استنكرت مجموعة من الجمعيات المغربية بالمهجر (هولندا، بلجيكا، فرنسا) ما أقدم عليه مجلس الجالية قبل أيام من تنظيم لقاء بالرباط حول ما سماه"اللغات في الهجرة: التحولات والرهانات الجديدة"، وهو اللقاء الذي يوحي عنوانه بالرغبة في مناقشة قضايا اللغات بالمهجر ووضعية كل لغة وما يتطلبه النهوض والإهتمام باللغات الوطنية لدى المهاجرين، وذلك في إطار فكر وأفق جديدين، وبطرح مختلف عما كان يروج قبل عقود بالمغرب، أيام كان التعريب المطلق إيديولوجيا قائمة على الميز الصريح ضدّ أمازيغ الداخل و الخارج، حيث أورد المجلس كلمة "اللغات" بالجمع في عنوان اللقاء. غير أنّ برنامج الندوة الذي تمّ توزيعه سرعان ما كشف عن أنّ المداخلات التي تمت برمجتها إنما تخصّ اللغة العربية الرسمية وأساليب تدريسها لأبناء الجالية، بينما تمّ خنق اثنين من الفاعلين الجمعويين الأمازيغيين من باب الضحك على أذقانهم في مائدة مستديرة في نهاية اللقاء، وقد عرفت الندوة الدولية المذكورة إلقاء 33 مداخلة حول اللغة العربية في مقابل 3 مداخلات حول الأمازيغية لم تؤخذ مطلقا بعين الإعتبار في الخلاصات التي انتهى إليها اللقاء، ولم يتمّ إيلاء أي اهتمام لما طرحته من قضايا تخصّ وضعية اللغة الأمازيغية في المهجر، وقد ظهر ذلك جليا في الكلمة الختامية التي أعلن فيها الوزير المنتدب المكلف بالجالية بأنّ الحكومة قد أعدت مخططا لتعليم اللغة العربية لأبناء الجالية بالمهجر، دون أية إشارة إلى الأمازيغية أو غيرها من اللغات المغربية الأخرى. وهذا معناه أنّ اللقاء قد عقد أصلا من أجل اللغة العربية لا غير، وأنّ ما قام به المنظمون من تعديل لعنوان الندوة ومن استدعاء لثلاثة متدخلين في موضوع الأمازيغية لم يكن أكثر من ذر للرماد في العيون، ليس فقط من أجل التحايل على أبناء الجالية الذين هم أمازيغ في معظمهم، بل ومن أجل الإلتفاف على القرار الرسمي الذي أعلن ضرورة "النهوض بالأمازيغية" في شتى المستويات والمجالات. وإذا كان الأسلوب التحايلي لمجلس الجالية معهودا لدينا في المغرب من طرف المسؤولين الذين تربوا في إطار سياسة الميز والعنصرية والإقصاء إلى حدود 2001، فإننا كنا نعتقد بأن هذا الأسلوب قد تمّ تجاوزه بعد الإعتراف النسبي بالأمازيغية في خطاب أجدير، وهو الخطاب الذي كانت له آثاره على المستوى المؤسساتي في التعليم والإعلام و الفضاء العمومي والمجالات السوسيوثقافية. تعاني الجالية المغربية اليوم من صعوبات على رأسها عسر الإندماج و صعوباته في البلدان المضيفة، بسبب الإيديولوجيا الدينية الوهابية التي أصبحت "الممثل الشرعي والوحيد" للمسلمين في الغرب، وهي الإيديولوجيا المسؤولة عن الصورة السلبية التي صارت للمسلمين في كل بلدان العالم، حيث عزلتهم عن ثقافات بلدانهم الأصلية، وعملت على تأطيرهم في بمفاهيم و رؤى لا يمكن أبدا أن تنسجم مع وضعياتهم في بلدان الغرب، وجعلتهم يعيشون مفارقة خانقة تتمثل في التمتع بمكاسب الحضارة الغربية من حقوق اجتماعية واقتصادية من جهة، ومعاداة أسسها القيمية والفكرية والاخلاقية التي تقوم عليها ولا يمكن أن تقوم بدونها من جهة أخرى. وهو ما جعل وضعية اللغة العربية في المهجر مخالفة تماما لوضعيتها داخل المغرب، ففي المهجر لا يوجد أي مجال يسمح باستعمال اللغة العربية الكلاسيكية ما عدا المجال الديني، ولأنّ هذا المجال ليس مؤسساتيا في أوروبا العلمانية فقد أصبح محتكرا من طرف الذين يمتلكون إمكانيات أكبر وهم أتباع التطرف الديني الوهابي، الذين يحظون بشبكات تمويل هامة من أموال البترودولار، وهذا ما يفسر كيف أنّ دروس اللغة العربية تعطى في الغالب مرفقة بجرعات هامة من الإيديولوجيا الدينية السلفية، ولهذا سبق ونبهنا الحكومة المغربية إلى خطورة فصل أغلبية أبناء الجالية المغربية عن ثقافتهم الأصلية التي هي الثقافة الأمازيغية التي تحمل قيم التسامح والنسبية والتنوع، والتي صقلت عبر القرون إسلام الوسطية المغربي، لأن من شأن هذا الفصل أن يجعل الجالية تقع بسهولة فريسة