ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المتن الصوفي مرجعيةً للقيم الكونية
نشر في هسبريس يوم 14 - 09 - 2014

تنطلق هذه المحاولة من مقدمتين نظريتين أساسيتين، يمكن تنضيدهما كالتالي:
- أولا، اعتبار التصوف الإسلامي، في وحدته وتعدده، حلقة متأخرة وأكثر تبنينا في سلسلة متصلة الحلقات من سيرورة التصوف الإنساني بمختلف تجلياته اليهودية والمسيحية، وما تداعى إليها مما يسمى بروحانية الشرق القديم؛
- ثانيا، خضوع التصوف مثل غيره من أشكال الخطاب، معرفة وتعبيرا، لقدر تأويلي دينامي ومعاصر يستكشف مسالك مغايرة للمعنى، لا تظل بالضرورة سجينة السياقات البدئية لتشكل الخطاب الصوفي أو مقصدياته المحايثة.
وفي ضوء هاتين المقدمتين، جدير بأن ينظر إلى التصوف، كما تناهى إلينا، بمثابة نتاج للتجربة الإنسانية المتراكمة، فيما يتعلق بجدل القدسي والدنيوي، وأن نتناوله اليوم ضمن مقترب تحليلي يروم تجديد التأمل في المتن الصوفي، وتحيين الأسئلة والقضايا التي يمكن أن يستثيرها رصيده المعرفي والجمالي والسلوكي، في ظل التحولات المطردة الذي ما فتئت تطرأ على محفل التلقي بمختلف آفاقه وآلياته.
وفي إطار هذا المقترب الذي تأسس وترسخ - طبعا- على يد ثلة من المفكرين والباحثين (1)، سبق أن اشتغلت على التراث الصوفي في ضوء تيمة "الجسد" (2) وما تطرحه من أسئلة نابعة من تصورات فكرية ونظرية ، غربية المنبت وحداثية التوجه، بحيث انتهيت إلى جملة من الخلاصات يتقاطع بعضها مع نتائجَ دراسات سابقة في هذا المجال كما يستثمرها، لعل أبرزَ ما خلصتُ إليه، في حدود محاولتي المتواضعة، انتصارُ الصوفية للحياة وإقبالهم عليها، وسعيهم نحو المصالحة بين الروح والجسد، وتمجيدهم للذوق والوجدان والإبداع، وتمثلهم لكل ذلك إدراكا وقولا وسلوكا.
وتبقى الخلاصة المركزية التي نعبر من خلالها إلى موضوع هذا العرض، في كون المنجز الصوفي بامتداداته المشرقية والمغربية، وأبعاده العالمة والشعبية، على قدر كبير من العمق والغنى والتنوع الذي ينطوي على إمكانات تداولية وقرائية غيرَ محدودة ومُشرعة على اللحظة والآتي والمستقبل.
ومن هذه الزاوية، فإن راهنية المفاهيم والقضايا التي تنتظم الخطاب الصوفي، كما قد يجددُ طرحَها المثقف المغربي أو العربي ، تقترن اليوم بمدى سعينا إلى الدفع بهذا الخطاب نحو واجهة النقاش الفكري والثقافي والحضاري، ليس من باب الحنين إلى خصوصية مفتقدة أو الارتكان السلبي إلى تراث ناجز ينتمي إلى زمن مضى وعصر انقضى، وإنما من خلال تعبئة ذلك المشترك الإنساني متعدد الروافد الذي يرتسي عليه التصوف، والذي يمكن أن يلفيَ فيه هذا المثقف المغربي أو العربي ما يسعفه للانخراط الإيجابي في قدر العولمة الكاسح (*)، وكذا المساهمة في الحوار الحضاري حول منظومة القيم الكونية المتعالية التي تبشر بها هذه العولمة، خاصة ما تعلق منها بالديمقراطية والحقوق والحريات الفردية والجماعية بمختلف أجيالها، وما يترتب عن ذلك من خلخلة للبنى الذهنية ومرجعيات القيم، وتأزيم الوعي بالذات وبروابط الانتماء، في مجتمعات من قبيل مجتمعنا.
فثمة فعلا مرجعيات ماضوية مفرطة في المحافظة والانغلاق، متلبسةٌ باللاوعي الجمعي، أصبحتِ اليوم بمثابة ترسبات معقدة تعوق عملية التفاعل الإيجابي مع هذه القيم الكونية، وتحول دون الإصغاء إلى نداء التقدم الذي تحمله منظومتها.
وخلافا لذلك، يمكن الترافع بجدوى التصوف باعتباره مرجعية مغايرة، واستثناء متنورا حيث تتضايف بكيفية خلاقة الخصوصية المتجددة ومستلزمات المجتمع الحداثي؛ إذ يمكن التوسل برصيده المتشبع بقيم المحبة والتسامح والتساكن والسلم والعمل في مواجهة خيارات العنف والتطرف والكراهية والعدمية والانهزامية، وغيرها من القيم المضادة المعادية للمبادرة والإبداع والتطور والتنمية.
