النقابة الوطنية للصحافة المغربية أخطأت مجددا موعدها مع التاريخ وقد تحتاج إلى عقد مؤتمر استثنائي حتى تهدأ بعض النفوس من غشاوة نشوة "الفوز" وأخرى من مرارة طعم "الهزيمة" نبدأ قراءتنا في موضوع النقابة الوطنية للصحافة المغربية التي عقدت مؤتمرها التاسع مؤخرا بمدينة طنجة. ننطلق بداية من أن هذه النقابة ليست وقفا أو حجرا أو ملكا لأحد. ونعترف أنها تأسست من قبل رجالات كان لهم دور في ستينيات القرن الماضي، خاصة فيما يتعلق بمسألتي حرية الرأي والتعبير وحقوق النشر، في ظرفية التبست بالكثير من التعقيدات السياسية. وننطلق أيضا من أن حق النقد وقراءة أحداث وتحليل أبعادها، خاصة في قضايا تهم الشأن العام، حق مكفول للجميع دون أن يكون القصد منه الطعن في أي شخص له وجهة نظر وممارسة نقابية مبنية على أسس ومبادئ العمل النقابي، الذي لا علاقة له بالانتهازية بكل أشكالها. لذلك، بعد هذين النقطتين المنهجيتين نعطي لأنفسنا الحق في مناقشة وتحليل واقع هذه النقابة، ليس فقط انطلاقا من مؤتمرها الأخير بل منذ ما يقارب عقدين من الزمن، وعلى الأقل منذ مؤتمرها الوطني الخامس، الذي فك الارتباط مع غرفة الناشرين وكرس توجهها لفائدة الصحافيين المهنيين. المرحلة الانتقالية والخطأ الأول مع موعد التاريخ اعتبرت نتائج المؤتمر الوطني الخامس (2004) - الذي كرس موقع الزميل يونس مجاهد كاتبا عاما للنقابة، بعد أن صادق مجلسها الإداري على موقعه هذا خلفا الزميل الأستاذ العربي لمساري، الذي عين وزيرا في حكومة التناوب في 1998 – نتائج مرحلية وانتقالية لبناء نقابة للصحفيين المهنيين. وتمثلت مهمة المكتب التنفيذي للنقابة ، في هذه المرحلة الانتقالية، في العمل على تكريس بناء الإطارات التنظيمية للنقابة وفي التكوين النقابي وصياغة الملفات المطلبية للصحافيين والتفاوض بشأنها مع الجهات المعنية بالإضافة إلى النضال من أجل توسيع هامش الحريات داخل المؤسسات الإعلامية والمجتمع والمساهمة في التعديلات التي كانت معروضة آنذاك بشأن قانون الصحافة. فبقدر ما كانت هذه المرحلة، نهاية التسعينيات من القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة، مرحلة حماسية مؤطرة ببعض الكفاءات العالية من الصحافيين المناضلين سواء في المكتب التنفيذي أو المجلس الإداري، حيث انطلقت عملية إنشاء خلايا ولجن نقابية داخل مؤسسات إعلامية متنوعة مع صياغة مطالب قطاعية كانت في نفس الوقت مرحلة "تراخي" في البناء الذاتي لأجهزة النقابة وتطويرها وفي القوة التفاوضية مما حال دون تحقيق الحدود الدنيا لهذه المطالب في معظم المؤسسات الصحفية، وذلك مقابل الاهتمام بالعلاقات الخارجية وإعطاء صورة مغايرة لواقع وحال الصحفيين في البلد. كما أدى هذا التراخي إلى الفشل في انتزاع المكاسب المتعلق بالقضايا التشريعية للصحفي المهني وحماية وضعه المهني والاجتماعي وآفاقه المهنية داخل المؤسسات الإعلامية المختلفة. وقد كانت حصيلة هذه المرحلة الانتقالية هزيلة بالمقارنة مع الطموحات التي عقدها عليها المؤتمرون في المؤتمر الوطني الخامس، خاصة تضييعها فرصة لعب دور طلائعي خلال مرحلة التناوب التوافقي في الدفع بالسرعة القصوى من أجل ترسيخ قيم الديمقراطية في المغرب. وتكمن أسباب هذا الفشل - في اعتقادنا وحسب الممارسة اليومية والمتواضعة لقضايا هذا الاطار الاجتماعي النوعي - في المنهجية المؤطرة للمسألة التنظيمية التي ظلت تعتمد التوازنات الحزبية في توزيع المسؤوليات، خاصة في الأجهزة القيادة مقابل الفعالية النقابية التي كنا ننادي بها في كل محطة من المحطات الأساسية. وستبقى أسباب الفشل هذه قائمة ما لم تجد النقابة حلا لها. وأذكر في هذا