الدعاية الدينية الوافذة من الشرق مقترنة بالطابع السياسي وبإيديولوجيا حربية تصور الغرب رغم كل أفضاله على الجالية كعدو للإسلام، وتدفع بالمقيمين فيه من المسلمين في ظل أزمة هوية خانقة إلى أن يعيشوا معارك وحروبا عبثية من أجل إثبات الذات. إنّ استمرار مجلس الجالية في تكريس منظور متقادم عن تعليم اللغة العربية لأبناء المهجر يعدّ في الواقع تكريسا لهذا الواقع الذي يعرض أغلبية جاليتنا للخطر، فبسبب حضور دروس اللغة العربية والإستماع إلى بعض الدعاة بالمساجد، وقع الكثير من المغاربة المقيمين في الخارج فريسة التطرف، الذي هو في الواقع ما يتبقى لهم بعد أن يكونوا قد نسوا في النهاية النزر القليل مما تعلموه من اللغة العربية. وإذا كان بعضهم رغم ذلك يحافظ على بعض التوازنات مع محيطه رغم نزوعه السلفي، إلا أن الأجيال القادمة قد تكون أكثر راديكالية بسبب تزايد وسائل الإتصال والتواصل العابرة للقارات، مما يهدد مستقبل الجالية في البلدان الأوروبية. وتخبرنا بعض الإحصائيات بأنّ الدولة المغربية ظلت تنفق من أجل تعليم اللغة العربية الكلاسيكية لأبناء الجالية ما يزيد على 160 مليون درهم سنويا دون نتيجة، حيث يصعب كثيرا تعليم لغة ما ليس لها أي دور سواء داخل المؤسسات أو في المجتمع، إذ تتوزع الجالية المغربية بين استعمال لغات البلدان المضيفة واستعمال لغات الأم وخاصة الأمازيغية والدارجة، وقد أظهر هذا خطأ الفكرة القائلة إن تعليم اللغة العربية للجالية يدخل في باب ربطهم بهويتهم الأصلية، إذ يقول الواقع إنّ اللغة العربية هي أيضا لغة السعودية واليمن وغيرها من بلدان الشرق التي لا يمكن الخلط بينها وبين الوطن الأصلي للمغاربة، والأجدى هو تعليم إحدى لغات الأم الوطنية التي ينبغي أن نسند لها دور الربط بالهوية الأصلية وبالوطن باعتبارها خصوصية مغربية ذات صلة بخصوصية ثقافية و دينية مغربيتين، فإذا كانت اللغة العربية لا تنفصل عن مضامينها الدينية، فإنّ للغات الوطنية الأخرى دور نقل الثقافة الأصلية والتعريف بها وبمضامينها الإنسانية، مما سيسمح أيضا بأنسنة العقيدة نفسها واستيعابها في سياق حديث لا يتعارض مع أهداف الإندماج الإيجابي والديني في بلد الإستقبال. إن العديد من الآباء بالجالية المغربية يطالبون بتعليم اللغة العربية لأبنائهم لاعتبارات دينية يؤكدون عليها، فهم متشبثون بأن يظلّ أبناؤهم مسلمين، غير أنّ النتيجة دائما كما يشهد بذلك أبناء الجالية أنفسهم، هو أنّ ما يحدث هو استعمال اللغة كذريعة لتمرير إيديولوجيا دينية مسيّسة، وهي عملية تنتهي بفقدان اللغة والحفاظ على "الإسلام"، لكن في نسخته الأفغانية أو الباكستانية أوالسعودية، إذ يبدو الإسلام المغربي لدى الجالية في صورة إسلام "رسمي مخزني زائف"، لأن الذين يمثلونه يعتبرون ممثلين للسلطات المغربية، وهو ما يجعل الخصوصية المغربية في الدين أقل بريقا من الإسلام السياسي التحريضي والمعولم. إنّ لمطلب تعليم اللغة الأمازيغية لأبناء الجالية أكثر من برهان صائب: أولا لأنها لغة الأم الأصلية لأغلبية أبناء الجالية بمختلف البلدان الأوروبية والأمريكية، وإذا كان الحفاظ على الأصالة وروابط الإنتماء إلى الوطن الأم أمرا يشغل المسؤولين بالدولة المغربية، فإن الأمازيغية معنية بهذا الدور قبل اللغة العربية الكلاسيكية. ثانيا لأنّ من شأن تدريس الأمازيغية و استعمالها إدماج الجالية في مشاريع الدولة و جعلها تستوعب الأهداف و المنطلقات و الرهانات، عوض تركها على الهامش تحمل مشاريع الغير و تهتم بقضاياه. ثالثا لأنّ الدين الإسلامي الذي تتمّ إشاعته بالمهجر يقدم على طبق من البلاغة العربية التي تجهلها أغلبية الجالية، و لكنها رغم ذلك تكون بالغة التأثير لأنها تجعل المستمع يرضخ تحت سلطة من يمتلك البيان اللغوي و يتبع له بغض النظر عن مدى وجاهة ما يقول أو عكس ذلك. مما يجعل استعمال الامازيغية لتفسير الدين الإسلامي في إطار منظورأصيل منفتح على ما هو كوني و إنساني أمرا ضروريا و ملحا في الظروف الراهنة.