ملامح من حياة أديب عالم صوفي رمي بالزندقة..؟ عرفت المجتمعات الإسلامية على امتداد العالم الإسلامي الذي كان يستظل بلواء الخلافة الإسلامية في القرون الأولى للحياة السياسية والثقافية وبالأحرى الحضارة الإسلامية مجموعة مهمة من ذوي الفكر والتكوين الثقافي العلمي بالمعنى الواسع. وكان هؤلاء يمثلون قوة سياسية واجتماعية مؤثرة على المسؤولين وفي القرارات التي يتخذونها على مستويات مختلفة، ولذلك كان المسؤولون يجتهدون ويسعون ما وسعهم الوسع ليكون لهؤلاء مكانة ودور في دوائر الحكومة، كما كان كبراء المسؤولين يتنافسون في استقطاب المبرزين من المثقفين والمفكرين لاسيما من كان لديهم شفوف ومكانة بين العامة باعتبار ما يحظون به من تقدير واهتمام لدى الشريحة الواسعة من المجتمع. وإذا كان الشعراء الذين يستطيعون بما لديهم من قدرة على الاقتراب من الرأي العام الذي يميل بطبعه إلى ما يصدر عن هؤلاء من هم في ميادين مختلفة مسايرة لتقليد كان العرب يتميزون به قبل الإسلام حيث كان لكل قبيلة شاعر أو شعراء شعرائها يزودون عنها ويذكرون بمفاخرها، وأدوارها الاجتماعية والحربية والسياسية، بالإضافة إلى الدور الذي استطاع المبرزون من الشعراء أن يعطوه لهذا الفن من القول حيث كانوا يتميزون بما لديهم من حاسة إبداعية واستشرافية يرسلون حكما وأقوالا تتخذ مثلا عند الناس حتى قال قائلهم مفاخرا بدور الشعر ومكانته: ولولا خلل سنها الشعر ما درى بغاة العلا كيف نبني المكارم هذا التقليد فرض نفسه بعد بناء الدولة والخلافة الإسلامية، ولم يكن ينافس الشعراء في الحظوة لدى الرأي العام بل يفوقهم سوى العلماء والفقهاء الذين يكون لهم التأثير بحكم ما لهم من ثقل اعتباري عند الناس حيث يعتبرون من الموقعين عن رب العالمين ولهذا كان الصراع يحتدم في في بلاطات المسؤولين بين هذين العنصرين وعنصر ثالث هو تلك المجموعة من المفكرين الذين قد يجمعهم مع هؤلاء ما يمكن أن يكون لديهم من قريحة وموهبة في نظم الشعر، وفي إدراك قواعد استنباط الأحكام وصياغة الفتوى إذا اقتضى الحال غير أن واقع تعدد ما لحق بالإسلام وحضارته من أقوام ذوي ثقافات وأصول حضارية استطاع أن يجعل من قصور الخلفاء والكبراء منتديات للفكر ومطارحات ما جد على الحياة العلمية والفكرية بين النخبة العلمية في هذه المجتمعات، مما جعل التنافس يقوى ويفضى إلى رمي البعض بتهم الزندقة والخروج عن الإسلام وآدابه وغير ذلك من التهم التي كان فيها لصاحبنا أبي حيان أكبر نصيب. لقد كان أبو حيان التوحيدي واحدا من هؤلاء الذين استقطبهم النقاش والجدال الفكري والعلمي الخصب، ولكن صاحبنا لم يجن منه على المستوى الشخصي إلا المعاناة والآلام النفسية وربما اضطر للتخفي والعيش طريدا لعقود هذا الشخص ترك للفكر والثقافة والأدب والعلم تراثا يفتخر به التراث العربي الإسلامي إلى اليوم، وإذا كان تراثه فيه ما فيه فإننا اخترنا ما يناسب الشهر