بسم الله الرحمن الرحيم. انطلقت اللغة العربية بالخيل والليل والبيداء والليث والجمل والقفار؛ ثم سما الخيال بأهلها فخاطبوا بها الأنجم وسايروا بها الكواكب وسامروها؛ فأبدعوا الدقة والفن والتوصير بمفردات العربية ونحتوا بها أجمل الصور؛ حتى وسموا بأهل السحر والبيان، وبلغ الأمر بأهل الذوق مبلغ العشق والافتتان. واتسعت العربية-وما زالت- حتى وسعت كل ما يمكن أن يخطر على بال؛ وما ضاقت يوما في الكشف عن معنى أو عيت عن بيان؛ وصار بها العربي من فيافيه إلى وصف جوزائه. وامتد بساط العربية بانتشار الإسلام؛ وتداول العرب والعجم مفرداتها بجديد العلم والابتكار؛ حتى غدت العربية هي أداة التواصل والتخاطب والتفاهم مع الآخر؛ وبها دونت المعارف والعلوم والفنون في أوج الإشعاع الحضاري لأمة الإسلام، وحظيت بعناية واهتمام كبير حتى من غير أهلها كاليونان والفرس والرومان؛ فكانت العربية لغة الفلك والهندسة والرياضيات والمنطق والصناعة والاقتصاد. ولما كانت أمة الإسلام هي الرائدة في العلوم والمعارف كانت لغتها كذلك؛ فلما انحرفت عن دينها وآل حالها إلى ما آل إليه من تقهقر وانحطاط؛ أثر ذلك على لسان الأمة ولغتها؛ لعجز العرب وضعفهم وتهاونهم في الاستمساك بدينهم؛ فنتج عن ذلك: التفريط في لغتهم. فضعف الاهتمام بالعربية كما ضعفت العناية والاهتمام بمقومات الحضارة ومكوناتها؛ فلما آلت القوة إلى الغربيين فرضوا لغتهم بما وصلوا إليه من علوم ومعارف؛ فأضحت لغاتهم ذات أهمية لاقترانها بالاكتشافات والمخترعات العلمية؛ ثم آلت بعد ذلك إلى أن صارت لغة الدراسة والتواصل؛ وهمشت العربية؛ لتقهقر أهلها وعجزهم عن مواصلة ما خلفه السلف للخلف؛ فترتب عن ذلك: الانبهار بالوافد من جديد العلوم والتقنيات؛ مع انبهار بلغة تلك العلوم والنظر إليها وكأنها سر ذلك التقدم؛ لعجز العرب عن الإبداع والاكتشاف؛ فصارت اللغات الأجنبية لغة الاختراعات والاكتشافات؛ ومكث العرب يسستهلكون الوافد بمصطلحاته ومفرداته إلى أن هيمنت تلك اللغات على مختلف مناحي الحياة؛ ولم يكتف العرب بإهمال لغتهم فحسب؛ بل ساندوا العدو في الحط من شأنها، والتقليل من فائدتها؛ ودعوى عدم مسايرتها للمستجدات والحوادث من شؤون الحياة؛ بينما الحقيقة التي يقر بها أهل العربية وغيرهم من المهتمين بها وغيرها من اللغات: أن اللغة العربية تتصدر كل اللغات العالمية؛ من حيث ثراء المفردات، ووفرة المصطلحات وتنوع الصيغ والدلالات، وقابليتها للتجدد والنماء، ووفائها بمتطلبات العلم والمعرفة من المخترعات والمكتشفات؛ فضلا عن باقي الخصائص والمميزات. ولله در شاعر النيل يوم قال: رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي *** وناديت قومي فاحتسبت حياتي رموني بعقم في الشباب وليتني *** عقمت فلم أجزع لقول عداتي ولدت ولما لم أجد لعرائسي *** رجالا وأكفاء وأدت بناتي وسعت كتاب الله لفظا وغاية *** وما ضقت عن آي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة **** وتنسيق أسماء لمخترعات فالعربية كما حوت في الغابر قدرا هائلا من مصطلحات العلم والمعرفة؛ -يوم كان أهلها مبدعون- قادرة هي اليوم أيضا على احتمال كل جديد المعارف والفنون؛ مما تعجز أي لغة أخرى عن احتماله. وليس البأس في عجز العربية عن المسايرة؛ إنما البأس في عجز أهل العربية عن الاستعمال؛ واقتناعهم بالجاهز ببعض ما ظهر من مفرداتها التي لا تعدو أن تكون أسماء لمسميات ليس حتى من وضعنا. وبعض المسميات اليوم التي هي من منتوج عصور الإشعاع الحضاري للأمة دليل على سعة العربية، وحجة على القاعدين ممن قعد بهم العجز عن المواكبة. وقد صاحب كل هذا التقهقر لأبناء العربية كيد ومكر من الأعداء بالإسلام ولغته؛ فخرجت دعاوى من أدعياء يستمسكون بخيوط العنكبوت لرمي العربية بالعجز والقصور؛ وثني أهلها عن الاهتمام بها وتعلمها؛ وقد تولى كبر هاته الدعاوى أجانب سخروا لدعاويهم أدعياء من أبناء جلدتنا ممن تغربوا ويمموا وجههم شطر المصالح؛ حاملين معاول هدم الوافدين المخربين لدين الأمة وأخلاقها ولغتها، واتخذت دعواتهم صورا وأشكالا متباينة وتحت غطاآت متعددة؛ تارة بالتلويح وأحيانا بالتصريح. ومهما تعددت الأساليب؛ فالهدف: إبعاد الأمة عن دينها؛ إذ اللغة مرتبطة بالدين ارتباطا وثيقا لا تنفك عنه؛ فمن أحب القرآن أحب العربية، ومن أحب النبي العربي أحب لغته؛ ومن أحب هذا الدين أحب لغته؛ والعكس بالعكس تماما بتمام. وقد اتخذ العدو وعملاؤه أساليب لطمس العربية وآثارها من حياة المسلمين. والدعوة إلى العامية مهمى تزيى أصحابها؛ فإنها دعوى يبقى الغرض منها إبعاد الأمة عن عربيتها؛ وشغلها بأي لغة تلهيهم عن لغة قرآنهم التي تقربهم لدين ربهم. ويزعم هؤلاء فما يزعمون: أن العامية عامل وحدة!. والحقيقة: أنها سبب فرقة؛ والعربية هي التي تجمع وتوثق ليس بين أبناء البلد الواحد فحسب؛ بل بين بلدان الإسلام كلها؛ فهاته العامية التي يزعمون أنها توحد؛ أين يتجلى هذا التوحيد الذي يدعون؟. فداخل البلد الواحد تختلف العامية من جهة إلى أخرى بل وأحيانا من قبيلة إلى أخرى؛ ففي المغرب مثلا عامية أهل الجنوب ليست هي عامية أهل الشمال؛ بل وأهل الشمال أنفسهم تختلف عاميتهم من مدينة وقبيلة إلى أخرى؛ فحتى لو فرضنا قبول الدعوة إلى العامية؛ فأي عامية سنتخذ؟ أعامية أهل الجنوب أم أهل الشام؟ وأيهما سيتنازل عن عاميته؛ لاستخدام عامية الآخر؟!. فلا يبقى إلا الرجوع للأصل الذي لا يتنازع عليه اثنان؛ وهي: لغة القرآن الموحدة الجامعة بين أهل الشام والجنوب وأهل ملة الإسلام. وممن تولى كبر الدعوة إلى العامية من الأجانب-ولهم عملاء في مختلف البلدان- الألماني "ولهلم سبيتا" سنة 1880م وكان متخصصا في اللغات الشرقية، ومن أشد الناس بغضا للغة العربية، وأمضى جزءا كبيرا من عمره في مصر للنيل من العربية والدعوة إلى العامية؛ ولم يكن بدعا في دعوته؛ بل سبقه آخرون؛ لكنه كان