المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال (بوريطة)        هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام        وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب    أمن البيضاء يوقف شخصا يشتبه في إلحاقه خسائر مادية بممتلكات خاصة    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خلافة "السفهاء" وخلافة "الراشدين"
نشر في هسبريس يوم 04 - 07 - 2014


بسم الله الرحمن الرحيم
لا ريب في أن ظهور "الخوارج" شكل كارثة كبرى في التاريخ الإسلامي،لأنهم مثلوا سلفا لتيارات الجمود والتحجر والتكفير والقتل على الهوية، ولئن كان المال قد أعوزهم لتدبير اختلافهم مع الجماهير،فإن العزيمة لم تعوزهم كي يسلطوا عليها سيوفهم، وأوتوا من قبل الفهم الخاطيء لنصوص الوحي،فكانوا يعتبرون أنفسهم المسلمين الحقيقيين،وفي الأعصر المتأخرة سقت أموال النفط ذلك الفهم مياه الحياة لتظهر نسخ "خوارجية" منقحة ومزيدة، ولم تسلم قطاعات واسعة في العالم الإسلامي من الأثر "الخوارجي"،وفي كل عصر ومصر اتخذت المجموعات الغالية والمتشددة لنفسها مظاهر وأشكال وأسماء ورموز ورايات ومرجعيات، وتولد انطباع لدى الكثيرين مفاده أن الهدف من وراء كل ذلك هو التميز من أجل التميز والمخالفة من أجل المخالفة،وحب الرئاسة على أضعف المجانين، مما ينم عن وجود تدين مغشوش واختلالات تربوية تتبدى في صور الجنوح إلى مسالك التعسير في الأحكام والفقه، والتشدد في مقتضيات التوحيد والعقيدة، والشدة على أهل الذنوب والمعاصي، والتوسع في التكفير .
ومثل ظهور الثروة النفطية في الجزيرة العربية تحولا خطيرا،ومنعطفا كبيرا، إذ لم يتم استثمار تلك الثروة في التنمية الاقتصادية للبلاد،وفي تنمية الوعي بالذات والمجتمع،وتأهيل العلماء تأهيلا يجعلهم مرتبطين بالعصر وغير مفرطين في الأصل،ومسلحين برؤية مقاصدية وواقعية تراعي طبائع النفوس ومتغيرات الواقع،وإنما تم استثمارها لإشاعة فهم منحرف للإسلام يفضي إلى تحنيطه ،وتكريس تأويل واحد له لا يخدم دولة ولكن يخدم أسرة تحتكر المال والثروة،وتقمع النساء والرجال،وتفتعل الصراعات الطائفية والمذهبية،وتعوق حركة الشعوب نحو التحرر من الاستبداد والفساد،وتبدد كل أرصدة القوة لديها بولائها الأعمى لأمريكا،
لقد تعقَّد المشهد السلفي بعد حرب الخليج الأولى التي أعقبت احتلال صدام للكويت،ودخول الجيوش الأمريكية إلى الجزيرة العربية،وتم الاحتجاج على آل سعود بنفس المقولات التي كانوا يدعون وينفقون الأموال الطائلة للترويج لها،بدأ الاحتجاج بالخطب والبيانات وتصريحات الشجب والاستنكار من بعض رموز الحركة السلفية ،ولما ظهر لها أن شيئا لم يتحقق اتجهت صوب استعمال القوة،وبدأ الحديث عن تنظيم "القاعدة" الذي تشكلت نواته من"الأفغان العرب"،وصار لكل بلد عربي ومسلم "قاعدته" إما وهميا من صنع الدوائر المخابراتية ،وإما حقيقيا من صنع حب الرئاسة والزعامة ، نتيجة لما تسلل إلى عقول المنتسبين إليها من خلل في فهم الجهاد باختزاله في معنى القتال،وخلل في ترتيب الأولويات ،وخلل في فقه مراتب الأعمال (السنة والبدعة)،وخلل في فهم شبكة المصالح والعلاقات الدولية المعقدة ،وخلل في تدبير الاختلاف مع المخالفين الداخليين والخارجيين (التكفير) ،وخلل في تماسك البناء الداخلي (الاختراق المخابراتي والأجنبيّ).