الفضيل رمضان ليكون محور هذه الأحاديث. لقد كتب منذ سنوات تعريفا مختصرا بأبي حيان مع الحديث عن كتابه الإشارات الإلهية، وأعود اليوم لمواصلة الكلام حيث انتهى مع التذكير من جديد بلمحات من حياة أبي حيان. ********* التحامل في تاريخ الأدب والفكر شخصيات ظلمها الناس، ونسبوا إليها من القول والفعل ما لم ترتكب وما لم تقل، كما ضخموا ما قالت وحملوه أكثر مما يحتمل شرحا وتأويلا وتحاملوا عليه كثيرا، وإذا ظهر عكس ما قالوا وأرادوا بادروا إلى إخفائه وغمره بأساليب يستطيعون دائما أن يحبكوها حبكا، وان يصوغوها بأشكال وتعابير من شأنها طمس الحقيقة وغمرها، وفي تاريخ الفكر الإسلامي نماذج كثيرة من شخصيات مظلومة وأخرى تمكن أنصارها ومريدوها أن يبؤوها مكانة ربما لو خضعت للنقد والتمحيص ما كان لها أن تكون في تلك المكانة. الانتحال والتمول ولعل أبا حيان التوحيدي «على بن محمد بن العباس» وهذا هو اسمه من هؤلاء الناس الذين ظلموا في حياتهم ولم يجدوا لهم المكانة التي تناسبهم ولاحقهم هذا الظلم حتى بعد مماتهم إذ لفقت له تهم، ونسبت إليه أقوال انتحالا شأنه كثير وعندما ظهرت كتبه وقرأها الناس كانت على غرار كثير من الكتب التي ألفت في زمانه من طرف أناس آخرين لم يلاحقهم الناس كما لاحقوا أبا حيان حيا وميتا، وقد أورد صاحب طبقات الشافعية ترجمة الرجل ونقل في هذه الترجمة أقوال خصومه وعقب عليها بقوله: صرخة إنصاف ولم يثبت عندي إلى الآن من حال أبى حيان ما يوجب الوقيعة فيه ووقعت على كثير من كلامه فلم أجد فيه إلا ما يدل على أنه قوي النفس مزدريا بأهل عصره، ولا يوجب هذا القدر أن ينال منه هذا النيل وسئل الوالد رحمه الله عنه فأجاب بقريب مما أقول.» هذه الشهادة التي يدلي بها من يقرأ ما نشر بين الناس من إنتاج أبى حيان رحمه الله. الدافع ولعل هذا التناقض في حكم الناس على أبى حيان هو الذي دفعني اليوم في هذه المناسبة الكريمة مناسبة رمضان للحديث عن الرجل وعن بعض إنتاجه في الأدب الصوفي، لقد اغرم كثير من الناس بإنتاج أبى حيان باعتباره من أكبر أدباء اللغة العربية إذ أسلوبه من الأساليب التي لا تجارى، فهو من طبقة أعيان الأدب العربي إذ يقارن بالجاحظ في نتاجه ونصاعة أسلوبه وفصاحة بيانه ودقة كلامه واختيار ألفاظه وسلامة تعبيره وقوة حجته ومتانة لفظه. عقل متميز بل أن هناك من يرى أنه:«ربما كان التوحيدي أعظم كتاب النثر العربي على الإطلاق» بالإضافة إلى هذه المكانة الأدبية للرجل فإنه كان له كذلك عقل متميز وإدراك عميق مما مكنه من استيعاب الفقه على مذهب الإمام الشافعي بجانب دراسته للأدب الصوفي والتصوف وكذا الفلسفة وانحاز إلى توجهات اعتزالية كما يقول مؤرخوه فهو على أي حال على طريقة المتميزين أهل زمانه ذا ثقافة موسوعية. ثروات ومعارك عاش الرجل ما بين 310 و 414 ه أي مائة سنة قد تزيد قليلا أو تقل قليلا، عاشها في شظف العيش وفي معارك فكرية تقتضيه الاختفاء