أكثر حنكة منهم. وتوالت بعد ذلك الدعوات إلى العامية وسخرت لذلك وسائل مادية وبشرية لطمسها؛ في مختلف البلدان الإسلامية في الشام والمغرب العربي وبلدان الخليج وسائر الأقطار الأخرى. وفي المغرب العربي-على سبيل المثال-بذل الفرنسيون ما في وسعهم؛ لفرنسة المجتمع ولما عجزوا عن تحقيق كل ذلك؛ أثاروا حمية البربرية وأنشأوا لها قواعد، ونظروا لها لا لسواد عيون البربر؛ بل لطمس العربية وإبعاد الشعوب المسلمة عن كل ما هو عربي بدءا بالقرآن ثم بالخاتم النبي. ولا تزال المحاولات مستمرة إلى اليوم؛ يتسنحون أي فرصة لترويج افتراآتهم ضد العربية وأهلها. ومن أساليبهم ووسائللهم في ذلك: 1- زعم بعض أبناء جلدتنا-من المطبلين للدعاوى الغربية- أن اللغات الأجنبية هي لغة العلم والمعرفة اليوم؛ والعربية لم تعد مسايرة للمستجدات من التقنيات والحوادث وهذا "عذر أقبح من ذنب"؛ فإن الواجب علينا في مثل هذا الحال لا أن نتخلى عن بعض ما بقي من تراثنا؛ بل أن نبدع ونبتكر ونستعمل لغتنا فيما ابتكرناه وأبدعناه ونلزم بها الغير كما يلزمنا هو بلغته؛ بمختلف الصور والأشكال. 2-إضعاف الشعور بأهمية الانتماء لأمة الإسلام ولغة القرآن. واحتقار الإنسان المسلم والعربي والتقليل من قدراته؛ وذلك يؤدي حتما إلى احتقار لغته، وسائر خصائصه ومميزاته. 3- الكتابة بغير العربية في البلدان العربية والإسلامية واتخاذها لغة الإعلام؛ كما هو الحال في المغرب على سبيل المثال؛ فما علاقتنا بالفرنسية حتى تصير هي لغة بعض صحفنا وكثير من فقرات إعلامنا المرئي والمسموع؟. 4- ونزع البعض إلى العامية؛ تحت ذريعة الإفهام؛ وهاته مغالطة كبرى؛ والحقيقة أن الخطاب بالعامة يؤدي إلى انغلاق الشعوب عن بعضها في مختلف المناحي؛ ففي الإعلام مثلا؛ لو أن كل بلد خاطب بعاميته؛ فإن تلك اللغة لن يفهمها إلا أهل ذلك البلد؛ فالخليجي يصعب عليه أن يفهم دارجة المغربي؛ ويجد عنتا شديدا في فهمها؛ بخلاف ما إذا كان الخطاب بالعربية؛ فإن الجميع يعي الخطاب ويفهم مراميه؛ على اختلاف مستوياتهم، ومن عرف حقيقة الداعين إلى ذلك ووقف على توجهاتهم تبين له الجهات التي يخدمونها؛ وأنواع الجلود التي يختبئون فيها، ولا يستحيون في تغيير جلودهم من آن لآخر متى رأوا المصلحة الشخصية تقتضي ذلك. وهدف هاته الدعاوي النيل من الإسلام والمسلمين؛ وتشتيت ما بقي من شملهم؛ بإضعاف كل أواصر الوحدة والروابط المشتركة، وقطع الطريق على اللغة العربية التي أخذت اليوم في الانتشار وخرجت أصوات من بلدان غربية تطالب بتدريس العربية لأبنائها في المدارس الأجنبية؛ وذلك أضعف الإيمان أن تعتمد لغتنا في بلدانهم ؛ كما هي لغتهم ببلداننا. وإن العربية التي وسعت الحضارة الإسلامية في أيام إشعاعها لهي اليوم قادرة على استيعاب كل ما يستجد من ألوانها بمختلف أسمائها إلى أن تنتهي الاكتشافات ولن ينضب بحر العربية ولن تنتهي أسماؤها. زرقت - ترجيست – المغرب [email protected]