وهكذا آل الأمر بالكثير من تلك الاتجاهات إلى استكانة أفضت إلى تساكن مع استبداد أقنعهم بالانصراف إلى الاهتمام بالفرد فقط في خاصة شأنه العبادي والمعاملاتي،وإلى محاربة طاغوتية البدع والشرك فحسب، ومع تناسل الجماعات العنفية..،تدعو الضرورة إلى تضافر الجهود بين علماء الدين وعلماء النفس وعلماء الاجتماع لرسم خطة تنهض بالتوعية العامة حتى لا تنطلي حيل وتَخيُّلات "أمراء الزور" على الناس.أولئك "الأمراء" يستمدون تصوراتهم من فقه سياسي تقليدي ترسخ بالترغيب والترهيب بعد الانقلاب الأموي على الخلافة الراشدة وتكريس الملك العضوض وتحكيم "السفهاء" في رقاب الناس،وليس آخر تجل لذلك الاستمداد إلا إعلان "داعش" الخلافة الإسلامية في العراق والشام،في منطقة ملتهبة وحساسة،وهي بذلك تستدعي مراحل تاريخية مهمة مختلف بشأنها،وتقذف بمصطلحات يحتاج فقه مدلولاتها إلى تبين تاريخي وعقلاني وشرعي ومنهاجي،وتخلق الذرائع لتعيد أمريكا الكرة لاحتلال العراق،بالتهمة الجاهزة الناجزة محاربة "داعش" كما احتلته أول مرة بدعوى القضاء على "القاعدة" وأسلحة الدمار الشامل،ليكتشف العالم بعد ذلك كذبها الصراح وتدليسها البواح.
ولا بد – بدلا من إطلاق الكلام على عواهنه - من استحضار جملة اعتبارات عند الحديث عن مسألة "الخلافة" منها:
مراعاة مقامات الحديث
التمييز بين المصطلحات
فمن حيث الاعتبار الأول يجدر التأكيد على أن المقام هنا هو مقام الحديث عن مجال حضاري إسلامي عام له خصائص تميزه عن المجالات الحضارية التي عرفها العالم، وليس مقام الحديث عن المجال الحضاري الخاص- حيث الكلام عن الدولة القطرية- ، ولذلك فالكلام عن "الخلافة" يكتسي أهميته من اندراجه في خانة الكلام عن المرحلة التأسيسية للمجال الحضاري الإسلامي العام،ومن خطورة الأحداث التي ارتبطت في تاريخ المسلمين بالفتنة الكبرى وما تلاها من انقلاب نزع عن "الخلافة" صفة "الرشد" التي أُضْفِيت عليها خلال حكم الصحابة الأربعة الكبار- رضي الله عنهم- :أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
ومن حيث الاعتبار الثاني يتعين إقامة فروق واضحة وحدود فاصلة بين "الخلافة" و"المُلك".فحديث "الخلافة"المشهور فهم منه بعض فقهاء السياسة الشرعية أن الأمر يتعلق بإضفاء طابع الشرعية على "المُلك العاض والجبري" لذلك لم يروا بأسا في إطلاق اسم "المُلك" على"الخلافة" أو العكس،بينما رأى آخرون أن الأمر يتعلق بتحذير من كوارث سياسية ستقع في تاريخ المسلمين،
و لقد كان التمييز بين"الخلافة" و"المُلك" حاضرا بوضوح في عقول الصحابة رضي الله عنهم،فسلمان الفارسي عندما سأله عمر:أمَلِك أنا أم خليفه؟ أجابه قائلا:" إن أنت جَبَيْت من أرض المسلمين درهما أو أقلَّ أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة"،وقال له صحابي آخر:" يا أمير المؤمنين! إنَّ بينهما فرقا. قال: ما هو؟ قال: الخليفة لا يأخذ إلا حقا، ولا يضعه إلا في حق. وأنت بحمد الله كذلك. والمَلِك يعْسِف الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا"8، ودخل سعد بن مالك على معاوية بن أبي سفيان فحياه قائلا: "السلام عليك أيها المَلِك، فغضِب معاوية فقال: ألا قلت السلام عليك يا أمير المؤمنين؟ قال سعد: ذاك إن كنا أمَّرناك، إنما أنت مُنتَز" (أي توليت الحكم بغير رضا الناس)
وبذلك يظهر أن اسم"الخلافة" يتنزل على معاني احترام حقوق الإنسان،واحترام المال العام،والتصدي للحكم باختيار حر من الناس،وعلى أضداد هذه المعاني يتنزل مفهوما "الملك العاض والجبري" من نهب للمال العام والتلاعب به واحتكار للثروة ،وانتهاك لحقوق الإنسان،واستبداد ومصادرة لحق الناس في اختيار من يحكمهم،وإلى معاني التمييز بين "الخلافة" و"الملك" نظر حديث الدكتور محمد عابد الجابري- رحمه الله- عن "حقائق حول الخلافة في الإسلام" فذكر منها " والحقيقة الخامسة أن لقب "الخليفة" كان مرتبطاً بالبيعة بعد الشورى، أي مرهوناً باختيار كبار القوم (أهل الحل والعقد)، وهذا لم يكن ينطبق إلا على الأربعة الأُوَل"، وحديثه أيضا عما أصاب "العقل السياسي العربي" ابتداء من الدولة الأموية مرورا بالعصر العباسي وصولا إلى واقعنا السياسي المعاصر من أزمات جعلت ذلك العقل مُنحبسا في ثُلاثية: أيديولوجيا الجبر الأموي ، وأيديولوجيا التكفير الخارجي،وميثولوجيا الإمامة الشيعية (الجابري ،العقل السياسي العربي،ص 310)