أحيانا والظهور طورا ولكنه كان مصاحبا للفكر والكتابة دائما ما دامت الوراقة حرفته، قد اقترب قليلا من الكبراء ليبتعد كثيرا عنهم وعن الناس وأنتج هذا الاقتراب أغلب إنتاجه وأدبه في حياته ونال من سمعته بعد مماته، وعلى أي فالبصائر والذخائر ومثالب الوزيرين أو (أخلاق الوزيرين) حسب الطبعات و(الإمتاع والمؤانسة) و(الصداقة والصديق) و (البصائرو ....) و(الهوامل والشوامل) و(المقابسات ) و(الإشارات الإلهية) وغيرها، كلها شوامخ الفكر والأدب على تفاوت في أحجامها وموضوعاتها وما جمع فيها المؤلف من فكر وأدب، وعلم ولغة، وتصوف ودين مع ما يتخلل هذا كله من كلام غريب في مبناه ومعناه. الشكوى وأسلوبه لا يختلف سموا وصفاء وقوة ومتانة، وهو في كل ما سطره يشكو الناس ويشكو الزمان ويشكو القدر، وقد لا يسلم واحد من هؤلاء من غضبه وربما سوء تعابيره. الناشئة عن سوء ظنه، وكل هذا كان تعبيرا عن حالته النفسية التي بلغت الدرجة العليا في عنفها وقسوتها ضد الناس عندما أقبل على حرق كتبه وفي هذا يقول أحمد أمين رحمه الله في مقدمته لتحقيق كتاب الإمتاع والمؤانسة. اعتراف فأحرق في آخر آثامه كتبه وقال :«إني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم، ولعقد الرياسة بينهم، ولمد الجاه عندهم فحرمت ذلك كله: …ولقد اضطررت بينهم بعد العشرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء وإلى التكنيف الفاضح عند الخاصة والعامة والى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، والى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم » (ص د). قلق واضطراب إن هذه الفقرة على قصرها تصور ما كان عليه أبو حيان من قلق واضطراب وما دفعه إليه طموحه ومخالطته لأقوام لا يقدرون جاهه وعلمه، كما تصور نظرته إلى نفسه تجاه هؤلاء القوم حيث اضطر أن يصانع ويداهن لعله يظفر بالبغية، وينال الحظوة، ولعل شاعر العربية الأكبر المتنبي كان نهجه على نهج أبي حيان مع اختلاف في الشخصية والتكوين والتعبير وأبو حيان لم يكن يخفى حاله على الناس إذ كان يفتتح كتبه بالشكوى والتذمر ووصف الحال ولعل ما ورد في فاتحة كتاب رسالة "الصداقة والصديق" يغني عن اللجوء إلى غيره من بقية كتبه إذ جاء في هذه الفاتحة وصف حاله وتبرمه من هذه الحال ومن كان سببا فيها وقبل الوصول إلى هذا الوصف نقرأ الفقرة التالية وهي تفند كل ما قيل حول تنطعه وفساد عقيدته إذ العقيدة تبنى على الظاهر والسرائر تبقى ليوم تبلى فيه السرائر يقول: تضرع في إيمان اللهم خذ بأيدينا فقد عثرنا، واستر علينا فقد أعورنا، وارزقنا الألفة التي بها تصلح القلوب وتنقى الجيوب، حتى نتعايش في هذه الدار مصطلحين على الخير، مؤثرين للتقوى، عاملين شرائط الدين، آخذين بأطراف المروءة أنفين من ملابسة ما يقدح في ذات البين، متزودين للعاقبة التي لا بد من الشخوص إليها ولا محيد عن الإطلاع عليها، انك توتي من تشاء ما