ما إن سمعت تلويح نيكولا ساركوزي، بورقة إزالة الجنسية الفرنسية، حتى قفزت ذاكرتي إلى شجار جينيالوجي، صادفته وأنا أتابع مع بعض المعارف إحدى مباريات المنتخب الإيطالي، خلال مونديال كوريا الجنوبية – اليابان سنة 2002، وقد اندس بين الحضور إيطالية استقر بها الحال في مراكش لفترة ما، بعد أن عاشت لسنوات في كوبا كاسترو، كما فهمت بعد ذلك. أثناء المشاهدة ، بدأت هاته النابولية البوهيمية تفاخر أمامنا وبنوع من الكيدية، بإيطاليا ومنتخبها الكروي خاصة. لماذا؟ لأن كل لاعبيه تتجاوز وسامتهم وسامة نجوم السينما، مقارنة إياه بأعضاء الفريق الفرنسي الذي يتألف فقط من (( الملونين و الزنوج)). بعد أن أطلقت عبارتها الأخيرة، أخذت تتلوى من الضحك، لكن لسوء حظها، لم تكمل دورة ضحكها، حتى انبعث من بين تحلقنا شاب أسود بعضلات رياضية، اشتد به الغضب وهو يقذف أختنا المتيمة بأغلط الشتائم ويدعو من خلالها الإيطاليين إلى منازلة في ساحة الوغى. كادت الامور تتطور إلى ما لا تحمد عقباه، لولا تدخل بعض الحكماء، لا سيما و أن القذائف بدأت تمس ما تحت الحزام. ولا أعرف حتى اللحظة ، ما إن تعمدت الإيطالية اللعب على وتر الزنوجة لأغراض أخرى خفيت علينا آنذاك، غير قياس وسامة المنتخب الإيطالي.... لب الحكاية بالنسبة إلي، للمرة الأولى سأنتبه فعلا وباستغراب، كون جل تشكيلة المنتخب الفرنسي تنحدر من أصول إفريقية ، فلونها يفضحها. بماذا، سيفتي إذن سيدنا الشيخ ساركوزي الأصولي بخصوص وضع كهذا؟ ما هي النوازل الفقهية المتعلقة بتحديدات ((الفرنسي القح))؟ وماقوله، في الفوز بكأس العالم لسنة 1998؟ ما دام الفضل في إنجاز هذه المهمة العظيمة، يعود إلى موهبة القبايلي الكتوم زين الدين زيدان؟ ثم ماذا عن رمزآخر للفرنسيين اسمه " ميشيل بلاتيني" ؟ حينما نستحضرأصوله الإيطالية .... دخلت من باب الرياضة، طمعا في أن تتسع حواس ساركوزي للأخذ و الرد وهو اللاهث باستمرار، عسى أن تلتقطه عدسات الكاميرات أثناء ممارسته للجري كي يحافظ على قوام رياضي، مع ذلك نلاحظ من الوهلة الأولى، بأن جغرافية جسدة موزعة كيفما اتفق ودون تأنق، مما يزيل عنه السمة البيولوجية الباريسية المألوفة. كما الشأن مع جاك شيراك مثلا، بالتالي لا يمكنه التملص من موروثات أصله الجيني مهما فعل، طبعا، وقف السند الكولونيالي الذي ارتآه ساركوزي لنفسه، منذ أن أصبح وزيرا للداخلية، حين وصف سكان الضواحي بالحثالة أو استدعائه حاليا، لمرجعيات تكتسحها العتاقة و الخبل، وهو يداعب خيال الفرنسيين المرضى بالشفرة الوراثية ونقاء العرق...، و السيد سيد بالطبع، و العبد عبد بالقدر، إلخ .هكذا يحطم الرجل بسوقية سياسية ، وأسواق الانتخابات، كل التراث المعرفي الجليل الذي راكمه لقرون عديدة ، مفكرو فرنسا وفلاسفتها الكبار من ديكارت وصولا إلى ريجيس دوبري... فساركوزي ، بتبنيه لمفهوم ميتافيزيقي للهوية، غارق في تيولوجية أن الشيئ هو هو، يعود بالتاريخ شاء أم كره إلى ظلمة ما قبل مبادئ الثورة الفرنسية ، حيث العماء و الجهل و المشانق المنتصبة في كل مكان ، بناء على التأويلات البابوية . مثّل لي دائما ، ساركوزي بهفواته الإعلامية بل ومشيته وحركاته ، صورة طبق الأصل لسيئ الذكر دابليو بوش، ولا غرابة في الأمر، فقد عبر غير ما مرة عن ولائه العقائدي للإ ستراتيجية البوشية باعتبارها زبدة للنمط الأمريكي . لذا، لم يكن تغليطا أن تشير بعض التحاليل إلى وجود آثار اللوبي الصهيوني في تيسير وصول ساركوزي نحو الإليزيه، بحيث لم يخلف رحيل