بسم الله الرحمن الرحيم (1) أذكِّر، حتى لا ننسى، أن المخزن، في الاصطلاح السياسي السائد، وأيضا في الاستعمال الشعبي الشائع، هو النظام الذي يحكم حياتَنا السياسية، والذي يقوم، في أساسه، على مَلكيّة وراثية، يسود فيها الملكُ ويحكمُ بسلطات شبه مطلقة، لا يترَتّب عليها، في حقّه، أيُّ شكل من أشكال المتابعة والمحاسبة. فالمَلك، في الدستورَيْن الممنوح والعرفيّ، هو فوق المؤسسات، وليس هناك في قوانيننا مؤسسةٌ فوق الملك، تملكُ سلطةَ مساءلَته، ومراجعتِه، وانتقاده، بلْهَ متابعتَه ومحاسبَته. هذا هو النظام الذي يحكمنا، والذي نجح، في تقديري، نجاحا باهرا في جرّ معظم التنظيمات والنّخب السياسية والفكرية، بمختلف أساليبِ الترغيب والترهيب، لِجَعْلها تدور في فلكه، وتدافعُ عن أطروحاته، وتصفّقُ لسياساته، إلى حدّ التملّق المنفّر، والنفاق المقزّز، والانبطاح المقيت. ويكفي أن نتذكَّر هنا أن هذه النخبَ المجرورةَ هي الذي وَضعَت، بتوجيهٍ مِن الملك، مُسوَّدَةَ مشروع دستورِ ما بعد عواصف الربيع العربي، الذي تمَّ إقرارُه في استفتاء فاتح يوليوز2011، على الطريقة المعهودةِ في استفتاءات عهد "تازممارت" وسنواتِ الرصاص. ويُعدُّ الدين/الإسلامُ، بما خالط منابعَه الصافيةَ مِن شوائب، وبما أُضيفَ إليه من أعراف وطقوس مخزنية، علاوةً على المتن الفقهي، الموروث والمستحْدَث، الذي يُسوّغ دولةَ الاستبداد، ويجوّزُ بيْعَة التغلّبِ والإكراه-يُعَدّ هذا الدّينُ المَشوب مِن الأسس القوية التي يَبني عليها النظامُ المخزنيُّ شَرعيتَه ويفرض سلطانَه. (2) لقد أسقط الإسلاميون الموالون مِن قاموسهم السياسي كلمةَ (مخزن) لِنعتِ نظامنا السياسي، بعد أن باتت عندهم مفردةً مهجورة تنتمي إلى الماضي البعيدِ المتجاوَز. والنظامُ الملكي القائمُ على البيعة الشرعية، حسب توجههم السياسي واختيارهم الفقهي، هو أساس الدولة الإسلامية في المغرب منذ قرون. إذن، فالمرجعيةُ الإسلاميّة للنظام هي عندهم مِن باب تحصيلِ حاصِل. حزبُ العدالة والتنمية، وهو رأسُ الإسلاميِّين الموالين المشاركين، حزبٌ يعرّف نفسَه، في قانونِه الأساسي، بأنه حزب سياسيٌّ يعمل بمرجعيّة إسلامية. وفي الممارسة السياسيّة الحزبية، لا يكفي أن تتجلّى بعضُ مظاهر هذه المرجعية في السلوكاتِ الفردية، وفي الحياة الخاصة للمسؤولين، وإنما المطلوبُ، في رأيي، أن تتجلى في برامجَ وقراراتٍ وسياسات وأهداف مرسومة، يمكنُ بها الحكمُ بأن هذا القرارَ، أو هذه السياسةَ، أو هذا الهدف، هو عاكس، حقيقةً وفعلا، مرجعيةَ الحزب الإسلامية. بعبارة أخرى، أين تتجلّى مرجعيةُ حزب العدالة والتنمية الإسلامية في عملِه الحكومي والبرلماني والجهوي والإقليمي والمحلي؟ أين هي بصماتُ هذه المرجعية الإسلامية فيما يصدرُ عن الحزب من سياسات وقرارات ومشاريع قوانين واقتراحات واعتراضات وبيانات؟ أين هي مرجعيتُه الإسلاميةُ في عملِه السياسيّ العام، في عمله الحكومي، في عمل الوزارات التي يديرها، وليس في الكلام والشعارات والمناكفاتِ الإعلامية والخطابات الاستعراضية؟ المعروفُ ممّا هو موثَّق ومنشور من أنشطة الحزب السياسية أن الحزبَ لم يكن له أيُّ أثر فعليٍّ واقعيٍّ تظهر فيه مرجعيتُه الإسلامية بكل وضوح؛ فليس هناك قانون، ولا مرسوم، ولا قرار إداري، ولا غيرُها من الوثائق والأفعال تظهرُ فيها المرجعيةُ الإسلامية للحزب. أَذْكُر، مثلا، أن السيد مصطفى الرميد كان صرّح، في نونبر2011، مباشرةً بعد نجاح حزب العدالة والتنمية بالمرتبة الأولى في انتخابات 25 نونبر2011، أن حزبَ العدالة والتنمية لن يغلق الحانات الموجودة، لكنه لن يسمح بفتح حانات جديدة. فماذا كان بعد هذا التصريح؟ الذي كان هو أن حزبَ العدالة والتنمية أصبح على رأس الحكومة الجديدة، وأن السيد مصطفى الرميد عُيّنَ وزيرا للعدل والحريات في هذه الحكومة، وأن محلات جديدةً لبيع الخمور قد حصلت على الترخيص القانونيّ في ظل هذه الحكومة التي يترأسها الأمينُ العام لحزب العدالة والتنمية. فماذا يعني هذا؟ وأين هي مصداقيةُ تصريحات أو وعود السيّد الرميد؟ هذا يعني، في رأيي، واحدا من أمرين، إمّا أن السيد الرميد قال ما قال في نشوةِ الانتصار الانتخابي، وهو يجهل كلَّ شيء عن عمل الحكومة التي سيصبح عضوا فيها، ويجهل أساليبَ الدولةِ المخزنية في شأن إعطاء الرخص ومنعها، وإمّا أنه قال ما قال عن الحانات والخمور بحسن نية، لأنه كان يعتقد، يومئذ، وهو ما زال محسوبا على المعارضة، أن أيَّ مسؤول إسلامي في الحكومة لا يمكنُه أن يرخص لبيع أمِّ الخبائث للمسلمين. لكنه، عرَف، بعد ذلك، بفعلِ الممارسة والاحتكاك بدواليب الدولة، أن الحكومةَ لا تملك سلطةً حقيقية في شأن واقعِ صناعةِ الخمور وتجارتِها وترويجها واستهلاكها، وأن السلطةَ الحقيقية لتدبير هذا القطاع(قطاع الخمور) إنما هي بيد المخزن، لا تملك معها الحكومةُ إلا السكوت والإذعان. وواقعةٌ أخرى تحْضرني في هذا السياق، ولعلها تؤكد ما قلته قبل قليل، وتتعلق بإشهار الخمور. ففي شهر ماي 2012، تَقدّم فريقُ حزب العدالة والتنمية في مجلس النواب بمشروع قانون لمنعِ إشهار الخمور. واليوم، وبعد مرور أكثر من سنتين على التقدم بهذا المشروع، لا يعرف أحدٌ شيئا-فيما أعلم-عن مصير هذا المشروع التشريعي، وهل ما يزال مقترحا للنظر والمناقشة، أم أنه أهمل وألغي، أم ماذا؟ ولا بد أن نتذكَّر هنا ذلك الموقفَ الصارم الذي وقفه لوبياتُ الخمور في البلاد(السياحة، الفنادق، المطاعم، وكالات الأسفار) ضد مشروع هذا القانون. أيكون هذا الموقفُ الرافضُ مِن هذه اللوبيات وراء إقبار المشروع، كما كانت لوبياتٌ أخرى وراء إقبار مشاريعَ أخرى رأوها لا تساير مصالحهم؟ (3) إن قطاعَ الخمور وما يتعلق به من قوانين ومراسيم ورخص، فلاحةً وصناعةً وتجارة وإشهارا وتسويقا واستهلاكا، واحدٌ من الأمثلة على أن الحكومة، بعكس ما يدعيه الموالون، لا تملك سلطةَ التصرف والقرار في بعض المجالات، إلا بضوء أخضر من النظام المخزني. فهي إذن حكومةٌ مقيَّدةُ الحركة في كثير من القطاعات، وخاصة الاستراتيجية والحسّاسة منها. هذا من جهة. ومِن جهة ثانية، فإن المرجعية الإسلاميةَ في الفقه المخزني تمتاز بإضافاتٍ واجتهادات وانحرافات كثيرةٍ عن المرجعية الإسلامية الأصليّة، كما تبسطها المصادرُ الإسلامية المعتبَرة عند جميعِ العلماء والفقهاء والمجتهدين. ومما تمتاز به المرجعيةُ الإسلامية المخزنية، أيْ كما تتجلّى في ممارسات النظام، أن الملك، بصفته "أميرا للمؤمنِين"، هو وحده الذي يملك حقَّ الجمع بين السياسة والدّين في