تشاء (ص1) هذا الصفاء في التوجه إلى الملكوت الأعلى لدى أبي حيان لا يلبث ان ينقلب إلى شكوى فيقول بعد ذلك وهو يصف أنواع الأصدقاء والصداقات وما يؤثر في قدرته على مزيد من التحليل، ويتبرم بحاله من الناس، وكيف يعيش وحدة وغربة وهو حتى بين الناس أثناء الصلاة، لأنه يجد نفسه بين أقوام ليسوا من المستوى الذي يريد أن يجد نفسه حوله وبجانبه ولعل من المفيد أن نقرأ معه هذا النص الذي يصور حاله نفسيا واجتماعيا يقول أبو حيان: لو نفس الزمان قليلا لكنا ننشط لشرحها، الأديب والفاقة وذكر ما قد أتى النسيان عليه، وعفى أثره الإهمال، وشغل عنه طلب القوت، ومن أين يظفر بالغذاء، وإن كان عاجزا عن الحاجة، وبالعشاء وإن كان قاصرا عن الكفاية، وكيف يحتال في حصول طرين للستر لا للتجمل، وكيف يهرب من الشر المقبل، وكيف يهرول وراء الخير المدبر، وكيف يستعان بمن لا يعين، ويشتكى إلى غير رحيم، ولكن حال الجريض دون القريض، ومن العجب والبديع أنا كتبنا هذه الحروف على ما في النفس من الحرق، والأسف، والحسرة، والغيظ، والكمد، والومد، وكأني بغيرك إذا قرأها تقبضت نفسه عنها، وأحرس نقده عليها، وأنكر علي التطويل والتهويل بها. التبرير وكأني بأبي حيان قد احس انه أكثر من الشكوى والتبرم من نفسه وحاله من الناس فيبرر هذا بقوله: وإنما أشرت بهذا إلى غيرك لأنك تبسط من العذر مالا يجود به سواك، وذاك لعلمك بحالي، وإطلاعك على دخلتي، واستمراري على هذا الانفاض والعوز اللذين قد نقضا قوتي، ونكثا مرتي، وأفسد حياتي، وقرناني بالأسى، وحجباني عن الأسى، لأني فقدت كل مؤنس، وصاحب، ومرفق، ومشفق، والله لربما صليت في الجامع فلا أرى إلى جنبي من يصلي معي، فإن اتفق فبقال أو عصار، أو نداف، أو قصاب، ومن إذا وقف إلى جانبي اسدرني بصنانه، وأسكرني بنتنه. الغريب فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنسا بالوحشة، قانعا بالوحدة، معتادا للصمت، مجتنفا على الحيرة، محتملا الأذى، يائسا من جميع من ترى، متوقعا لما لابد من حلوله، فشمس العمر على شفا، وماء الحياة إلى نضوب،ونجم العيش إلى أفول، وظل التلبث إلى قلوص. وأبو حيان يكاد يكون أمر الشكوى من الناس ومن الزمان ملازما له يترده في مداخل كتبه وفي ثناياها وذلك لإشعار الناس الذين يتوجه إليهم بالخطاب بأنه لا يجد مكانة بينهم. إذ جاء في (المقابسة) 91 ما يلي: أبواب الخير منسدة واستيقن أني نقلت هذا الكتاب والدنيا في عيني مسودة، وأبواب الخير دوني منسدة، لثقل المؤنة، وقلة المعونة، وفقد المؤنس، وعثار القدم بعد القدم، وانتشار الحال بعد الحال، هذا مع ضعف الركن، واشتعال الشيب، وخمود النار، وسوء الجزع، وأفول شمس الحياة، وسقوط نجم العمر، وقلة حصول الزاد، وقرب يوم الرحيل، وإلى الله التوجه، وعليه التوكل، وبع المستعان، ولا موقف غيره، ولا ناعش سواه. وبالجملة أسألك، بالملح الذي يتقاسم به الفتيان ظرفا، ان تعذر في تقصير تعثر