من كان يراهن من ذي قبل على أن الفافيلا تلك الأحياء العشوائية المترامية الأطراف في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، والتي كانت إلى أمد قريب مرتعا خصبا للمجرمين والخارجين عن القانون، ستتحول إلى فضاءات تنبض بالحياة ومرافق جذب سياحي بعد أن حل بها السلام. ولم تكن تلك بالمهمة السهلة فقد اختلفت مقاربات السلطات البرازيلية في معالجة واقع العنف والفقر والإجرام بالفافيلا، حيث لجأت إلى القوة والسلاح في محاربة عصابات المخدرات التي بسطت سطوتها منذ عقود على هذه الأحياء الصفيحية. ولم يكن بمقدور الشرطة حتى مجرد الاقتراب منهاº لأن الآمرين والناهين فيها هم بارونات المخدرات، الذين طالما انتشوا طربا حينما كانت أصوات الفتيات تصدح كل مساء في رقصات الصامبا تمجيدا لبطولاتهم في مواجهة أفراد الشرطة. صحيح أن لغة الحديد والنار التي نهجتها السلطات الأمنية في إطار برنامج طموح استعدادا لاحتضان البرازيل لمنافستين دوليتين هامتين كأس العالم لكرة القدم 2014، والألعاب الأولمبية 2016، قد أكسبت رجال الأمن الهيبة والاحترام، لكنها لم تكسبهم ثقة سكان الفافيلا الذين مازال البعض منهم ينظر إلى الشرطة بعين الريبة ويحملونها مسؤولية التخلي عنهم لسنوات عاشوها تحت رحمة المجرمين. البعض الآخر من سكان الفافيلا يخشى ألا تستمر الشرطة في تواجدها داخل هذه الأحياء بعد انتهاء المنافسات الرياضية لتعود العصابات إلى إحكام السيطرة على الفافيلا وترويع ساكنتها التي تتجاوز 100 ألف نسمة، غير أن السلطات المحلية تطمئن السكان بأنها لن تتخلى عنهم وستستمر في توفير الأمن والسلامة لهم وفق برنامج طويل الأمد. وإبرازا لحسن النية وكسب مزيد من الثقة، عملت الشرطة، رفقة جمعيات المجتمع المدني، على الانخراط في برامج اجتماعية لفائدة السكان حيث تم إنشاء قاعات رياضية ومراكز اجتماعية وخدماتية. واختار أفراد الشرطة أن يضعوا الزي الرسمي جانبا ليندمجوا وسط مجتمع الفافيلا، ويعلموا الشباب رياضات فنون الحرب والدفاع عن النفس كالكراطي والآيكيدو والتيكواندو، فيما تحولت الشرطيات إلى متخصصات في تقديم خدمات لنساء الفافيلا من خلال الإشراف على ورشات للتجميل والعناية بجمال المرأة . كل هذه الخطوات جعلت الأمن يفرض سيطرة شبه مطلقة على الفافيلا، مما وفر أجواء المرح واللعب بالنسبة للأطفال الذين كان الخوف من الاصابة برصاصة طائشة يجبرهم على عدم مغادرة البيت. وأصبحت مباريات كرة القدم مجالا للمنافسة وإبداء المهارات الفنية في أجواء رياضية، وهي التي كانت في السابق تنتهي بقتلى وجرحى بسبب النزاعات المختلفة بين أنصار كل فريق. وللوقوف على واقع الحال بالفافيلا لم يكن هناك بد من الصعود إلى "فيديغال"º وهي واحدة من هذه الأحياء العشوائية التي تطل على شاطئ بانيما الشهير، حيث تتواجد أفخم وأرقى الفنادق. ويتعين على الزائر أن يتسلح بكثير من الصبر، لأن الصعود يتم من خلال وسيلتي نقل أساسيتينº الدراجات النارية أو ما يطلق عليه "البيروا"، وهي حافلات صغيرة تتميز بالقدرة على مواجهة المرتفعات، وأيضا المرور عبر الأزقة الضيقة بكثير من العناء اعتاد عليه السائقون، فلا يتأفف أحدهم حتى وإن كان عليه أن يرجع إلى الوراء بضعة أمتار ليفسح الطريق لحافلة مماثلة قادمة من الاتجاه المعاكس. وما إن يصل المرء إلى قلب الفافيلا حتى ينتابه شعور بأنه ولج عالما غريبا. وتتشابك في ذهنه كل الأفكار المسبقة والأحكام الجاهزة التي ترسخت في مخيلته عن أكبر حي عشوائي في العالم، ليقول إنها لربما النهاية قد أوشكت.... لكن كل هذه المخاوف ستتبدد عندما تتوجه بالسؤال إلى من تصادفهم فيردون التحية بأفضل منها والابتسامة تعلو محياهم .. إنهم أناس بسطاء وطيبون للغايةº كما هو حال بياتريس دي بارديسي التي تقطن رفقة بناتها الثلاث بيتا متواضعا أبوابه مفتوحة طوال النهار بعد أن استثب الأمن بالمكان. لا تستغرب بياتريس وهي ترى جارتها تدخل مطبخها لتبحث عن الملح أو التوابل أو قليل من السكر، فهذا مشهد مألوف في الواقع اليومي داخل الفافيلا، أبواب مفتوحة للجميع وتضامن مطلق بين الجيران وترحيب بمختلف الزائرين. هكذا تسرد بياتريس، التي تنحدر من الأرجنتين، في بوح لوكالة المغرب العربي للأنباء، تفاصيل الحياة اليومية في الفافيلا البرازيلية. "علينا أن نتخلص من الأحكام الجاهزة التي