توني بلير فراغا كبيرا من أجل مواصلة تنفيذ السياسيات الأمريكية. امتتالية رئيس فرنسا الجديد، سيجعل صوت البيت الأبيض حاضرا بقوة قصد توجيه مصير المؤسسات الأوروبية حسب مخططات جهابذة الكونغريس ووكالة الاستخبارات الأمريكية. بوش، الذي أدار العالم بنفس هواجسه كراع للأبقار في التكساس، لم يكن لديه الوقت بل و لا الرغبة، كي يستوعب أكاديميا فنون تدبير الحكم ، ربما يخلق لديه حيزا للتمعن، أو يطلع على متون التاريخ فيجنب بلده بتذكر و تبصر التورط في مستنقعات العراق و أفغانيستان. سيبرر، سياسة الأرض المحروقة، بخطاب لاهوتي يستمد حقوقه من سلطات الرب، الذي يلهم بوش في صلواته كي يجثث فئة المارقين أينما تواجدوا. منذ صار ساركوزي صوت فرنسا الأول تميز فقط بتهوره و طيشه وسلوكه النزق. تذكرون على سبيل الذكر، كلماته النابية غير المبررة بتاتا في وجه أحد العمال رفض السلام عليه، أو حينما أهمل أبسط قواعد اللياقة الديبلوماسية مخاطبا المستشارة الألمانية :" هيه، أنجيلا !!" وقد عاتب عليه مجموعة من السياسيين الفرنسيين وقتها، توظيفه أسلوب لايليق قطعا برئيس دولة، حتى ولو كان القصد منه إظهار مدى حميمية العلاقة الألمانية الفرنسية. نموذج سياسي، يعكس حتما أزمة القيم التي انتهى إليها الفرنسيون و تراجع مستويات الوعي السياسي لكتلتهم الناخبة . صحيح، أن فرنسا النبوغ و العدالة و الحرية و التعدد كما دافعت عنها باستماتة أجيال سارتر وفوكو وألتوسير ودولوز وكامو وديريدا...، فرنسا الثقافة و الاختلاف و الثورة و التي أفرزت روافدها سياسيا مثقفا وكاريزميا على شاكلة فرانسوا ميتران، قد ولت إلى غير رجعة ، لأن ظروف العالم الحالية بآفاقها الجديدة، تختلف جذريا عن سياقات فرنسا 1968 وما بعدها. فالمواطن الفرنسي، أنهكته مدارات العولمة، وتحولت أقصى طموحاته إلى انتشال معاش قار من الدولة تم يولي وجهه صوب بلد إفريقي، حيث يعيش هناك متسكعا هاربا من نظام سوسيواقتصادي لم يعد يعني له شيئا يذكر . إن رعونة وفجاجة آراء ساركوزي، وبين ثناياها مواقف الهروب إلى الأمام حيال المشاكل المجتمعية الكبرى التي تستنزف فرنسا نتج عنها تراجع خدمات الدولة ، ومن تم انحدار شعبيته. بالتالي، بدا طبيعيا تبنيه خطابا شعبويا ، مفلسا ، سيضعه في نفس خانة المتطرفين الذي يهددون بإحراق فرنسا، وتعقب الفرنسيين أينما كانوا بالقتل ، لأنها " بلد كافر" ،يسند ، "اختيارات الكافرين". هو، الفيصل الهوياتي ذاته، حيث التمركز الذاتي مسلك للتقاة الناجين ، بينما الآخر مصدر و منبع كل الشرور و المساوئ. إذن ، فساركوزي وسواء لضعف سياسي وهو معطى قائم، أو لدواعي محض انتخابية باستمالته أصوات جان ماري لوبين وآلاف العاطلين الفرنسيين، يتلاعب بالنار ويضع فرنسا فوق برميل من البارود ، جراء وقود سلسلة ردود الفعل المضادة عند هذا الطرف أو ذاك. صحيح، يستحيل أن نتصور ولو افتراضا، سقوط فرنسا ذات صبيحة في توتاليتارية حاكم، يفعل ما يحلو له، كما قد يؤشر على ذلك هذا المنحى غير الآبه كليا بالقوانين و المؤسسات و السلط المدنية و القضائية، ما دام الرئيس بدأ يتدخل في عملها و يملي عليها نوعية الإجراءات الواجب اتخاذها . أفق في غاية الخطورة ، يصيب مقتلا حضارة فرنسا. أما، إذا جاريناه على هواه واخترقنا القانون بأثر رجعي، فلم يعد يملك ساركوزي بالتأكيد غير حزم حقائبه و العودة إلى بلده الأصلي هنغاريا لأن " دمه الفرنسي" بعيد كل البعد عن المعدل المطلوب لولوج "عالم الصفوة". [email protected]