شذرات من الجابرية في نقد الشعبوية لو كنت مكان الجابري لأحرقت كل كتبي قبل أن أرحل تيمنا بتراجيديا بن رشد ومحنة المثقفين في بلدان الجهل المعرفي المدقع، ولكن الجابري الذي عاش 75 عاما قضى أكثر من نصفها متحسرا على الأصداء التي تلاقيها كتبه وسط الدهماء و الغوغاء، كان يستمد طاقته و حبه لما يفعل من رضاه على ذاته وإحساسه المكين ، رغم تواضعه الجم، أنه على الأقل يؤتي عجبا فكريا لن يفهمه بنو قحطان إلا بعد مرور أزمنة غابرة بسرعة الظلام.. يوم الأربعاء الخامس ترتيبا على لائحة أرقام شهر مايو الحزين كنت أطالع ، وأهابط، الجرائد الوطنية بحثا عن كل ما له صلة بوفاة محمد عابد الجابري، و دون سابق إشعار أطل من خلف ظهري أحد المواطنين البسطاء برأسه الفارغة إلا من خزعبلات الشعبوية المقرفة على صفحتي المفرودة ( على كل الاحتمالات) وسألني بوقاحة تاريخية يحسد عليها : " الجابري..من هو هذا الجابري؟".. التفت إليه و الألم يعتصر خلاياي الرمادية الحزينة و قلت له بكل بساطة : " لا يهم، إنه مجرد رجل آخر وافته المنية"... ولكن الرجل، لما أحس بنبرة التهكم في صوتي أصر على الاستفسار قائلا بعتاب خفي: " مستحيل، لا بد أنه رجل مهم حتى يتم وضع خبر وفاته على الصفحة الأولى.. لعله كان وزيرا سابقا، أو شيئا من هذا القبيل.." فأجبته باقتضاب من يتحامل على نفسه لينتج الكلام : " أجل، يمكنك اعتباره ،شيئا من هذا القبيل"..ثم أشحت بوجهي إلى الجريدة كمن ينهي مهزلة ثقيلة مغرضة.. و لكني لم أعد قادرا على مواصلة القراءة لأن دماغي أصبح مشغولا بهذه الحقائق المرة.. فهذا رجل عظيم عظم التاريخ نفسه لا يعرفه معظم أهل بلده..فيالهذا الزمن الرديئ..بيد أن الألم و الشعور بالعار و الخزي ذهبا أدراج الدهشة بمجرد إلقائي لمحة سريعة على مختلف الصحف الوطنية الصادرة ذلك اليوم، إذ وجدت أن الحيز الذي خصصته بعض الصحف و في مقدمتها الصحيفة الشعبوية رقم واحد في المغرب التي لا يتوقف مديرها عن التنطع بأرقام مبيعاته.."صورة و تعليق من 30 كلمة في إحدى الصفحات الداخلية" لا غير..هذه هي أهمية الرجل العظيم عند تلك الصحيفة الفذة الغراء جدا..ساعتها فقط، فهمت أن خبر وفاة الرجل وحدث مواراته الثرى لا تنتميان إلى جنس الأخبار المهمة لأنها أخبار ثقيلة على بعض الأدمغة لايت التي تقرأ هذا النوع من المضبوعات ( من التضباع أعزكم الله).. و عليه فجنازة الرجل لا تستحق إلا صورة و تعليقا مختصرا، والسبب بسيط جدا ، فبعض قراء هذه الجريمة ( عفوا الجريدة) هم ممن على شاكلة ذلك الموطن البسيط جدا الذي سألني، سامحه الله طبعا، إن كان الجابري وزيرا سابقا،.. من كان يسمع بالجابري، فإن الجابري قد مات، ومن كان يقرأ كتبه فإن كتبه حية لا تموت.. و يكفيكم ما كتبه إلى الآن، لأن قراءته وفهمه ونقده يتطلب عقولا وأجيالا قادمة.. و حتى أعود لتلك الشعبوية المقرفة التي يكتبها البعض من أجل دغدغة المشاعر والإبقاء على حالة العهر المعرفي الذي يتخبط فيه الشعب فإني سأستعين بالجابري في إثبات حقيقة مهمة تقول أننا شعب متخلف عن ركب الحضارة مهما أزعجتنا هذه الحقيقة، و أننا شعب أمي معرفيا..ذلك أن الجرائد الشعبوية التي تفتخر بكونها واسعة الانتشار وبكونها مقروءة من قبل النخب من أساتذة و قضاة و مهندسين و محامين و هلم نصبا ، ( عفوا ، أقصد جرا) لا تعلم أن الكثير ممن يقرأونها و أن الكثير ممن ينتمون ظلما و عدوانا إلى النخبة القارئة هم بالفعل أميون معرفيا حتى لو لم يكونوا من المحسوبين على طبقة الأميين الأبجديين..