من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد راح، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. انتهى العرض الإلهي الخاص، وكان الربح مغفرة، وشعرت النفوس بالفراق وتأسفت على الرحيل، فنعم الزائر ونعم المطهر، انشراح واتصال بالسماء ليلا ونهارا، لحظة فرحة يومية تذخر فرحة للقاء صاحب الشركة الكبرى، شركة " اتصالات الرحمة ". استراحة وعافية للجسم، وصفة طبية من كلمتين جامعتين:"صوموا تصحوا" تقابلها وصفة توجيهية "رب صائم ليس من صيامه إلا الجوع والعطش"، وما بين الصحة والجوع حركة مناعة، فحين تترهل أنسجة الجسم وتشيخ، وتتعب الخلايا يأتي الصوم ليقضي عليها ويهاجمها ويتخلص منها. شهر رمضان شهر انتصار الإنسان على الشهوات والسيئات، انتصار على الشيطان، انتصار نفحة الروح على طينة الأرض. شهر الدربة والمبادرة والإرادة، تتغير شخصياتنا لتصبح ودودة اجتماعية متدينة متلاحمة مع الأسرة والمجتمع والأمة، شهر الجود لا شهر الخمول، شهر السعة في كل شيء لا شهر الضيق. شهر مغفرة الذنوب، حيث تستغفر الملائكة للصائمين حتى يفطروا، و حين يستغفر الملائكة و المؤمنون يكون كمال الاستغفار: (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم). راحت الفرحة ... (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، و فرحة يوم يلقى ربه) ثلاثون يوما من الفرح، كل يوم فرحة، إشباع و تخمة من الفرح، فرح يأتيك مقابل صيامك " صم و افرح"، فرح مقابل امتناع طوعي اختياري " أنا فرحان لأني صائم" أو " أنا صائم إذن أنا فرحان"، إحساس رائع، و كأن حال العائلة على مائدة الإفطار يقول: ( تعالوا لنفرح بصيامنا، و نفرح بربنا). الناس يعيشون شهر العسل مرة في العمر، و أنت تعيش شهر الفرحة مرة في السنة، أية فرحة هاته ؟ ماذا ربحت و كسبت ؟ أهو مال موروث أم صفقة تجارية أم نجاح في امتحان لنيل شهادة عليا ؟ أم هو انتشاء بالحياة بملذاتها و نعيمها ؟ إنه فعلا كل ذلك و أكثر، إنه رصيد بنكي من الفرح، الفرح الذي يمنحك إياه مسبب الفرح، و خالق النفس الفرحة. إنها الفرحة المشتركة بين أبناء الأمة ، فرح المغاربة و فرح غزة و فرح أطفال الأردن الذين سيتبرعون هذا العام بثياب العيد لأطفال" أرض الرباط"، فرحة للجميع، الكل ضيوف على مائدة الرحمان، فرحة تختلف عن فرحة الدنيا النسبية اللحظوية التي تزول بزوال سياقها أو قد تخفي الهم و تكابر أمام الناس و تضع المساحيق لإبراز الفرحة المصطنعة . إن الفرحة في رمضان تأخذ جماليات : جمالية "الارتواء"، جمالية " الادخار" ليوم القيامة، جمالية "الفرحة الكبرى" يوم لقاء الله، إن" الهدية المفرحة" تعبر عن صاحبها، فالله تعالى هو الذي سيفرحك: "فرحة المغفرة" و" فرحة الخلود" و "فرحة النظر" إلى وجهه الكريم التي لا تعدوها فرحة الدخول إلى الجنة، فرحة ليست من طبيعة الفرحة الدنيوية، إنها الفرحة الدائمة، فرحة لا حزن بعدها و لا قلق ولا قنوط، فرحة متجددة كل حين. نعم رحلت فرحة رمضان لكن الفرحة عند الله خالدة . إن سر الحديث هو الربط بين الفرحتين فرحة الإفطار و فرحة لقاء الله و العائق بينهما هو المنغصات و المنكدات و المعيوش اليومي التلفزي بهشاشته و" حموضته"... فالمطلوب أن يحترم الصائم المغربي في هذا الشهر المبارك و أن يتمتع على الأقل بالفرحة التي حرم منها في سياقات مختلفة. إن الصائم المغربي يحترم هذه الشعيرة، و تتحرك فيه الفطرة، و يصل رحمه و قد يقيم الصلاة و يقبل على الله، وقد يقلع عن التدخين و يشرح الله صدره، فلماذا نصادر فرحته؟ حين تفطر بدون تلفاز تحس بالفرحة والصيام، تفطر حين تفطر، و تتذوق دعاءك، فالله تعالى قريب منك في كل الأحوال فما بالك إذا كنت صائما و دعوته، و الله يعطيك دون أن تسأله فما بالك إذا سألته،( و إذا سألك عبادي عني فاني أجيب دعوة الداعي إذا دعاني). إن التغطية مفتوحة في كل الأوقات و تكون قوية لحظة الإفطار، أما التعبئة فمرتبطة ب " إذا دعاني "، تعبئة دون رقم سري، اتصال شخصي فردي لا يدخل معك أحد على الخط، فالخيوط بعدد الصائمين، و اتصالات الرحمة ملك للجميع، شعارها " اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا "، فادع و عبئ رصيدك من الفرحة المطمئنة، فرحة مضاعفة، فرحة الإفطار تدعو فيها بكل ما يحقق الفرح و الانتشاء في انتظار "الفرحة الكبرى "عند الله تعالى . راحت الوقاية.. لا يوجد شخص في كامل قواه الصحية، يتجه نحو مصحة للوقاية سوى الصائم، إنها مصحة رمضان، فهي تقبل المرضى و المعافين بحثا عن " المناعة القلبية" و"الصحة الدائمة المتجددة"، إنها الزيارة التلقائية السنوية طلبا للشفاء الصحي و القلبي. فإذا كان رمضان شهر القرآن، و القرآن شفاء للقلوب، فرمضان شهر الشفاء بالحقيقة و المجاز. إن رمضان عيادة متنقلة في الزمان تحمل دواء القرآن، بل مستشفى لمرضى راقدين في أقسام للهضم و الضغط الدموي و السمنة و الطب الباطني و أمراض الشيخوخة... الكل ينتظر " إحسان الشفاء"، ليس في الدواء المسموم و لا في يد الطبيب و لا الصيدلاني، و لكن في حقيقة و سر رمضان، شهر التطهير و الشفاء. إن المرض الحقيقي هو مرض القلوب، و الشفاء الحقيقي هو شفاء القرآن ( و ننزل من القرآن ما هو شفاء..)، و قد جاء في مأثور بعض أدعية الشافعية ( اللهم صل على سيدنا محمد و على آل سيدنا محمد بعدد كل داء و دواء.) إن الشفاء و الدواء و العافية نعم إلاهية، تبعث في الإنسان الشكر و الحمد و الامتنان إليه تعالى، و أهون الشفاء شفاء المرض الجسدي، و أرقى الشفاء شفاء مرض القلوب، فرمضان شفاء للمرضين، مرض الأجساد و مرض القلوب. إن المريض جسديا وصفته محدودة مهما كان المرض، و مريض القلب كم يكفيه من الجرعات ؟ و أية وصفة تشخص حالته؟ و كيف يستعيد عافيته و المرض متجدر؟ و أية مسكنات للآلام المعنوية، آلام الضلال و الاستبداد و الفساد ؟ لا عليك سيدي فالوصفة كلمة واحدة هي"المطهر"، فشهر رمضان شهر انتصار الإنسان على الشهوات والسيئات، شهر"المقاومة الجسدية " و الانتصار على النفس و رغباتها، شهر"الوقاية الجسدية". رمضان يمنحك حرارة الذات ، و يعطيك الفيتامينات الإختيارية من صدقة و أفعال خير، و المقويات الإيمانية التي لا تزيف درجة الحرارة، فهو محرار طبيعي ترتفع فيه الحرارة بالصيام و القيام إيمانا و احتسابا، و ليس محرار الجوع و العطش و لا " التزود الخبزي" فالإنسان لا يأكل أكثر من احتياجه، و " التزود الخبزي " نسبي لحظوي زائل بزوال المائدة، و كل يوم تزود خبزي جديد، رغبات و اشتهاء و " كلما اشتهيتم اشتريتم ". إن التزود الخبزي يجعل رمضان "موسم الثقافة الخبزية" بعناوين متعددة " شهيوات رمضان " " أسواق رمضان " و "معرض رمضان" و يصبح المطبخ معبد رمضان، يعتكف فيه بالليل و النهار. إن التزود الخبزي إذا كان هو الهم الأوحد في رمضان، خسارة بكل المقاييس : مادية ( ميزانية شهرية عالية ) و جسدية (عسر في الهضم و معدة مهددة ) و روحية ( فقدان لفرصة التزود بالتقوى ). فكلوا و اشربوا و لا تسرفوا، و تزودوا فإن خير الزاد التقوى، و نسأل الله الشفاء للمرضى و الصحة و العافية للمسلمين أجمعين. ... رحلت يا رمضان، والله إنا عليك متحسرون، مغبونون.. فكيف نحافظ على فرحتنا وعلى وقايتنا، وعلى جودنا وكرمنا ومواساتنا وإحساننا ؟ يا صائمين كيف نستمر علي إيقاع رمضان، أليس رب رمضان هو رب شوال ورب الشهور أجمعين ؟ كيف ننتكس ونفقد روح رمضان، أليس رمضان تأمينا للسنة وزادا نتقوى به لمواجهة غفلة الشهور ؟ بوركت يا شهر التشريع والعقيدة والأخلاق والتاريخ، ونعدك أن نكون رمضانيين في سائر الأشهر وان نأخذ من بركتك لنواجه الواقع في انتظار عودتك.