أثارني ذات مساء ماطر من شهر يناير المنصرم رد فعل صدر من شاب متذمر حينما طلب منه عنصر من الوقاية المدنية أن يعطيه يد الله لنقل شاب أصيب في حادثة سير من الأرض إلى السرير المتحرك لوضعه بعد ذلك في سيارة الإسعاف ، حيث قال له الشاب على مرأى ومسمع من عشرات المتحلقين حول موقع الحادثة الذي صدمت فيه سيارة خفيفة شابا متهورا كان يسير في اتجاه ممنوع وبسرعة جنونية على متن دراجته النارية : قل للدولة تجي تعطيك يد الله في هذا الكسيدة ، علاش ما توظفش الشباب العاطل لسد الخصاص في أجهزتها ومصالحها الحيوية التي تحتاج إلى المزيد من السواعد والموارد البشرية والطاقات الشابة ؟ وأضاف بنبرة احتجاجية : إيوى طلع السيد بوحدك دابا للابلانص ! كان هذا الموقف تصرفا متشنجا في الحقيقة ورد فعل تنقصه اللباقة والحس الإنساني ، إلا أنني رغم ذلك وجدت فيه شيئا من الصواب والتمست بعضا من العذر لهذا الشاب الغاضب من الحكومة ومن الدولة المغربية ، لأنني تساءلت أنا بدوري كيف تستسيغ قيادة الوقاية المدنية إرسال سيارة إسعاف إلى عين مكان حادثة سير بعنصرين فقط يقوم واحد منهما بتدوين البيانات الشخصية للسائقين ورسم بياني لمكان الاصطدام في انتظار وصول رجال الشرطة المتأخرين دائما عن الموعد لتحرير المحضر النهائي ، فيما يتكلف العنصر الآخر بنقل المصابين إلى سيارة الإسعاف بمساعدة المواطنين الذين لا دخل ولا شأن لهم في هذه العملية ، لأنهم لا يمتلكون الصلاحية والإذن القانوني للقيام بمثل هذه العمليات التي تتطلب المؤهل المهني والخبرة والمعرفة والإلمام الجيد بمبادئ الإسعافات الأولية والطرق السليمة لنقل المصابين والجرحى من مكان إلى مكان آخر. الدولة المغربية شطايرية مع راسها ، لا تريد توظيف الشباب العاطلين الحاملين لمختلف أنواع الشهادات الجامعية والمؤهلات العلمية والمهنية ، وتريد في المقابل من المواطنين أن يقدموا لها يد المساعدة في بعض المواقف التي تعجز فيها عن القيام بمهامها ومسؤولياتها . تريد من المواطنين أن يصرفوا على الحكومة وينفقوا من مالهم الخاص لشراء بعض الأدوات والحاجيات الضرورية التي عجزت الميزانيات المخصصة للقطاعات الحكومية غير المنتجة عن توفيرها بالقدر الكافي ، أو تم على الأصح لهف هذه الميزانيات وتحويل اتجاهاتها إلى الحسابات الشخصية وإلى مخازن الأدوية والأفرشة والمواد الغذائية والتجهيزات والمعدات في الطوابق تحت أرضية أسفل العمارات وفي دهاليز الفيلات الفخمة ، ليطلب بعد ذلك من المواطنين المساهمة وجمع التبرعات والهبات من أجل اقتناء جهاز سكانير لهذا المستشفى ، وجهاز دياليز لتصفية الدم لهذا المركز الصحي الاجتماعي ، ومكبر الصوت والسجادات وسخانات الماء لهذا المسجد ، والممسحات والطباشير وأوراق النسخ ومواد أخرى لهذه المؤسسة التعليمية أو لهذه المقاطعة الإدارية أو الباشوية ... لم تعد لهذه الدولة صراحة هيبة ولا دم ، لكن لديها في المقابل ما يكفي من القصدير والصفيح في وجهها لكي تطلب بلا حياء هي وموظفيها من المواطنين بحسن أو بسوء نية القيام بأمور هي من صميم اختصاصاتها وشغلهم . وأذكر في هذا الصدد أنني ذهبت ذات يوم قبل عام مضى إلى وكالة بريدية بالمدينة التي أسكن فيها من أجل الحصول على صندوق بريدي ، ولما تقدمت إلى الموظف المكلف بهذه العملية أخبرني بأن كل الصناديق محجوزة وبقي هناك فقط ثلاثة صناديق شاغرة لكن أقفالها غير صالحة ، وإذا أردت أن أستفيد من واحدة منها فيتعين علي أن أتوجه إلى أقرب صانع للمفاتيح والأقفال وأصطحبه معي إلى مقر الوكالة هو ومعداته التي يشتغل بها لكي يغير في عين المكان القفل للصندوق البريدي. في البداية ظننت أن صاحبنا موظف الوكالة البريدية يمزح معي ، ولكن لما تأملت في عينيه الخارجتين من مكانهما وملامح وجهه المصفح وجدته جادا فيما يقول ، فانتابني نوع من الحرج والخجل ، حشمت فبلاصتو والله العظيم ، وتساءلت مع نفسي مستغربا كيف يطلب موظف في وكالة حكومية تحقق مداخيل مهمة وأموالا طائلة من مواطن أن يتولى بنفسه إصلاح قفل صندوق البريد ، وتساءلت أين تذهب أموالنا التي ندفعها لمصلحة البريد مقابل أي خدمة أو معلومة نطلبها عن عملياتنا البنكية والبريدية كيفما كان نوعها ، حتى أنك إذا أردت أن تعرف رصيدك في حسابك البريدي يجب عليك أن تدفع فورا درهمين مع ورقة المعلومات التي يطلب منك أن