وعليه، ثمة جملة من المداخل الدالة التي يمكن استثمارها في سياق هذا المسعى، من خلال ما يلي:
1- حرية المعتقد
يذهب الصوفية عموما إلى سمو القدسي عن كل الشرائع السماويُ منها والوثني، و إلى وحدة الأديان دون تمييز ولا مفاضلة فيما بينها، إذ تلتئم جميعا طي عقيدة واحدة، هي عقيدةُ المحبة، كما يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي:
لقد كنت قبل اليومَ أنكر صاحبي * إذا لم يكن ديني إلى دينه دان
لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورة * فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيتٌ لأوثان وكعبةُ طائف * وألواح توراة ومُصحف قرآن
أدين بدين الحب أنَّى توجَّهتْ * ركائبُه، فالحب ديني وإيماني (3)
تشي هذه المقطعة التي نحفظها ونرددها باستمرار، والتي تعتبر من أكثر التماعات ابن عربي ذيوعا وشهرة، ببعض ملامح هذا العقل الصوفي الذي يقبل بالآخر رغم اختلافه، والذي ما كان أن يعترف له بحقه في الاختلاف لولا البصيرة العرفانية التي أدركته وأدركها. هذا العقل القادر أيضا على تدبير التعدد الديني بمعناه الواسع الذي يستوعب جميع المعتقدات، دون إنكار أو تعصب أو إقصاء. يقول جلال الدين الرومي: " مسلم أنا ولكن نصراني وبراهمي وزرادشت..." (4).
وهب أنه سموق إلى تلك المواطنة الكونية التي تمثل بوتقة حيث تنصهر كل الأعراق والإثنيات والعقائد والطوائف، والتي حاول إخوان الصفا لملمة عناصرها في تعريف جامع مانع حول الإنسان الكامل: "...الفارسي النسبة، العربي الدين، الحنفي المذهب، العراقي الآداب، العبراني المخبر، المسيحي المنهج، الشامي النسك، اليوناني العلوم، الهندي البصيرة، الصوفي السيرة... " (5).
وتطويرا للتحليل في هذا المنحى، ترد ضمن سير ومناقب أهل التصوف حكايةٌ، بتنويعات وتلوينات متعددة، عن ذلك الراعي الأمي الفقير عازف الناي، الجاهل بالفرائض ،الذي نذر لله إن رُزق بمولود ليعزفن له أربعين يوما دون انقطاع شكرا واعترافا، فمنحه الله تعالى بركة المشي فوق الماء بقدميه الحافيين، بينما ظل الولي الذي حاول تلقينه الصلاة وباقي الشعائر، دون جدوى، في حاجة إلى سَجَّادة ليستقيم فوق الموج (6).
وفي رواية أخرى، يتم استبدال الناي ببوق، والراعي ببحار زنجي، أو زنجية فقيرة تصلي لله على طريقتها من خلال ترديد: "ميمونة تعرف الله، والله يعرف ميمونة" (7).
تمدنا هذه الحكاية، على تنويعاتها، بمؤشرات إضافية عن هذا الوطن المثالي الذي يتوق إلى تشييده الصوفية. فهو لا يتسع لحرية المعتقد فحسب، وإنما يضمن كذلك حرية ممارسة الشعائر الدينية. فلكل صلاته وطريقته في التواصل مع الخالق، سواء بالفرائض أو البوح أو العزف، وغيرها من الوسائط كما يقول جلال الدين الرومي: "هناك طرق عديدة تؤدّى إلي الله، و قد اخترت طريق الرقّص والموسيقي..." (8).
ويُستنتج من هذه الحكايات كذلك أن مقام التصوف لا يميز بين الرجل والمرأة، وبين الأبيض والزنجي، وبين الفقير والغني، والمتعلم والأمي، فهو وطن حيث يتساوى الجميع، كيفما كان لونه وجنسه ومرتبته الاجتماعية والثقافية، لكي يحظى بنصيبه من ثمار البركة وفضائل الحياة (9).
والخلاصة، أن هذه الرؤى والتصورات التي يعبر عنها الوعي الصوفي بلغة الاستعارة والحكي والإيحاء، هي ذاتها الحقوق والقيم التي تنص عليها العهود والمواثيق الدولية حاليا بشأن حرية الفكر والوجدان والدين (10)، وضمان المساواة ومحاربة جميع أشكال التمييز (11)، بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي، وغيرها.
