في عهد وزير الداخلية الراحل إدريس البصري كان مجال النقاش والسجال السياسي يدور بين الأحزاب والمحللين والمراقبين ويظل هو يتفرج إلى أن ينتهي الجميع من "لغطهم" وتأتي المحطات الانتخابية التي تمثل في جزء منها اقتراعا على مواقف الأطراف السياسية من جملة القضايا التي كانت موضوع نقاش بينها فيقوم برسم الخريطة السياسية التي يريد معتمدا في أغلب الأحيان على التزوير المباشر وعلى آلته الفعالة من عمال وولاة وأعوان السلطة وغيرهم كثير. أما اليوم، وقد اعتقد الجميع بأن بلادنا "انتقلت" إلى وضع ديمقراطي أقل سوءا مما مضى، فقد شمرت وزارة الداخلية عن سواعدها ولم تعد تنتظر مفاجئات المحطات الانتخابية ودخلت "بسباطها" لتشارك بحماس إلى جانب المحللين والأحزاب السياسية في السجال السياسي تتخذ لها خصوما وحلفاء، وكأننا أمام تنظيم سياسي له مواقف ولسنا أمام جهاز تنفيذي له وظائف. مناسبة هذا الكلام هو استمرار إصدار بلاغات من قبل وزارة الداخلية تخصصت في الرد على حزب العدالة والتنمية. وتمكّن القراءة المتفحصة لمضمون البلاغ الأخير الذي ردت فيه على تصريح الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عندما طالب بالكشف عن الجهات المسؤولة عن أحداث 16 ماي الإرهابية، من حيث بنيته واللغة التي حرر بها من الوقوف على جملة من الملاحظات : أولا، يجدر في البدء أن نؤكد بأن أي وزارة من حقها، وربما من صميم واجباتها أحيانا، أن تصدر بلاغات تهدف في الغالب إلى تنوير الرأي العام بشأن قضية أو أمر يخص مجال اختصاصها. غير أن القراءة الأولى لمضمون البلاغ المذكور تعطي الانطباع بأنه لو نشر مجردا من توقيع وزارة الداخلية لاعتقد قارئه بأن الأمر حتما يتعلق بخصم سياسي أو بكاتب من منتقدي الحزب . فخلافا لما يفترض أن يتميز به خطاب أي جهة حكومية تمثل الإدارة من دقة المصطلحات وحياد الخطاب ومهنية المقاربة و"تقنيتها"، فقد حُمل البلاغ المذكور بأدوات تبليغية تنتمي لقاموس الصحافة وسجالات الأشخاص والتنظيمات. وهذا أساء – في نظرنا- كثيرا إلى وظيفة الوزارة وأضر بشكل بالغ بصورتها وموقعها وزج بها في موقف يشبه – إلى حد ما- من أصر على الحضور في عرس لا يخص عائلته ولم يُدع له. فلا يليق بالإدارة أن "تستغرب": "والغريب في الأمر ، أن هذا التصريح ..."؛ ولا يليق بها أن تصدر انطباعات وتستعمل اللمز وتأويل النوايا واستعمال عبارات من قبيل أحكام القيمة : "إن مثل هذا التصريح ... ليس من شأنه سوى التشويش على الجهود التي تبذلها بلادنا في مواجهة..." و "يستصغر ذكاء المغاربة ولا يحترم مشاعرهم الوطنية؛ ولا يليق بها أن تستعمل أسلوب التلويح والمزايدة والتهديد المبطن : على الذين لا زالوا يطرحون شكوكا حول هذا الموضوع أن يتحملوا مسؤولياتهم كاملة أمام الرأي العام الوطني، وأن يختاروا موقعهم علانية وبكل وضوح ... وأن ينخرطوا كليا في الإجماع الوطني الذي يدين الإرهاب..."؛ ويحسن بأي إدارة قطاعية ألا تتجاوز مجال اختصاصها بتحليل الواقع والتعليق عليه: " وستواصل في نفس الآن جهودها لبناء الصرح الديمقراطي وضمان النمو الاقتصادي والاجتماعي..." ما لوزارة الداخلية وللنمو الاقتصادي ، فهي إدارة قطاعية يلزمها أن تتحدث عن مجال وظيفتها الحكومية وحسب، أما التعقيب أو التصريح بشأن القضايا الوطنية العامة فهي وظيفة المسؤول الأول في الحكومة الذي هو الوزير الأول الذي يتولى بنص الدستور تقديم التصريح الحكومي تنسيق النشاطات الوزارية. ومن ثمة يبدو أن وزارة الداخلية تتصرف – لاشعوريا- بمنطق الوزارة السيادية ذات اليد الطولى في كل المجالات. عندما نجد أنفسنا أمام وزارة تُعقب، وزارة تتهجم، وزارة تلمز، وزارة تستنكر، فإن ذلك يستدعي للنقاش تمحيص النظر حول وظائف الدولة ووظيفة الجهاز التنفيذي فيها بشكل خاص. والواقع أن وظائف الإدارة بالأساس هو أن تنفذ برامج، وتقدم خدمات وتمارس دورها في الرقابة الإدارية والمالية بقواعدها