عليه، فوالله ما شرعت في تخير هذا الكلام، وإيراد هذه الوجوه، إلا شغفا بالعلم، لا ثقة ببلوغ الغاية. وأنت أولى من عذر، كما أني أحق من اعتذر. وهذا كله جرى في مجالس مختلفة من مشايخ الوقت، بمدينة السلام». ولم ير مسكويه رأي أبي حيان وقدم له نصائح في بداية أجوبته في كتاب الهوامل والشوامل فقال: شكوى إلى شاك «قرأت مسائلك التي سألتني أجوبتها في رسالتك التي بدأت بها فشكوت فيها الزمان، واستبطأت بها الإخوان، فوجدتك تشكو الداء القديم والمرض العقيم، فانظر حفظك الله إلى كثرة الباكين حولك وتأس، أو إلى الصابرين معك وتسل، فلعمر أبيك إنما تشكو إلى شاك، وتبكي على باك، ففي كل حلق شجي وفي كل عين قذي، وكل أحد يلتمس من أخيه مالا يجده أبدا عنده ولو كان حد الصديق ما رسمه الحكماء حين قالوا: صديقك آخر هو أنت إلا أنه غيرك بالشخص –فهيهات منه، إني لأظن الأبلق العقوق، والعنقاء المغرب، والكبريت الأحمر، أيسر مطلبا، وأقرب وجودا منه. نعم الأدب وبعد، فإني أري لك إذا أحببت معايشة الناس ومخالطتهم، وآثرت لذة العمر وطيب الحياة، أن تسامح أخاك، وتغالط فيه نفسك، حتى تغضى له عن كل حق لك، وترى له عليك ما لا يراه لنفسه، وأن تأخذ بأدب بشار فإنه نعم الأدب، وموعظة النابغة فنعمت الموعظة، ولا تعود عشيرك، وجليسك استماع شكواك فيأس به، ثم لا يشكيك، ولا تكثر عليه من العتب فيألفه ثم لا يعتبك. الزمان وأهله هذا إن لم يكن عنده لك أكثر مما عندك له، ولم تهجم منه على صدر محتش وغرا، وقلب ممتلئ دمنا، فإنك حينئذ تهيج بلا بله، وتثير ضغائنه وتذكره ما تناساه كرما أو تكرما، وطواه حلما أو تحلما، وهذا إن أنصفك فلم يتسرع إليك، وصدقك فلم يتكذب عليك، ومن عرف طبع الزمان وأهله، وشيمة الدهر وبنيه، لم يطمع في المحال، ولم يتعوض للممتنع، ولم ينتظر الصفو من معدن الكدر، ولم يطلب النعيم في دار المحنة. العودة إلى النفس وأنت إذا لم تجد من نفسك –وهي أخص الأشياء بك- مساعدة لك على رضاك، ولا من أخلاط بدنك –وهي أقرب الأمور إليك- موافقة لهواك، فكيف تلتمسها من غيرك، وتطلبها من سواك؟ استعذ بالله من الشيطان ووساوسه، ومن دنس الجهل وملابسه، واستعن بالله يعنك، واستكفه يكفك، ولا قوة إلا به. هذا مبلغ ما رأيت من وعظك، وحضرني من نصحك، وأرجو أن يوافق ما تخوينه لك، ورجوته فيك من القبول والامتثال إن شاء الله. هذه الصورة التي يرسمها أبو حيان لنفسه تغنى عن كل قول آخر، كان لابد من الإشارة إليه في هذه القراءة التي نريد أن نقوم بها في هذا الشهر المبارك لكتابه الإشارات الإلهية والتي بدأناها منذ ثماني سنوات والكتاب هو من الأدب الصوفي الرفيع، وكان من بين كتبه المفقودة ولم يتم العثور عليه كاملا، والذي قام بتحقيقه مع مقدمة طويلة من أربعين صفحة الدكتور عبد الرحمان بدوي عام 1950 وأعادت الدكتورة وداد الفاضي تحقيقه ونشره عام 1973م ونشرته "دار الثقافة" بيروت وفي مقدمة التحقيق