2- التمييز الإيجابي لفائدة المرأة
تحظى المرأة بمكانة لدى الصوفية تعدو غرامهم بها وافتتانهم بجمالها إلى ما هو أعمقُ من ذلك، إلى موقعها في بنية الوجود حسب البصيرة العرفانية. فالمرأة هي أكثر كائنات العالم كمالا، وأرفع تجليات الإله. يقول ابن عربي: " شهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله..." (12). وقوله:" من عرَف قدر النساء وسرَّهن لم يزهد في حبهن، بل من كمال العارف حبهن، فإنه ميراث نبوي وحب إلهي"(13)؛
وعلى هذا النهج، ينقل الدكتور الميلودي شغموم في أطروحته حول " الحكاية والبركة" ، حكايةَ ذلك الولي، سيدي عبد الرحمان، الذي عُرف في مجلسه بصحبته للفتيات الجميلات، فكان يفسر ذلك بقوله: " إن الحضور الإلهي يُدرك بين الأقراط والضفائر، أكثرَ منه على قمم الجبال" (14).
فمن المؤكد أن هذه النظرة لا تنجو من حبائل اللاشعور "الفالوسي" تجاه المرأة، ولكنها في المقابل تتوسل بالقدسي وما يتمتع به من سلطان ونفوذ على الإدراك المشترك، من أجل أن تنتشل المرأة من وضعيتها الدنيا داخل المجتمع الذكوري، وترتقي بها نحو ما هو أجل من المساواة، بل تضعها في أعلى الهرم الوجودي، مباشرة بعد الله، وقبل الرجل وباقي الكائنات.
" المَكَانُ إذا لَمْ يُؤَنَّث لا يعول عليه"، يقول الشيخ الأكبر.
وكأن الصوفية هنا يدركون أن وضعية المرأة لا يمكن تصحيحها إلا عبر التمييز الإيجابي، الذي يمنحها إمكانية التحرر من سطوة المواضعات الاجتماعية والأخلاقية الغارقة في الذكورية، ويضمن لها مواطنتها ومشاركتها الكاملة في عالم الولاية، كما توردها حكاية ميمونة الزنجية وحكاياتُ نساء أخريات تقاسمن والرجال ثمار الكرامة وبصيرة العرفان.
3- التوازن الإيكولوجي
ويتمثل فيما يمكنُ توصيفُه بالبعد الإيكولوجي والمستدام، الذي يحيل اليوم إلى الجيل الجديد من الحقوق التي تهم الأجيال القادمة ومستقبل الإنسانية جمعاء ، والذي يمكن أن نجد ما يَسنَده في الخطاب الصوفي، لا سيما في تصوراته حول وحدة الوجود، سواء في شقها اللاهوتي التي وقفنا على جانب منها عند تناولنا حرية المعتقد ووحدة الأديان، أو في شقها الأرضي والدنيوي، حيث يعتبر الإنسان وباقي الكائنات تجليات وصورا للحق تعالى، وأجزاء لا تتجزأ طي نظام واحد متماسك، لا يستقيم بعنصر دون آخر.
ومن ثمة، ما يذهب إليه ابن عربي في مفهوم الإنسان الكبير، وذلك التناظر المتواتر في الأدبيات الصوفية بين الجسد كعالم صغير والعالم كجسد كبير (15). فالغزالي يماثل العظام بالجبال، والشعر بالنبات، واللحم بأديم الأرض، والدم في العروق بالماء الذي يجري في الوديان والأنهار (16).
وفضلا عن هذا التناظر بين الإنسان والطبيعة، فإن جمهرة من القوم يعتقدون بالتناسخ، إذ تتنقل أرواح الصديقين والأسلاف وفق أدوار لا متناهية مستدامة بين البشر والحيوان والنبات والكائنات الطبيعية الأخرى.
كما أن تراجم أهل التصوف ومناقبَهم حافلةٌ بأخبار وكرامات من قبيل قدرتهم على تقمص هيئات الأشخاص والأشياء، والترحال بين الصور والماهيات. فبعضهم، قد يتحول إلى طائر للجبال أو نون للكهوف، أو يستعير صورة أسد مفترس، أو قد يتحلل حتى يصبح بقعة ماء أو مادةً لطيفة كرائحة القرنفل (17).
هذا التوازن الأنطولوجي، سواء استند إلى مبدإ الحلولية ( تَعَيُّنُ الحق في الخلق) أو مبدإ التناسخ (امتداد الإنسان في الكائنات الأخرى)، هو دعامة التوازن الإيكولوجي والبيئي، ولو أن هذا البعد ظل كامنا في الخطاب الصوفي، إلا ما يمكن استشفافه مما سبق، ومن غيره من الشواهد التي تجعل الإنسان في صلب حماية هذا النظام الواحد المتماسك، وحيث التوقير لجميع الخلائق، وحيث لا احتقار لأحد أو شيء، كما يذهب ابن عربي. فمن يدري: "لعله ربما" !(18).