،وهذا تحليل دقيق لم يَرْق إليه تحليل عبد الله العروي الذي اعتراه اضطراب واضح وهو يتكلم عن "الخلافة" فاعتبرها نوعا من"الطوبى" لأنه لم يهتد إلى العلة الحقيقية التي تُميزها عن "المُلك"،ففي سياق رده على المستشرق "هاملتون جيب" الذي ربط العلة بالجهاد بمعناه الحربي،أفاد العروي بأن العلة هي تطبيق الشرع ومقاصده،أي أن الدولة في "الخلافة" تكون في خدمة الدين،وفي"الملك" يكون الدين في خدمة الدولة (عبد الله العروي،"مفهوم الدولة"،ص 100 وما بعدها)
،وهذا التعليل إن كان في جانب منه صحيحا فإنه تغافل عن العلة الحقيقية والرئيسية والمرتبطة بقضية "الشرعية" وهي حرية الناس في أن يختاروا من يحكمهم،وكأنه استكثر على المسلمين أن يكون عندهم وعي بتلك القضية في ذلك الوقت المبكر،
إن عدم إقامة التمييز الذي تكلمنا عنه من شأنه أن يُشوِّش على الفقه السياسي الذي تتطلبه المرحلة الراهنة لمواكبة التطورات الثورية المتلاحقة في عالمنا العربي والإسلامي.
وإذا كان الانقلاب اقترن بصفة "السفه" ،فإن الخلافة اقترنت بصفة "الرشد" لا لبساطة أشكالها من حيث التسيير الإداري،بل لغنى مضامينها المتمثلة :
- أولا:في القيام بحق الله والالتزام بالواجبات الدعوية ووظائف التعليم والتزكية،
- وثانيا:في عدم مصادرة حق الأمة في اختيار الحاكم
- وثالثا:في حماية المال العام ورعاية حرمته،
- ورابعا: في عدم انتهاك حقوق الناس واحترام كرامتهم،
وخامسا:في التدبير السلمي للاختلاف مع المعارضين والمخالفين في الدين والعقيدة والمذهب.
وإن أولى خطوات التحرر من الفقه السياسي المنحبس هي الاعتراف والوعي بأن الانقلاب الأموي كان أخطر بدعة في الدين والسياسة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينشيء دولة كي تحكمها عائلته أو عشيرته أو سلالته ومات ولم يستخلف أحدا، وارتبط الانقلاب بآفة التوريث،ونال جل المدارس الإسلامية نصيبها من تلك الآفة،فعرفت الطرق الصوفية التوريث في شيوخ الزوايا،وعرفه الشيعة في الأئمة الاثنا عشر،وعرفه السنة في الأسر الحاكمة ابتداء من الأمويين إلى العثمانيين.
ولقد ترسخ الاستبداد بمقولات تشكل صلب التصور السياسي "لداعش" وأمثالها:
- أولا بنظريات التغلب وفقه"الأحكام السلطانية"،فحدث ضمور في الفقه السياسي الأصيل
- وثانيا بتقليد فتاوى الماضين،كالإمام أحمد - رحمه الله - الذي قال : "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- والاقتداء به وترك البدع (...) والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين والبر والفاجر، ومن ولي الخلافة فاجتمع الناس عليه ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة، وسُمِّي أمير المؤمنين والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة والبر الفاجر لا يُترك"(أبو القاسم الطبري،شرح اعتقاد أهل السنة 1/160)،وزاد عليه الباجوري بما يمكن أن نعتبره "وصفة جيدة" لتخريج أفراد مثل شاه إيران المقبور وبن علي وحسني مبارك والقذافي وبشار وعلي صالح والسيسي،وجماعات مثل "القاعدة" و"النصرة" و"داعش" و"كتائب أبي الفضل العباس" و"عصائب أهل الحق"؛ فذكر من طرق تعيين الحاكم:"وثالثها: استيلاء شخص مسلم ذي شوكة متغلب على الإمامة ولو غير أهل لها كصبي وامرأة وفاسق وجاهل،فتنعقد إمامته لينظم شمل المسلمين،وتنفذ أحكامه بالضرورة".