ومساطرها على الأفراد والمؤسسات، وتنفذ القوانين وتمارس سلطتها التنظيمية... فوزارة الداخلية ليست حزبا سياسيا يؤطر المواطن وينتج المواقف، ولا مكتبا إعلاميا للإخبار والتحليل. ووزير الداخلية ليس صحافيا ولا محللا سياسيا ولا أكاديميا. وظائف الجهاز التنفيذي محددة بنص الدستور. إن ما كان بإمكان الوزارة أن تتدخل بشأنه ، في هذا السياق، لا يخرج عن أمرين: - إما تصحيح مغالطات تخصها وردت في كلام الأمين العام لحزب العدالة والتنمية. - وإما التوجه رأسا إلى القضاء قصد تقديم شكوى بشأن مضمون كلامه من قبيل القذف أو الافتراء أو غير ذلك مما قد يسبب للوزارة أو لأحد موظفيها ضررا ماديا أو معنويا. وقد كنا ننتظر كمواطنين أن تقوم الوزارة – مثلا – بتكذيب ما ورد على لسان السيد عبد الإله بنكيران وتقول للناس بأنها لم تقم أبدا بالضغط على الحزب بشكل مباشر وتهديد سافر من أجل تقليص مشاركته في انتخابات 2003 . أليس هذا استصغارا واستخفافا بذكاء المغاربة، أن تتجاهل قولا لمسؤول حزبي يتهمك فيه بأنك تدخلت بالضغط والإكراه بشكل مناف لقواعد الحياد والنزاهة التي من المفترض أن تتحلى بها الإدارة، وتهرب في المقابل إلى مساجلته في أمر الجهات الحقيقية التي تقف وراء اعتداءات 16 ماي الإرهابية، مع العلم أن عددا من المراقبين والمهتمين وحتى من الأكاديميين ظلوا يطرحون ذات السؤال بشكل عادي دون أن تتدخل وزارة الداخلية .. ولا وزارة الثقافة !!؟ أليس من حق الأمين العام لحزب العدالة والتنمية أن يقدم رؤيته وتحليله السياسي لما تعرض له حزبه بُعيد أحداث 16 ماي الإجرامية من ترهيب وضغط وابتزاز، ثم يعرج إلى واقعة ولادة حزب سياسي أصبح في ظرف "كينيزي" لا يتجاوز ستة أشهر بعد تأسيسه القوة الانتخابية الأولى في البلد، مع التذكير بأن من يتزعم هذا الحزب الذي أعلن قبل تأسيسه بأن من المهام "الأساسية" التي أسس من أجلها هي محاربة حزب العدالة والتنمية ليس شخصا آخر غير السيد فؤاد عالي الهمة كاتب الدولة في الداخلية والمشرف المباشر على تدبير ملف تلك الأحداث ؟. إن المراقب يستشعر بأن وزارة الداخلية من خلال مضمون هذا البلاغ وأمثاله عوض أن تساهم وفق اختصاصاتها في إتقان مهمتها النبيلة من حفظ الأمن وتحقيق الطمأنينة للمواطنين، وكذلك الإسهام في تنظيم المشهد الحزبي وتوفير الشروط المناسبة لقيام الأحزاب بوظيفة التأطير السياسي، فإنها – عوض ذلك- تقوم بالتحجير على النقاش السياسي وتمعن في فرض سقوف وطيئة جدا لهذا النقاش حتى لا يتجاوز حدود التصفيق والتزمير. وعلى مستوى آخر، فإن هنالك سؤالا جوهريا يسترعي نظر المراقب والمحلل لتعامل وزارة الداخلية مع هذا الحزب : لماذا استمر نهج "البلاغات المتخصصة في حزب العدالة والتنمية" رغم تغيير وزير الداخلية السابق شكيب بنموسى و تعيين وزير جديد (نذكر أن السيد بنموسى صدرت في عهده بلاغات لا تقل غرابة من البلاغ الأخير من قبيل بلاغ بشأن ادعاء عدم ترخيص المجلس الجماعي للقصر الكبير لجمعية محلية بتنظيم نشاط بأحد الفضاءات التابعة للجماعة !!). في الديمقراطيات الحقيقية يمثل تعيين وزاء جدد مؤشرا على إرادة تغيير في منهجية العمل وربما اعتماد سياسات عمومية جديدة مغايرة لسابقتها. أما عندنا نحن، فإن التفسير الوحيد لاستمرارية النهج المتبع هو أن هناك مراكز نفوذ من داخل هذه الوزارة ومن خارجها على الأرجح هي التي تصنع القرار وتحدد منهج التعامل مع كل طرف سياسي على حدة. عندما نحلل سلوك الجهات المسؤولة عن الوزارة ونرى بالملموس تحاملها الواضح على طرف سياسي يعد من أبرز القوى السياسية في البلاد، فليس من حقنا فقط أن ننزعج ونأسف لهذا الأمر فقط، بل من حقنا أن نقلق بشأن مصير الاستحقاقات القادمة التي تمت وتتم تحت إشراف هذه الوزارة صاحبة البلاغ إياه. يا سادتي، لقد راجعت وجهة نظري فوزارة الداخلية ليست مجرد "حزب سياسي مشارك في الحكومة"، بل أرى فيها "حزبا يسير الحكومة" !!