نطلقها على الفافيلا دون أن نجرب العيش داخلها. أنا أعتبرها الآن أأمن مكان يمكن أن تعيش فيه بناتي"، تشدد وهي تدعونا إلى احتساء فنجان قهوة أعدته للتو. وبدورها، تقول اغوستينا (22 عاما) إنها التحقت مؤخرا للاستقرار بالفافيلا، وتنوي الإقامة بهذا المكان لوقت طويل، لأنه يمثل بالنسبة إليها قمة التواضع والبساطة والتآزر الانساني في أبهى صوره عز نظيره في مكان آخر غير الفافيلا. "ففي العمارات ذات الطوابق الشاهقة، قد لا يتبادل الجيران حتى مجرد التحية، أما نحن فكل السكان شبه عائلة واحدة ونحرص على التواصل الدائم". وفي رحلة استكشاف الفافيلا بريودي جانيرو، يتم التعرف أيضا على أفكار استطاع أصحابها أن يحولوها إلى مشاريع أخرجتهم من دائرة الفقر، ومكنتهم من كسب قوتهم دون أن يغادروا الفافيلا التي فيها ولدوا وفيها يرغبون في العيش. ومن بين هؤلاء هناك فابيانو الذي جعل من شرفة منزله منتوجا سياحيا مدرا لدخل محترم حيث يمنح الزوار الذين يرغبون في اكتشاف الفافيلا فرصة للتأمل في منظر المنازل المتلاصقة والمتراصة الواحد فوق الآخر والملونة بشتى الألوان، وبجمالية الفوضى في البناء. كما لا يتردد في منح السياح عصيرا من الفواكه الاستوائية مقابل بضعة دولارات يقول إنها مكنته من توفير المال لتأمين تمدرس أبنائه. قصة أخرى من قصص النجاح داخل الفافيلا بطلاها فيليبي وبالوما وهما زوجان يسهران على تسيير دار الضيافة "لادجي" التي تتموقع في قلب الفافيلا وتطل على زرقة الأطلسي. يقول فيليبي إن الفكرة انبثقت في البداية من مغامرة لتعريف الأجانب بالوجه الآخر للحياة داخل الفافيلاº باعتبارها أشهر أحياء الصفيح في العالم، أنشأنا موقعا إلكترونيا وبدأنا نستقبل الزوار من جميع البلدان، مضيفا أن الأوضاع تحسنت بشكل كبير وأصبح الآن بإمكان السياح القدوم لزيارتنا بكل أمان فلم يعد وجود لعصابات المخدرات ولا لأعمال التقتيل والترويع. ولتأكيد ما يقوله، يوضح فيليبي أن هذه المنشأة السياحية اختار لها أصحابها أن تشيد بجوار ساحة الاعدام التي كان تجار المخدرات يستخدمونها لتنفيذ عمليات القتل ضد منافسيهم أو أعدائهم في واضحة النهار، ويسترسل في حديثه لوكالة المغرب العربي للأنباء، قائلا .. " الآن كتبنا عبارة "باس" أي السلام على جدران هذه الساحة بألوان العلم البرازيلي نبتغي في ذلك التعايش والتضامن والامان". ثم يردف قائلا لا أخفيكم سرا أن فكرة إقامة دار للضيافة "استلهمتها من زيارتي لمراكش والصويرة وعدد آخر من المدن المغربية حيث تنتشر دور الضيافة، لاسيما بالمدن العتيقة فقلت لم لا يكون الشيء نفسه داخل الفافيلا وهو ما تم تحقيقه مع شركاء له أغرموا بالحياة بريو ديجانيرو. أما أوتاسيلي الذي تجاوز الستين عاما ومازال يحتفظ بفورة الشباب، فما إن رمقنا حتى فتح أبواب بيته ودعانا لتناول فنجان القهوة البرازيلية، ثم أطلق العنان لبرتغالية لازمتها اللفظية "غراساس آ ديوس" "الحمد لله" على ما أصبح عليه حال الفافيلا. "أنا أعيش هنا منذ أزيد من أربعين سنة...في السابق كانت الحياة أشبه بالجحيم كان هناك فقر شديد وتهميش وحرمان وبؤس وكان علينا أن نتدبر أمورنا رغم الصعوبات ورغم العنف والاجرام والقتل ...ثم قامت السلطات بخطوة إرسال "شرطة السلام" واصبحنا، ولله الحمد، نعيش في جو من الاطمئنان "النسبي" ونتوفر على كل المستلزمات الضرورية للحياة كالماء والكهرباء ومرافق اجتماعية وصحية". ثم يواصل بالقول .. "صحيح أن هناك حضورا مكثفا للشرطة بمناسبة المونديال لكن ذلك لا يمنع من حدوث مواجهات مع المجرمين، فمادامت الحياة قائمة إلا وستستمر لعبة شد الحبل بين الخير والشر"، ثم فجأة ينتقل إلى سرد قصته مع زوجته التي رحلت عنه إلى مكان آخر وعلم أنها اشترت سيارة، في وقت يمني هو النفس بعودتها إلى الفافيلا، فهي في نظره لن تستطيع سبيلا إلى أسعار البنزين المرتفعة. "الأكيد أنها ستعود يوما ما"، يقول واثقا، قبل أن يصدح أمام أنظار الجيران متغنيا بشعر برازيلي. الفافيلا هي أشهر الأحياء الصفيحية في العالم لكن جولة داخل متاهاتها تكشف أنها لا تحمل من الصفيح سوى الاسمº هي منازل من الاسمنت المسلح والآجور . يفخر أصحابها بعشوائيتها الخارجية وبسبل الراحة التي يجدونها بداخلها، لكنهم يشددون على أن الحياة بالفافيلا رهينة بتوفر شروط الحياة وأولها الحق في الحياة. *و.م.ع