تلكم إذن، هي بعض مما يمكن استكشافُه من المداخل والمسالك القرائية الخليقة بإبراز راهنية المشترك الإنساني للخطاب الصوفي العابر للعصور والثقافات. هذا المشترك الذي يتعين تثمينه وتعبئته من قبل المثقف المغربي والعربي بغاية الانخراط الفاعل في منظومة القيم الكونية، والمساهمة في الحوار الثقافي والحضاري اليوم حول الحقوق والحريات الفردية والجماعية، ونشر ثقافة التسامح وقبول الاختلاف والتعايش في إطار التنوع والتعددية، وهي نفسها المقومات والقيم التي ترتسي عليها المواطنة في أزهى المدن الفاضلة، مدينة الصوفية.
هوامش:
+ باحث وكاتب
(1)- راجع في هذا الصدد على سبيل الإشارة لا الحصر:
- Massignon (Louis), Essai sur les origines du lexique technique de la mystique musulmane, Ed. du Cerf, Paris, 1999 ;
- متز ( آدم ) ، الحضارة الإسلامية، تعريب محمد عبد الهادي أبو زيده، المجلد الثاني، الطبعة الخامسة، دار الكتاب العربي، بيروت، د.ت ،.
- Corbin ( Henri), l'imagination créatrice dans le soufisme d'Ibn' Arabi, Ed. Entrelacs, Paris, 2006 ;
- شغموم (الميلودي)، المتخيل والقدسي في التصوف الإسلامي: الحكاية والبركة, منشورات المجلس البلدي لمكناس، 1991؛
- Bentounes (Cheikh Khaled), Le Soufisme, coeur de l'Islam : Les Valeurs universelles de la mystique islamiste, Ed. La table ronde, Paris, 1996 ;
(2)- انظر:
- العلوي (هشام)، في قبضة الثقافة: نظرات ورؤى حول الجسد، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، 2005؛
- العلوي (هشام)، "المستنسخ الصوفي في رواية مسالك الزيتون للميلودي شغموم"، ضمن مجلة عمان، العدد 104، عمان، 2004.
(*)- العولمة ليست نشاطا تجاريا خالصا فحسب، ولكنها تعميم كذلك لنمط في التفكير والسلوك يخلخل التمثلات حول الفرد والقيم والهوية والانتماء.
(3)- ديوان ترجمان الأشواق، دار المعرفة، بيروت، 2005، ص.69.
(4)- وارد ضمن، خوجة ( لطف الله)، وحدة الأديان في تأصيلات التصوف وتقريرات المتصوفة، منشورات جامعة أم القرى، سلسلة البحوث المحكمة، مكة المكرمة، 2011، ص. 76.
(5)- رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، المجلد الثاني، دار صادر، بيروت، دون تاريخ النشر، ص.376.
(6)- شغموم (الميلودي)، المتخيل والقدسي في التصوف الإسلامي: الحكاية والبركة، منشورات مجلس مكناس، 1991، ص. 246.
(7)- المرجع نفسه، ص. 247.
(8) - Cité in Kebe( Abdoul aziz), « le sacré, le profane, le spirituel et le temporel : contribution à la réflexion », Annales de la Faculté des lettres et sciences humaines, N°35, Dakar, 2005, p.13.
(9)- شغموم (الميلودي)، مرجع سابق، صص.247-248.
(10)- يرد في المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ما يلي: " لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين. ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة".
(11)- انظر: اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد النساء والتوصيات الصادرة عن لجنة السيداو(C.E.D.A.W).
(12)- البقاعي ( برهان الدين ) ، مصرع التصوف، تحقيق وتعليق: عبد الرحمان الوكيل، دار الكتب العلمية، بيروت، 1980، ص.145.
(13)- الفتوحات المكية، المجلد الثاني، دار صادر، بيروت، د.ت، ص.190.
(14)- شغموم (الميلودي)، مرجع مذكور، ص.45.
(15)- انظر : البقاعي ( برهان الدين ) ، مصرع التصوف ، مرجع سابق، ص . 38 .
(16)- نقلا عن: HOGGA (Mustapha) ; “Corps, pouvoir et mystique chez Gazali “, in revue de la Faculté des Lettres et des Sciences Humaines de Marrakech, Actes du colloque, le corps et l'image de l'autre,
N° 5 , 1989, p . 82.
(17)- العلوي (هشام)، المستنسخ الصوفي، مرجع مذكور، ص.95.
(18)- يورد أبو الحسن الأشعري هذه العبارة في معرض نقله لشطحات بعض الصوفية بشأن مبدإ الحلولية. انظر: مقالات الإسلاميين، الجزء الأول، دار الحداثة، بيروت، ص . 344.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.