أنشطته وسياساته وقراراته وغيرِ ذلك مما يصدر عنه من سلوكات وآراء. وهذا يعني، في دولة المخزن، أن الحكومةَ لا تملك حقَّ النظر في شؤون الدولة استنادا إلى خلفية دينيّة، إلا تابعةً ومأمورةً ومُنفذَةً، وإن كان مِن بين أعضائها وزيرٌ مكلّف بالأوقاف والشؤون الإسلامية. فهذا الوزير، في الحقيقة-وهذا مِنَ الغرائبِ التي تميزّ حكوماتِنا المخزنية-ليس مسؤولا أمامَ هذه الحكومة إلا عن الإخبار والتبليغ وإصدار المراسيم وتوقيعها. أما المضامين والسياسات والقرارات، فإن الوزارة تتلقى الأوامرَ فيها والتوجيهاتِ والتعليماتِ مِن رئيسها الفعليّ، الذي هو "أميرُ المؤمنِين". ومِن جهة ثالثة، فإن النظامَ المخزنيَّ يمنع قيامَ أحزاب "إسلامية"، وهذا ما يَفرض على الأحزاب الموجودة أن تمارسَ السياسةَ بمعزل عن الإسلامِ وما يعنيه الإسلامُ مِن عقائدَ وشرائعَ وآدابٍ وأخلاق. وينبغي أنْ نَذْكرَ هنا أن فريقَ حزب العدالة والتنمية في مجلس النواب حينما تقدم بمقترحه في شأن منعِ إشهار الخمور وضَّح أن مقترحَه مبنيٌّ على أساس قانوني وليس على أساس ديني، وذلك حتى لا يُتّهم بحشْر الدين في السياسة. وحزبُ العدالة والتنمية كان دائما حريصا على أن يبتعدَ عن الخوض في الأمور السياسية بخلفية إسلامية واضحة، بل كان يسعى دائما، وخاصة بعد تفجيرات 16 ماي 2003 الإجرامية، أن يَظهر بصورة الحزب السياسيِّ الخالصِ حتى لا يجرَّ عليه غضبَ النظام المخزني، فيعرّضَ نفسه للاتهام والحلّ. نفهمُ مِن هذا أن حزب العدالة والتنمية هو حزبٌ "إسلامي"، اعتبارا لِما يقولُه عنه الآخرون، ولِما يروج في الإعلام وبين الناس. أمَّا إذا اعتبرنا الوجهَ السياسيَّ والقانونيَّ مِن المسألة، فإن حزبَ العدالة والتنمية ليس حزبا إسلاميا، وإن كان لمعظم قياداتِه مسار طويل في الحركة الإسلامية المغربية. ومِن جهة رابعة، فإن حزب العدالة والتنمية لا يمكن أن يكون إلا على إسلاميَّةِ أميرِ المؤمنِين، لا يتعدّاها. ولهذا لا نجد عند هذا الحزب "الإسلامي" الموالي أيَّ اعتراضٍ أو رفض أو احتجاج أو غير أولئك مِن أشكال النقد والمراجعة لِما يصدر عن الملك مِنْ سياسات وقرارات في شأن ما يُسمّونه بالحقل الديني، الذي يحتكرُ الملك وحده، دستوريا وعرفيا، الكلامَ فيه. فمثلا، لا يملك حزبُ العدالة والتنمية أن يناقشَ قرارَ الملك بمنع "القيِّمِين الدينيِّين" مِن مزاولة أيّ عمل سياسي أو نقابي. ولا يملك أن ينتقد سياسةَ إبعادِ العلماء عن الشأن العام، ومنعِهم مِن الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر. ونتذكّر هنا حالةَ الأستاذ رضوان بنشقرون، الذي أُعفِيَ، سنة2010، مِن رئاسة المجلس العلمي المحلي بعين الشق، لأنه تجرَّأ على انتقاد مهرجان (موازين) في بيان علني. ولا يملك الحزبُ أن ينظر بعين السوء إلى الرعاية السامية لبعض المهرجانات، ولو كان في هذه المهرجانات ما يخالف بعضَ أحكام الإسلام وفضائله، في الكلام والمظهر والسلوك، وما يستفز المسلمين، ويؤذي مشاعرَهم، وينتهك أخلاقهم، ويفسد أذواقهم. ولا يملك الحزبُ "الإسلامي" أن يطلبَ مراجعةَ الظهير الصادرِ عن الديوان الملكي سنة1967، والذي ما يزال يُعتَبَر هو الأساس التشريعي في تقْنِين ترويج الخمور واستهلاكها في المجتمع