الصدد أولى الحوارات التي درات بيني وبين الزميل يونس مجاهد في منتصف التسعينيات، حيث كان نائبا للكاتب العام لمساري، كان الحوار بسؤال حول منظوري للعمل النقابي بصفة عامة، فاستعرضت عليه تصوري القائم على أن "العمل النقابي عمل يتطلب التضحية من أجل التقدم، لكن إذا أغرق بالعمل الحزبي أو السياسي الضيق فإنه يتعرض للتخريب" وقدمت له مثالا على ذلك بنقابة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، التي نخرها العمل الحزبي ففقدت قوتها الإشعاعية والتأطيرية. وأوضحت له كذلك أن النقابة كيفما كانت طبيعتها فهي تشبه قنطرة تتعرض للكسر إذا تجاوزت حمولتها المحدودة بالإضافة إلى بعض الأدبيات المعروفة حول علاقة النقابي بالسياسي والاستقلالية بينها. وأضفت على مسامعه "أن التجربة أكدت أن كل فاشل في العمل الحزبي يسعى إلى إثبات ذاته عبر النقابات لممارسة الضغط من أجل تموقع أفضل داخل حزبه ونفس المسألة بالنسبة للحزب الذي يخلق لنفسه درعا نقابيا من أجل تموقع أفضل حيال الدولة وعلى حساب المنخرطين في النقابة". لم يبد مجاهد أي اعتراض على هذا الرأي الذي ربما قد يتفق عليه الجميع، بل كانت المشاطرة في المنظور. لقد كان عدم احترام هذا المعيار في مجال مسألة التنظيم أحد الأسباب الجوهرية في التردي الذي ستعرفه النقابة عشية مؤتمرها الوطني السادس بعد أن أخطأت موعدها مع التاريخ في المرحلة الانتقالية للمؤتمر الوطني الخامس. وكما مضت حكومة التناوب التوافقي مضت معها طموحات بعض أطر النقابة في تولي مهام راهنوا عليها مقابل تجميدهم للفعالية النقابية على المستوى العام. وإلا ما جدوى التوازنات الحزبية؟. مسألة الرئيس والخطأ الثاني مع موعد التاريخ كان المنظور ضبابيا في التهييئ للمؤتمر الوطني السادس مع وجود حالة عارمة من الاستياء خاصة من قبل الناشطين في النقابة. لكن الأمل وحده كان يغذي الاستمرارية. إنه فضلا عما سلف؛ فإنه من الأخطاء الأساسية في تقهقر الفعل الاجتماعي والديمقراطي للنقابة يتمثل في بعض الخطابات الضامرة أو العلنية المتعلقة بالدعوة إلى الاهتمام بالقضايا الكبرى أي؛ القوانين وحرية الرأي والتعبير وحضور الملتقيات الكبرى مع ممثلي الدولة والمؤتمرات العالمية في إفريقيا وآسيا وأوروبا وغيرها وعلى الرغم من أهميتها فقد كانت تتم على حساب القضايا "الصغرى" أي التنظيمية والإجرائية. وإنقاذا لهذا المنحى التراجعي ومن أجل الاستفادة من فرصة الأمل الماثلة أمام بعض أعضاء النقابة خاصة في فرع الدارالبيضاء تم إطلاق المناقشة عشية المؤتمر السادس حول الوضع المترهل للنقابة. وفي ضوء ذلك تم تكليفي شخصيا بإعداد تصور تنظمي للمرحلة المؤتمر السادس. وفعلا؛ صودق على هذا التصور في اجتماع حضره الكاتب العام للنقابة يونس مجاهد بالدارالبيضاء. ويقوم هذا التصور على البناء شبه الفدرالي للنقابة وعلى تحديد المسؤوليات بدقة أخذا بعين الاعتبار عاملين أساسين، الأول الاتساع الذي بدأ يعرفه المشهد الإعلامي المغربي مع تحرير القطاع. والثاني الفصل التنظيمي ما بين القضايا الكبرى والقضايا النقابية اليومية. وذلك على خلفية استدراك الأدوار الأساسية التي لم تتمكن النقابة من تحقيقها في فترة المؤتمر الخامس. وينبني هذا التصور على هيكلة القطاعات الصحفية الممثلة في النقابة ويكون لكل قطاع جهازه القيادي المنتخب، على قاعدة الفعل النقابي وليس الحزبي، ويشكل كل قطاع قطبا من أقطاب المجلس الوطني الفدرالي مع ضمان تمثيلية له في جهاز المكتب التنفيذي. ويتكفل كل قطاع من هذه القطاعات بقضاياه المهنية والاجتماعية والتفاوض واتخاذ القرارات الملائة بشأنها. وتعبر كل القطاعات الأخرى تضامنها مع بعضها البعض بدون شروط. وبناء عليه تم استخراج منصب رئيس النقابة الذي حددت مهامه في القضايا الكبرى خاصة منها حضور الملتقيات الرسمية وطنيا ودوليا وتوقيع الاتفاقيات الكبرى للنقابة والقطاعات وترؤس اجتماع المكتب التنفيذي والمجلس الوطني الفدرالي والتمثيلية القانونية والقضائية للنقابة والتنسيق في ما بين ممثلي القطاعات. أما المكتب التنفيذي فيتكون من نواب الرئيس كل واحد منهم يمثل قطاعا من القطاعات المنضوية في النقابة (السمعي البصري، الصحافة المكتوبة، الوكالة، الصحافة المعتمدة والإليكتروني...) ويتكفل نائب الرئيس المنتخب رفقة مكتب قطاعي بكل مسارات القطاع المعني به. أما منصب الكاتب العام فيتكلف بالشؤون الإدارية للنقابة وبتسيير مقراتها والإشراف على أرشيفها وباقي المهام تبقى عادية. وتم تحديد مدة الولاية في سنتين قابلة للتجديد مرة واحدة. غير أن قيادته النقابة لم تفعّل بعد المؤتمر الوطني السادس، سوى عنصرين من هذا التصور؛ الاحتفاظ بتسمية (الرئيس) وتسمية (المجلس الوطني الفدرالي) مع إفراغهما من المضمون المتفق عليه. وهكذا عادت النقابة للاشتغال بنفس المنظور المرتهن بالتوازنات السياسية التي ظلت تأكل جسد النقابة. وكأن حاملي الشعارات الحزبية لا همّ لهم سوى قضاء مصالحهم من النقابة أو تخريبها بشتى الوسائل، والكل يدري الواقع البئيس الذي عاشته النقابة خلال الفترة السابقة على مؤتمرها الأخير بما في ذلك زرع الأحقاد والضغائن، ومن المستبعد أن ينتهي هذا البؤس ما لم يفكر في مبادرة بديلة. مؤتمر طنجة والخطأ الثالث مع موعد التاريخ لم تنتهي تداعيات الحوار الذي دار بيني وبين مجاهد في منتصف التسعينيات القرن الماضي حول العلاقة بين الحزبي والنقابي. فالمؤتمر الوطني السابع للنقابة المنعقد 6و7 يونيو 2014 بطنجة أكد هذه العلاقة غير الشرعية والتي ستحكم على هذا الجهاز بالموت المحقق بسبب تعريضه مجددا للابتزاز السياسي. وكما كان يقول المصريون "كفاية". تسمية الرئيس التي وضعناها سابقا لحصر المهام وإعطاء فاعلية أكثر انضباطا للنقابة صارت شهية لدى آخرين. وكأن هذه التسمية التنظيمية نقابيا تحيل على رئاسة دولة أو شركة من الشركات المتعددة الجنسيات. "ما هكذا تورد الإبل يا عبد الله". فمع كامل التحفظات؛ فإنه منذ الوهلة الأولى لتلقينا خبر تنصيب الزميلين عبد الله البقالي رئيسا للنقابة ويونس مجاهد أمين عام للمجلس الوطني الفدرالي تأكد مرة أخرى هاوية التوازنات السياسية بشكل أوضح من خلال اقتباس منصبي الرئيس والأمين العام من التنظيمات الحزبية. وتجاوزا لما يمكن أن يقال من أن المؤتمر سيد نفسه، فإنه لا يمكن فهم هذا السلوك إلا من باب تقليل الاحترام لإطار النقابة. وسوف لا أتحدث عن مشاطرتي رأي بعض الزملاء الذين ينتقدون الازدواجية في تحمل المسؤولية بالنقابة. ماذا يضر هذين الإطارين الكبيرين في حزبيهما لو بقيا في المرحلة الحالية عضوين عاديين في النقابة ويعكفا على الإناطة بمسؤوليتهما الحزبية التي ينتظر منها، في هذه الظرفية مهام أكبر من الجبل في هذه البلاد. وأن يقدما الدعم اللازمة للنقابة من داخل الحزب وليس دعم المواقف الحزبية من داخل النقابة !. أليس من العيب اليوم وفي ظل الظروف والتحولات والمتغيرات التي يعرفها العالم كما يعرفها المغرب اليوم أن تبقى التصورات والقناعات - إذا وجدت - ضيقة إلى هذا الحد، حيث كل من ينتمي إلى حزب ما يريد مقعدا بالضرورة في قيادة النقابات وكأنها إرث شرعي له، وحتى بدون استحقاق، في وقت تعاني فيه الأحزاب من أمراض لا حصر لها، رغم محاولات الدولة للدفع بها وتأهيلها ،على الأقل لإنجاح التجربة الانتخابية القادمة، وهي تجربة