من المعلوم أن الدّاعين والمنظّرين لتجربة الخلافة كما مُورست إبّان عهد الخلفاء الأُوّل (أبو بكر، عمر، عثمان، علي)، يُقيمون نظام الخلافة على عدة أسُس من ضمنها: أصالة نموذج "الخلافة"، التنصيص الديني على الخلافة ... حيث يُعتقَد بأن وجود هذه الشرائط والالتزام بها كفيلٌ بتحقيق النموذج "الربّاني" المسمى "خلافة راشدة على المنهج النبوي". فهل وجُدت بالفعل نصوصا دينية تؤيّد حكم الخلافة؟ وما مدى أصالة الخلافة؟ يبقى أصل فكرة "الخلافة" من أهم الأمور غير المفكّر فيها لدى جل المنظّرين لنظام الخلافة، حيث اعتُبِرَ هذا الأسلوب في الحكم ابتكارا اسلاميا ليس له سابقة في التاريخ، مما يُضفي صبغة دينية على مسألة الخلافة، ويُعزّز موقف القائلين بأصلها الديني، بحيث يُضاف إلى النصوص الدينية، التي سنناقشها في الفقرة المُوالية، فرادة النشأة والتأسيس. لكن السؤال الذي ينبغي بحثه في هذا السياق هو: هل غابت فكرة الخلافة عن المنطقة العربية قبل الإسلام؟ تُظهِر الأبحاث الأركيولوجية أن مصطلح "خلافة" ذُكر بادئ ذي بدء «في بلاد العرب في فترة ما قبل الاسلام في نقوش عربية من القرن السادس الميلادي بدا فيها الخليفة نوعا من "نواب الملك" أو من نائب حل محل الحاكم في مكان ما. ويذكر الخليفة مرّتين في القرآن مرة إشارة إلى آدم والأخرى إلى داود والثانية في سياق يحمل تقديما قويا للسلطة [إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق]، كما وردت الكلمة في القرآن عدة مرات في صيغة الجمع "خلفاء"و"خلائف" وهذا في سياقات تجعلها أحيانا تترجم كخلفاء وأحيانا كورثة أو أملاك واحتمالا كنواب». وتبرُز الخلافة بهذا المعني، وكأنها محاولة تقريرٍ لأمرٍ واقعٍ في التاريخ والجغرافيا، وهو ما يعني أن المسلمين لم يفكّروا في نظام سياسي خارج ما تعارفوا عليه قبل تحوّلهم لإسلام، حيث ضرورة "تأمّر فرد على الجماعة" وفق الانتخاب الطبيعي المبني على الوجاهة الاجتماعية، وإن أضافت له العقيدة الدينية معيارا آخر يتمثل في السبق الديني، والتضحية في سبيل نشر الدعوة، وبعض الإشارات التي استُنتِجت من الفترة النبوية. كما اختلف المسلمون حول ما إذا كان نظام الخلافة فريضة دينية أم مجرّد اجتهاد سياسي، كما اختلفوا حول صحة بعض النصوص التي تقول بها بعض المذاهب الدينية. فبالعودة الى الجدال الذي قام خلال ما بات يعرف ب "سقيفة بني ساعدة"، يَظهر أنه بعد خلاف جاد بين المهاجرين والأنصار حول أحقّية كل مجموعة في اختيار الأمير، وهو خلاف قال عنه عمر بن الخطاب فيما بعد إنه كان "سقطة وقى الله شرها". وكان الفرقاء عند السقيفة أكثر فهما لطبيعتها فتحدّثوا عن خلافة السلطة السياسية للرسول، أو "سلطان محمد" على حد تعبيرهم. وظل الدين في موقعه كمظلة أخلاقية تُضلّل الأهداف، وظل حضوره طاغيا في المعادلة على حضور "الدولة" التي لم يكن جهازها قد اكتمل نضوجا بالمعنى التسلطي المعروف. ويتّضحُ الطّابع السياسي للخلاف من خلال مضمون النقاش السائد آنذاك، فقد احتج عمر بن الخطاب للمهاجرين على الأنصار بقوله: «من ذا ينازعنا سلطة محمد وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مُدلٍ بباطلٍ أو متجانفٍ لإثم ومتورّط في هلكة. والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم". ووافقه علي على ذلك من الأنصار سعد بن بشير بقوله: "إن محمدا رسول الله رجل قرشي وقومه أحق بميراثه وتولي سلطانه». فأين هي النصوص الدينية التي احتج بها الصحابة على ضرورة قيام الخلافة؟ ولماذا لم يتوسّل بها هؤلاء أثناء جدالهم المحتدم حول من هو الأحق بنيابة الرسول؟ ما يُفهم من الفقرة السالفة أن الفقهاء وكتّاب السياسة لم يستخلِصوا "الخلافة" من النصوص الدينية أو أن النبي قد أوصى بالحكم عن طريقها، بل كل ما استطاعه الفقه الاسلامي هو تجميع وتقنين ما كان من تجارب إبّان الفترة التى تلت رحيل الرسول، سيما خلال المدة التي قضاها ما يطلق عليهم "الخلفاء الراشدون" في الحكم، وبالتالي تكون نظرية الخلافة عبر مراحل تطوّرها «تقنينا حرفيا للنظام السياسي المفروض بالقوة من قبل السلطة الحاكمة، ومع كل تموُّج في شكل النظام نتيجةً لانتقال السلطة كانت النظرية تتموج تبريرا لشرعية الأمر الواقع ضد معارضة الشيعة والخوارج». لقد كان للعنصر الخارجي الدور الأهم في نحث وقبول حكم الخليفة، فمن دون أمير يخلف النبي بعد وفاته ستضيع "بيضة الاسلام" ويستولي على شؤون المسلمين من ليس أهلا لإدارتهم، وحسن التصرّف في أموالهم، فضلا على ضرورة الأمير لبسيط المزيد من الإشعاع، وحراسة الثغور، مما يحقق للعقيدة سعة الانتشار. لقد كُتِبت العديد من المصنّفات التي دلّلت بشكل يرقى إلى قوة البرهان على أن النصوص الواردة في الخلافة السنية والإمامة الشيعية، ما هي إلا تنصيصات ابتكرها أصحابها في سياق الصّراع السياسي بين الطوائف الدينية، وفي ظل الصراع الذي نشأ حول فكرة ولاية العهد التي قالها بها معاوية. فالحديث المنسوب للرسول الذي يفرض أن يكون الخليفة من قريش، أو حديث "الخلافة الراشدة التي يعقبُها المُلك العضوض"، وبصرف النّظر عن العَوار الذي لحق بسندها، فإن متنها لا يتوافق والوقائع التاريخية، إذ كان من باب أولى أن يستشهد عمر ابن الخطاب بحديث "الخلافة من قريش" بدل الاستناد إلى المبررات السياسية والمصلحية. أما تفسير حديث "الملك العضوض" على أنه يخص مسألة توريث الحكم، وأن المقصود هو تحريم الملك القائم على هذا الأساس، فذلك أمر تخالفه القراءة المتأنّية. فالمعروف أن مسألة الدولة لم تكن معروفة عند المسلمين إلا على أنها تعني اللإستقرار، والتداول...، حيث يُنظر للدولة نظرة سلبية، والشواهد على ذلك متعدّدة. فبالنّظر إلى عدم تبلور مفهوم "الدولة" لغةً وسياسةً في واقع الحياة العربية حينئذ، فإن العرب إلى فترة غير قصيرة بعد ظهور الاسلام ظلوا يستخدمون مصطلح "مُلك" للدلالة على مفهوم "الدولة" عند سواهم من الأمم. والجدير بالملاحظة بهذا الصدد أن مصطلح "مملكة" كان يعني في عُرفهم الدولة من حيث هي دولة مجرّدة بغض النظر عن نطام الحكم فيها، ملكيا كان أو غير ذلك، فالتمييز بين النظم الملكية والجمهورية لم يعرف إلا في العصر الحديث. أردنا بهذا النقاش أن نبيّن أن "نظام الخلافة" ليس من منصوصات الدين، وإنما هو -على غرار باقي الأنظمة السياسية- نِتاج للاجتهاد البشري، وخاضعٌ لتقلّبات المناخ والجغرافيا، وغيرَ مُنفلثٍ من مبدأ التاريخانية؛ فأي نظام سياسي محكوم بالنجاح والفشل بحسب قدرته على التكيٌف وامتلاكه لمبرّرات وجوده، والقوانين الاجتماعىية، وهذا ما لا يمكن أن يُفرَض بنصوص دينية ثابتة، وإنما ينطبق عليه مبدأ "أنتم أعلم بشؤون دينكم". فلقد ثبتت الحاجة إلى من يخلف الرّسول لأن القانون لا يمكن العمل به من دون إجبار. وكانت الخلافة هي السلطة الشرعية الوحيدة، وعلى الرغم من عدم قدرتها الشاملة، القادرة على امتلاك "احتكار الوسائل الشرعية للإجبار"، وبمعنى أن لا أحد يفترض أن يعاقب أو يحارب من دون موافقة الخليفة، كان مجالها التشريعي، على أي حال، محدودا بالمكانة المقدّسة للشريعة. وعلى عكس أي دولة غربية، كانت هي السلطة الشرعية الوحيدة والفريدة من نوعها". فلو استطاع المسلمون آنذاك الانفتاح على أنظمة سياسية غير فكرة الخلافة، لكن أضحى هو النظام الذي يحاول البعض اليوم بعثه، ولأضحى رفضه ونقده من موجبات التشنيع والتكفير. بعد هذا العرض الذي رام التدليل على أن الخلافة هي محض نظام سياسي ناتج عن الاجتهاد البشري، وأنه ابن بيئته القبَلية وليس خاصّية إسلامية، سنحاول في المقال القادم مناقشة بعض المقومات التي يرتكز عليها نظام الخلافة (الشورى، أهل الحل والعقد، البيعة...) لكي نسائل قدرتها على إيفاء المستظلين بحكمه حاجاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. مع الاشارة إلى أن هذه المقالات هي بعض النتائج التي توصلنا إليها من خلال دراسة مستفيضة في الموضوع بعنوان "في تفكيك بُنى نظام الخلافة ومقوّماته"، وهي الدراسة التي شاركت بها في إحدى الندوات الدولية والتي ستُنشر قريبا. - باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة، المغرب [email protected]