المغربي المسلم. ولا يملك أن يطلبَ جعلَ يوم الجمعة يومَ عطلة أسبوعية في مجتمعنا المسلم بدلا عن يومي السبت والأحد. كما لا يملك أن يطلبَ أن يُحدَّدَ ليوم الانتخاب والاستفتاء يومٌ غيرُ يوم الجمعة، حتى لا يُحرَم الآلاف من المسلمين مِن أداءِ الفريضةِ التي فرضَها الله عليهم. ولا يملك أن يقول شيئا يعارض سياسةَ الدولة المخزنية في قطاع السياحة والخدمات الترفيهية، وإن كان لا يجهلُ ما يعرفُه هذا القطاعُ من انحرافات ومنكرات تمس سمعةَ المجتمع المغربي الإسلامي وكرَامَتَه في الصميم. وكلُّنا يذْكر الزوبعةَ التي أثارها كلامٌ للسيد مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات، في إحدى زياراته لمدينة مراكش، في 2012، حين وصف مدينةَ مراكش بأنها باتت مقصدا للسياح لمعصية الله. وقد اضطر رئيسُ الحكومة، السيد بنكيران، للتدخل لإطفاء غضب لوبيات السياحة والترفيه، الذين احتجّوا بقوة على كلام السيد وزير العدل والحريات. ولا يملك حزبُ العدالة والتنمية أن يطلبَ تغييرَ القانون الذي يمنع تأسيسَ الأحزاب على أساس إسلامي، ونحن في مجتمع مسلم ليس له مشكل مع الإسلام. فماذا فعَلَ الحزبُ "الإسلامي"، وهو على رأس الحكومة، ووزير العدل والحريات هو قياديٌّ في الحزب-ماذا فَعَل في قضية حزب "البديل الحضاري" المحلول بقرار ظالم؟ وماذا فَعَل في ملف حزب "الأمة" الممنوع، أيضا، بقرار مخزني ظالم؟ وماذا فَعَل في ملف المواطنين المسلمين المظلومين في قضية ما يُعرف بالسلفية الجهادية؟ ولا يملك الحزب "الإسلامي"، وهو على رأس حكومة ما بعد الربيع العربي، أن يُغيّر، ولو جزئيا وشكليا، سياسةَ الإعلام العمومي، الذي يجاهر، في بعض ما يبثّه مِن برامج وأفلام ومسلسلات، بمعارضة الدين، وانتهاك حرمات الإسلام، وإيذاء مشاعر المسلمين. ألمْ يُنكر السيد مصطفى الخلفي، وزيرُ الاتصال أمام مجلس المستشارين، في جلسة رسمية، نقلها التلفزيون الرسمي، في شهر ماي الماضي، بعضَ ما يعرضه التلفزيون العمومي، ووصفَه بأنه عملٌ ينتهك الدستور والقانون؟ ثُمّ ماذا كان بعد هذا الإنكار والاتهام؟ لا شيء، لأن القرار السياسيَّ فيما يخصّ الإعلام العمومي ليس بيد السيد الخلفي، ولا هو بيد رئيس حكومته، ولا بيد أي عضو من أعضاء الحكومة، وإنما هو بيد المخزن. وكونُ الإعلام العمومي بيد المخزن يعني، مِنْ بين ما يعنيه، أن ما يبثُّه هذا الإعلامُ لا يتعارض مع المرجعيةِ الإسلاميّة المخزنية، بل هو انعكاس لها، وناطقٌ بحقيقتها ومضمونها وأهدافها. وبعد، فأين هي إذن هذه المرجعية الإسلامية لحزب العدالة والتنمية، وهو لا يستطيع أن يتفوّه بكلمة واحدة يُشْتَمّ منها رائحةُ الاعتراض على سياسة الدولة في الشؤون الإسلامية؟ يحقُّ لنا، والحالة هذه، أن نستنتجَ أن المرجعية الإسلامية التي يتحدث عنها حزبُ العدالة والتنمية في أوراقه الرسميّة هي نفسها المرجعية الإسلامية المخزنية. وعلى هذا، فليس هناك أيُّ غرابة أن تكون مواقفُ الحزب فيما يخصّ السياسات التي تتبعها الدولة المخزنية-وليس حكومة السيد بنكيران- في مجال تجديدِ ما يُسمّونه بالحقل الديني وتأهيلِه، مواقفَ تابعةً ومؤيدةً ومصفقةً ومدافعةً عن سياسات إمارة المؤمنِين. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين