات النزوع التسلطي التي تروم نشر ثقافة الاخضاع و التدجين بين الجماهير وقتل إرادة المقاومة لديها. فبينما يناضل المثقف من أجل مجتمع متحرر من كل أشكال الهيمنة المادية منها و الرمزية، تصبو السلطة الى إنتاج و إعادة إنتاج سلوك الطاعة و الاجماع عبر وسائل الاكراه و التعبئة التي تمتلكها. لدى فهي تتعامل مع الفكر الحر بمنطق الرقابة و الاحتواء و تنهج مقاربة الاقصاء و التهميش في حق دوي الكفاءات العالية. و ما يقع حاليا في شوارع الرباط في المغرب من قمع لحاملي الشهادات العليا المطالبين بحقهم الدستوري في الشغل الكريم لخير دليل على أن دار لقمان مازالت على حالها وكأن شيئا لم يتغير فيها من حيت التعامل الرسمي مع المعرفة، رغم مرور اكثر من 11 قرنا عن بداية محن الفكر و المفكرين في تاريخ المجتمع العربي الاسلامي.