تستدعي في أفق تفعيل الجهوية الموسعة أو المتقدمة تواجد أطر حزبية قوية ذات مصداقية للتمكن من التصرف في الصلاحيات التي ستخولها الجهوية للمجالس الحزبية المنتخبة. بمعنى ما العمل على تطوير الديمقراطية داخل المجتمع لا تقويضها من داخل النقابات إلى حد الاختناق. في هذا السياق ألا يضيع المتحزبون الطامحون إلى ممارسة السلطة فرصتهم في العمل على تطوير الديمقراطية في المغرب بدل توظيف هذا التطلع السلطوي في نخر النقابات ومنها النقابة الوطنية للصحافة المغربية التي لا تطمح ككل النقابات إلى ممارسة السلطة، بقدر طموحها لتحسين الأوضاع المادية والمعنوية لمنخرطيها. ولا يقصد من هذا إقصاء المتحزبين من النقابات لأن حق الانتماء أو التعاطف الحزبي أو الفكري حق تضمنه كل الدساتبر، إنما معايير المسؤولية النقابية لا يمكن أن تستند إلى الترضيات أو التوازنات الحزبية، بأي شكل من الأشكال. بديل في تاريخ لا يرحم سيكون من باب التفاهة الحديث في المغرب عن مسألة استقلالية الإطارات النقابية والاجتماعية، لسبب بسيط أن الاستقلالية مرتبطة بالديمقراطية وفي مجتمع لاديمقراطي لا يزال الاختلاف في الرأي أو تأسيس التيارات داخل التنظيمات يشكل بالنسبة إليه إزعاجا فضيعا وخطيئة كبرى قد تعرض صاحبها لأقصى العقوبات والتهميش والعزلة ونعثه بأقدح الأوصاف. فإنه من العبث فعلا أن يتحدث المرء عن الاستقلالية. لكن في مقابل إقرارنا بهذا المعطى فإنه الوقع لا يمانع في حق (الاستقلالية النسبية). ولنا كما للآخرين في هذا حق الاختيار بين مستويات الاستقلالية المتاحة؛ استقلالية نسبية أو تبعية نسبية، ليس المشكل في التسمية ما دام المجتمع بأكمله لا يوفر لنا فضاء ديمقراطيا لممارسة الاستقلالية الكاملة. وممارسة هذا الهامش من الحق في الاختيار، بما هو جزء من الحق في ممارسة الحرية، ليس نابعا من تفضيلات عاطفية أو اعتباطية يتحكم فيها انتماء حزبي أو غيره وإنما حق نابع من خلاصة تجربة عقدين من الزمن أبانت أن التطويع الحزبي للنقابة قد أخل بمواعدها مع التاريخ وحرم المجتمع من إحدى آليات تقدمه الديمقراطي من الناحية الإعلامية تحديدا، وذلك عبر اعتماد التوازنات الحزبية مقابل الفعالية النقابية. إنه وأمام تمادي المؤتمر الوطني السابع للنقابة في تكريس هذا المنحى القائم على التوازنات الحزبية لا يمكننا سوى أن نتوقع الانهيار التام لهذا الإطار الذي أسسته شخصيات وطنية وفشل الجيل اللاحق منذ المؤتمر الوطني الخامس في تحويله إلى نقابة للصحفيين المهنيين. وحتى لا تضيع كل الآمال فإن مسألة إنقاذ هذا الإطار لا تزال متاحة بالنظر إلى التغيرات التي شهدها المغرب في السنوات الأخيرة وتغير المعطيات العامة التي بنيت فيها النقابة الوطنية وظهور معطيات سياسية واجتماعية جديدة تعيد فتح الطريق مجددا للبناء انطلاقا من حرية الاختيار في التعاطي مع مسألة الاستقلالية النسبية. وكما يقول المثل المغربي الشهير "لي تلف يشد لارض". وإذا لم يكن بد من التبعية النسبية أو الاستقلالية النسبية في ظل غياب المناخ الديمقراطي وترهل حزبي واضح فإن انفتاح النقابة الوطنية على المحيط النقابي القائم فعلا يبقى الحل الأكثر اقترابا من العقل والواقع في الظروف الراهنة. إن مراجعة متأنية على هذا الشكل مع الابتعاد عن التجريح والنقد الهدام من شأنها أن توقظ في الفعاليات الصحفية سبل تلمس طريق لإعادة بناء هذا الإطار على قاعدة واقع أكثر ديمقراطية وأكثر صلابة، بما في ذلك الدعوة إلى عقد مؤتمر استثنائي . بدل مضي أصحابنا في البحث عن ردود نمطية جافة. *عضو سابق بالمجلس الوطني الفدرالي وبمكتب فرع الدارالبيضاء للنقابة الوطنية للصحافة المغربية