تملأها بدقة وعناية ، واسألوا جنود القوات المسلحة الملكية وكل من يستعمل حساب السي سي بي عن هذا الاستغلال البشع وعن هذا الاستنزاف والابتزاز غير المشروع لجيوب المواطنين . تساءلت أين تذهب على الأقل هذه الأموال المستخلصة من هذه العمليات البسيطة إذا لم توجه لصيانة الأقفال وإصلاح الأعطاب التي تلحق بالتجهيزات ووسائل العمل اليومية داخل هذه الوكالات الحكومية والمرافق العمومية . سألت الموظف بعدما جاوزتني حالة الدهشة والاستغراب كم ستكلفني هذه العملية ، قال لي ماشي بزاف فقط ثلاثون درهما ، قلت له طيب ماشي مشكل سأقوم بهذه الحسنة ليس في سبيل الدولة أو لأجل سواد عيون الحكومة ، ولكن فقط لأنني في حاجة للحصول على رقم صندوق بريدي في ذلك اليوم الذي كان يوم جمعة . أتيت بالمعلم صانع المفاتيح ووقفت له عند رأسه وهو يقوم بهذا البريكول وكأنني أصلح عطبا طارئا في منزلي ، كان خاصني غير نجيب ليه القهوة والزيت والزبدة والزيتون والفروماج . وتبين لي من خلال الدردشة القصيرة التي أجريتها مع هذا الأخير وهو يغير الفرخة بأن له سابق معرفة بالمكان وأنه أصلح عددا من الأقفال الخاصة بالصناديق البريدية بهذه الوكالة دفع تكاليفها العديد من المواطنين قبلي . في حي آخر على بعد أميال قليلة من هذه الوكالة البريدية تقع مقاطعة يقصدها الناس لقضاء أغراضهم الإدارية ، وهناك شيء ما غير عادي في أروقة هذه المقاطعة . إذ يطلب من المواطنين الراغبين في الحصول على وثيقة ما التوجه نحو دكان قريب من المقاطعة يسيره سمسار في البيع والشراء والكراء وكتابة العقود من أجل شراء مطبوع الشهادة التي يريدون الحصول عليها ، ومعها مطبوع خاص بالبحث الأولي الذي يوقع عليه مقدم الحومة في نسختين ، وتقام هذه البيعة وشرية بأربعة دراهم أضف إليها ثمن التنابر والتدويرة التي باتت أمرا ضروريا إذا ما أراد المواطن المستعجل أن لا يضيع كثيرا من الوقت وهو ينتظر إنجاز الوثيقة المطلوبة . هذا نموذج آخر لمرفق حكومي لا يحترم الموظفون العاملون به المواطنين ، وقائد هذه المقاطعة الذي يمثل وزارة الداخلية لا يحرص على نسخ ما يكفي من مطبوعات شهادة الحياة وشهادة السكنى وبقية الوثائق الإدارية من ميزانية الدولة ، ويترك الأمر بيد المقدمين والشيوخ وضابط الحالة المدنية والمشرفين على تصحيح الإمضاءات يفعلون ما يشاؤون بالمواطنين ، ويعبثون بمصالحهم وأوقاتهم وأموالهم ، فيما يقضي سعادة القائد أوقات عمله خارج مكتبه متفقدا أحوال أشغال البناء العشوائي وأوراشه المفتوحة على مصراعيها ، ومتعقبا أصحاب الكراريص ومحتلي الشوارع العامة هو وثلة من الأعوان والمخازنية . ويا ليته يغادر مكتبه كل هذا الوقت ويعيد بهذه الخرجات والتنقلات الأمن والأمان والرونق والنظام إلى أحيائنا السكنية وشوارعنا التي تعرف ازدحاما وارتباكا في حركة المرور وفوضى عارمة يحدثها المترامون على الأرصفة والملك العمومي الذين يدفعون إتاوات وجزيات يومية وأسبوعية مقابل أن تغض السلطات المحلية الطرف عنهم . ومن يؤدي ثمن هذه الفوضى والمشاكل التي تنجم عنها دائما هم المواطنون طبعا ، حيث تندلع بينهم الخصومات والشجارات والمواجهات العنيفة الدامية ، والسبب الرئيسي هو أن السلطات العمومية لم تقم بواجبها على أكمل وجه ولم تحرص على خدمة الصالح العام كما يجب . بيني وبينكم بلد كهذا الذي نعيش فيه ، حيث يطلب فيه من المواطنين أن يشتروا من مالهم الخاص السيروم وحقنة البنج وخيط الجراحة والقفازات البلاستيكية للطبيب الجراح والممرضين المساعدين ، ومطبوع شهادة السكنى وقفل صندوق البريد وأشياء أخرى ، ويطلب منهم أن ينوبوا عن الحكومة في بعض المجالات ، وأن يمدوا يد المساعدة للدولة في إطفاء الحرائق ونقل الجرحى والمصابين في حوادث المرور والانهيارات ، وتطويق الفياضات بالأكياس الرملية ومطاردة اللصوص والمجرمين واقتيادهم بعد القبض عليهم إلى مخافر الشرطة .. بلد كهذا بهذا العجز وهذا الاتكال على المواطنين ، وبهذا الفشل في الاضطلاع بالمسؤوليات ، أليس حريا بدولته أن تعلن إفلاسها ، وبحكومته أن تجمع حقائبها وقشاوشها ومونيكاتها ، وتقدم استقالتها اليوم قبل الغد ، لأنها لم تستطع أن تحقق للمواطنين أبسط الأمور ، فبالأحرى أن توفر لهم الرخاء والرفاه والرقي والازدهار والكرامة وسبل العيش الكريم ؟ نعم ولكن ... ! [email protected]