تناولت المحققة القضايا الفنية العادية وهي أمور ليست مما يعنينا الآن، ولكن مع ذلك لابد من الإشارة إلى بذلته من جهد لتحقيق الكتاب والتثبت من نسبته لأبى حيان. أبو حيان والتصوف كما أشارت إلى مكانة أدب الإشارات في الإنتاج الصوفي وإشارات أبى حيان فقالت: كان أبو حيان ذا موقف واضح من تراث الصوفية الأدبي حتى عصره، إذ نراه يدافع عنه بقوله « لو جمع كلام أئمتهم وأعلامهم لزاد على عشرة آلاف ورقة ممن نقف عليه في هذه البقاع المتقاربة، سوى ما عند قوم آخرين لا نسمع بهم ولا يبلغنا خبرهم… منهم … الجنيد بن محمد الصوفي البغدادي العالم والحارث بن أسد المحاسبي ورويم وأبو سعيد الخراز وعمرو بن عثمان المكي وأبو يزيد البسطامي والفتح الموصلي». أسلوب وأسلوب والناظر في بعض ما وصلنا من كتابات هؤلاء الأعلام من المتصوفة يجد بونا شائعا بينهم وبين أبى حيان من حيث المنزلة الأدبية للمناجيات والأدعية والخطابات الصوفية. والأمر الذي لا شك فيه أن أبا حيانا تأثر بأساليب بعضهم ممن ذكرهم في الأساس، إذ تدل إشاراته على تشابه أسلوبي في بعض الأحيان بينه وبينهم. تعوذ والواقع أن التشابه في الأسلوب لا يعني تبني نفس الأفكار والتوجهات فأبو حيان ينأى بنفسه عن قضايا معينة من المقولات الصوفية مثل وحدة الوجود ولا يرى أنها سهلة الفهم والإحاطة، بل هو يوكل أمرها إلى من اختارها ويعوذ بالله من الوسواس الخناس « الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس.» الحواسر مهالك رويت لأبي سليمان يوما كلاما لبعض الصوفية، فلم يفكه له، ولم يهش عنده، وقال: لو قلت أنا في هذه الطريقة شيئا، لقلت: الحواس مهالك، والأوهام مسالك، والعقول ممالك. فمن خلص نفسه من المهالك قوي على المسالك، ومن قطع المسالك أشرف على الممالك، ومن أشرف على الممالك شرف بوصلة الملِك المالك. أحسن ما يسمع فقال له أبو الخطاب الكاتب: أيها الشيخ! هذا والله أحسن من كل ما يسمع منهم، فلو زدتنا منه. فقال: الحواس مضلة، والأوهام مزلة، والعقول مدلة. فمن اهتدى في الأول، وثبت في الثاني، أدرك في الثالث، ومن أدرك في الثالث فقد أفلح، ومن ضل في الأول، وزل في الثاني، وخاب في الثالث، فهو من الهمج. لكل أفق واستزاده مطهر الكاتب البغدادي، فاستعفى، وقال: هذا حديث قوم أباعيد منا، على بعض المشابهة لنا، وما قلناه كاف فيما قصدناه، وأن استتب خفت العثار، واستجلبت العار، ولكل قوم أفق يدورون عليه، ومركز يطمئنون إليه، وجو يتنفسون فيه، وفنن يقطفون منه. ولولا هذه اللطائف التي هي تعلة للنفوس الوافرة والناقصة، لكانت الصدور تفرج اسى، والعقول تتحير يأسا، والأرواح تزهق كمدا، والأكباد تتفتت ضمدا، فسبحان من له هذه القدرة في هذه الخليقة وهذه الأسرار في هذه الطريقة. بهذا القدر نكتفي في ذكر بعض ملامح من حياة أبي حيان لنلتقي في الحديث المقبل بحول الله مع الإشارات الإلهية. *أستاذ الفكر الإسلامي