- وثالثا:بالاستغلال السيئ لأحاديث السمع والطاعة ليطلب المستبدون إلى الناس بذل طاعة مطلقة بعد أن اصطنعوا طائفة من "العلماء" لم يُكلِّفوا أنفسهم عناء القيام باستقراء كلي لتلك الأحاديث، فبعضها يَنُصُّ ظاهرها على وجوب بذل طاعة مطلقة للحكام سواء عدلوا أم ظلموا كالحديث المروي عن عبد الله بن مسعود: "إنها ستكون أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسلون الذي لكم"، وبعضها الآخر ينص على طاعة مشروطة ومقيدة: فروي ابن حبان عن أبي سعيد الخدري عن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: "من أمركم بمعصية فلا تطيعوه"، والثابت في قواعد الأصول أن المطلق يُحمل على المُقيَّد،فلا طاعة مطلقة لحاكِم،ولا أنفع في لجم هوى الحاكم من الفصل بين السلطات وتمتيع القضاء باستقلال حقيقي وتقوية رقابة المجتمع،
وتأسيسا على كل ما سبق بيانه يمكن القول إن مسألة "الخلافة" ليست شعارا للاستهلاك بل يتعين أن ينصرف النظر فيها إلى المعاني لا إلى الأشكال؛وهي معان تقوم على:
- معمار أخلاقي يتأسس على الإيمان بالله والسعي إلى نيل رضاه، والإيمان باليوم الآخر.
- العدل في الحكم والفصل بين السلط،والتركيز على الصبغة "الاشتراطية" و"التعاقدية" للبيعة التي ارتبطت بالخلافة،فالناس هم الأساس في إضفاء "المشروعية" على الحكم،والنظر في مسائل الحكم مفوض إلى الخَلْقِ ولا يدخل في مسمَّى العقائد،وبهذا المعنى تكون الدولة الوطنية أو الأممية المنشودة دولة مدنية بدون أدنى شك أو تردد.
- العدل في توزيع الثروة وتمكين الناس من تحقيق الكفاية في أرزاقهم.
- الشورى وتوسيع الاستشارة مع عموم الشعب وقواه الحية .
- جهد جماعي تبذله كل مكونات وتيارات وأحزاب الأمة قاطبة،ولا يمكن بتاتا أن تنهض بمهام بنائها جماعة لوحدها أو حزب أو جمعية . لأن الأمر- نعيد التأكيد- يتعلق بالمجال الحضاري الإسلامي العام وليس بمجال حضاري خاص سواء كان العراق أم المغرب.
- تقوية المجتمع لينهض بمهام الرقابة على الدولة ،لأنه لا يكفي – في عصرنا- التعويل فقط على صلاح الحاكم الفرد دون بناء مؤسسة قوية تعينه تحمي الحاكم من نفسه،وتحمي الحكم الرشيد وتحصنه من الفساد والاستبداد.
- إشاعة الحريات (حرية العقيدة:لا إكراه في الدين)،حرية التعبير ليقول من شاء ما شاء ما لم يرفع سلاحا...
- التحرر من أسر الولاءات القبلية والعشائرية والعرقية للعيش بحرية في دولة قوية، كما حرر التغيير الإسلامي الأول العرب من تلك الولاءات وبنى لهم في التاريخ دولة،أما الأشكال فهي من قبيل المتغيرات الدائرة في فلك الاجتهاد حسب مستجدات الواقع.
وقبل ادعاء "الخلافة" سبقت جماعات وأفراد إلى ادعاء "المهدوية"، كجماعة "الحجتية" التي سبق أن ظهرت في إيران،والتي تعتقد أن تعميق الظلم وتكريس الفساد من شأنه أن يُعجِّل بظهور المهدي،ويُذكِّر أيضا بجماعة "احمد بن الحسن" في النجف بالعراق،وحدث أن قام "جيش المهدي"(التابع لمقتدى الصدر) بطرد مجموعة أطلقت على نفسها اسم جماعة "روح الله" تعتقد بأن الخميني لم يمت وأنه سيرجع،وادعاها من أهل السنة الكثير وفي جل البلدان،فأشهر من ادعاها في المغرب ابن تومرت،وأشهر من ادعاها في السودان المهدي السوداني،وعرف عام 1979 حادثة الحرم المكي حيث كان جهيمان العتيبي يأخذ البيعة لصهره محمد بن عبد الله القحطاني على أنه هو المهدي المنتظر،وتم احتجاز المصلين بالحرم إلى أن أخمدت السلطات السعودية التمرد.
بكلمة "الخلافة" هي الدولة الأممية العادلة والحية بحياة الإيمان وأخلاق الإسلام،أما خلافة "داعش" فانحطاط في الأخلاق،وبؤس في السياسة،ونهم للمال والسلطة لا حدود له،وإن الطموح إلى "الأممية" طموح عابر للقارات، يسكن الأفراد والجماعات،إما أن يكون بحق يسعى إلى خير البشر وإشاعة السلام،وإما أن يكون بباطل فيفضي- كما حدث في التاريخ- إلى الفاشية والنازية والصهيونية والتوسع والاستعمار.
(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)
صدق الله العظيم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.