بل أقول أن تصَدُّر جريدة شعبوية للمشهد الصحفي الوطني على مستوى المبيعات لهو دليل أزمة ثقافة مستفحلة في هذا البلد لأن آخر شيء يفترض أن يكونه المثقف هو أن يكون شعبويا و هاويا للكتابة الشعبوية و مواظبا على قراءتها.. وهذا بالذات هو السبب في عدم إيلاء الأهمية القصوى للخبر أثناء وقوعه و عدم معرفة الكثيرين ممن لا يستطيعون قراءة غير هذه الجريدة بالجابري، و اقتصار معرفة الآخرين به على السماع فقط، و أنا أتحدى أيا كان أن يتم فتح قائمة وطنية على شبكة الأنترنيت أو غيرها لمعرفة عدد الذين قرأوا كتب الجابري أو بعضها.. و لست مبالغا البتة إذ أربط بين الاطلاع على كتب الجابري أو مجرد معرفته و بين حجم و نوع الأزمة الثقافية و المعرفية التي يعيشها المغرب و التي يبقى الإقبال على قراءة الشعبوية هو واحد من أهم المؤشرات على وجودها إذ لا يمكن مثلا أن نتصور أن يكون الفرنسيون جاهلين برجل اسمه جون بول سارتر أو بآخر اسمه جون جاك روسو، و في القادم من السطور سأنبري لتوضيح الفكرة أكثر.. نفس أحد المتنطعين الشعبويين كتب قبل أسابيع في جريدته الغراء أن حاملي الشهادات العليا هم بالأساس وبالضرورة (المجني عليهما) مؤهلون لشغل المناصب التي يطالبون بها ، و أنهم مثقفون بالضرورة لأنهم حازوا شهادات من الورق المقوى تشهد على مستوياتهم الأكاديمية العليا، و الحقيقة، أن هذا الكلام هراء في هراء لأن الكثير من أصحاب الشواهد و المهن العليا هم أميون حتى النخاع.. ولا يغرن أحدا أن يكون الشخص المائت أمامه بكرافاطته و بذلته المُكَسْتَرَة مهندسا أو قاضيا أو أستاذا أو طبيبا، أو صحفيا لامعا، أو حتى وزيرا، ليعتقد تسليما في حقه أنه مثقف مارق عن مجتمع موبوء بالجهل المعرفي، ذلك أن الغالبية العظمى ممن يفكون الخط كتابة و و قراءة هم أميون معرفيون لأنهم يتوقفون عن القراءة و الكتابة بالفعل منذ اللحظة التي يتوظفون فيها، و إن قرأوا أو كتبوا، فهم يقتصرون على كل ما يمت إلى الشعبوية بصلة لأنهم أبناء بررة لمجتمع تقليداني لا زال يحتر مفاهيمه البالية منذ عصور الظلام التي أسدلت ستارها على العرب قبل 6 قرون من الآن... لا عجب أن نكون جاهلين باسم كبير كمحمد عابد الجابري لأن العقول التي ستتمكن من الارتقاء إلى المنزلة التي ستؤهلها لفهم ما يكتبه "زعيم العقل العربي هذا، تبقى عقولا معدودة بعدد الدموع التي ذرفت ترحما على الرجل.. و على الذين يعتقدون أنهم مثقفون لمجرد أنهم يواظبون على ابتياع جريدتهم الشعبوية كل يوم مخطئون تماما لأن بعض أشكال الصحافة لا تكتب إلا ما يدغدغ مشاعر هؤلاء المتثيقفين، و تجعلهم يعتقدون أن ما يقدم لهم من مواد صحفية هو عين المعرفة و منتهى العلم الموجود.. والغريب حقا أن يستنكف من يفاخر بأن عموده اليومي هو الأشد وقعا على الرؤوس عن كتابة حرف واحد عن الرجل و هو الذي يدعي الثقافة و التثاقف كل يوم، و لكن، إن عرف السبب بطل العجب، فهذا، و البعض من غيره، لم يكتبوا شيئا لأنهم بالفعل لا يعرفون عن الرجل شيئا، أو على الأقل لم يقرأوا له حرفا على الرغم من كونهم و لا شك قد سمعوا به من عل كجلمود عقل حطته الثقافة على طاولات نقاش المثقفين التي يدخلونها كقنافد روتردام الملساء... في كتاب الإسلام، الصين و الغرب، المنشور ضمن سلسلة عالم المعرفة، يناقش المؤلف قضية مهمة جدا تتناغم كثيرا مع ما كتبه الجابري في رباعية نقد العقل العربي، و تكمله...حيث يرى الكاتب أن السر في تخلف المسلمين يكمن في عدم مأسسة العلم.. حيث أن المعرفة التي كان يتداولها مثقفو عصور الازدهار خلال الفترة الذهبية للمسلمين لم تكن تصل إلى العمق الجماهيري الشعبي، و ظلت حكرا على طبقة النبلاء المعرفيين.. و كان تركيز المؤسسات الرسمية التعليمية القليلة ينصب على المعرفة الدينية كالفقه و علوم القرآن و الحديث فيما ظلت المعرفة العلمية الدنيوية متداولة في كتب المثقفين و صالوناتهم، وهي ذاتها المنابع التي لم يكن ينهل منها المواطن البسيط آنذاك، و هكذا يقول المؤلف أن قطيعة إبستمولوجية معرفية حدثت بين الشعب و المثقفين مما سمح في فترة من الفترات بفعل الإرادة السياسية للعباسيين بعودة الفكر الظلامي الذي يحرم كل شيء إلى السيطرة من جديد.. و تقويض كل ما فعله العلماء و المثقفون من قبل، لتسود عصور الانحطاط مرة أخرى... هذا العلم الذي لم يمؤسس جعل الثقافة الشعبوية هي المتحكم في عقول الناس... فالثقافة الشعبوية فرع أساسي من فروع الفكر العرفاني الذي قال الجابري أنه هو المسؤول عن الكسل العقلي، و العقلاني المنطقي، الذي يميز العقل العربي و طريقة اشتغاله، حيث أن الشعبوية في ذاتها هي ذلك الاعتماد المفرط على المقولات و الخلاصات الشعبية الشفهية كما يتداولها العامة و في مقدمتهم جداتنا العزيزات مثلا، و ترويجها على أساس أنها فكر من عمق الثراث و الخصوصية الثقافية و الهوية الحضارية، و هو الكلام الذي يبتلعه الدهماء و الغوغاء لأنه و بكل بساطة يوافق ما يتم الترويج له داخل العقول المتواضعة العرفانية على أساس أنه الحق.. العرفانية، والغنوصية، أو الهرمسية ثلاث مسميات يوردها الجابري في الجزء الثاني من رباعيته "بنية العقل العربي" و هي تلك الطريقة في التفكير التي تقول أن السبيل الوحيد لتحصيل المعرفة هو الوثوق بالمسلمات التي لا تخيب و لا ترد... و هذا ما جعلنا كعرب نؤمن بالقداسة و التراتبية ( و هي الفكرة التي يناقشها الجابري من زاوية الأخلاق، في إطار قوله بأن العرب عبيد للأخلاق الكسروية من كسرا حيث أن الاحترام و الطاعة مبينيان على التراتبية و الهرمية في السلطة سواء كانت سياسية أم دينية )... بعبارات أخرى فالجابري يقول لنا أن التفكير العرفاني المسيطر على طريقة عمل العقل العربي و غياب القدرة على الإبداع – بسبب التقليد- و سيطرة فكر التقديس و أخلاق الخضوع للتراتبية و الهرمية و هي الأسباب الضمنية العامة لوجودنا في قعر السلم الحضاري.. و شعوب كهذه لا تقرأ طبعا لأنها لا تبحث أبدا عن المعرفة العلمية البرهانية و لأنها ألفت تحصيل معرفتها عن طريق الأذن، أو ما يحل محلها من جرائد شعبوية تعوض الجدات و كلام أولياء الله و شيوخ الزوايا و جيراننا المسلين، و هلم بساطة و دروشة معرفية... وعليه فلا غرو أن يكون الشعبويون قد درسوا السوق جيدا و علموا أن الشعبوية هي الوصفة الأنجح للبيع أكثر خصوصا أمام موجة الحداثة الصاعدة من بعض ضروب وطن العهد الجديد..و هي الموجة التي من الطبيعي أن يتصدى لها الفكر العرفاني الشعبوي التقليداني، و التي وجد فيها رواد الشعبوية المغربية منبعا من الأموال لا يخيب ... و كل ما يفعلونه الآن هو تكريس أنماط الثقافة اللاعلمية في رؤوس شعب قرر أن يتوقف عن قراءة الكتب.. ولا غرو حقا بعد كل هذا أن يتجاهل منبر لا يتوقف عن التنطع بأرقام مبيعاته خبرا مهما جدا كوفاة رجل عظيم يدعى محمد عابد الجابري، ولا غرو أن يجهل بوجوده الكثير من أبناء هذا الشعب الفقير معرفيا... ليس علينا ابتداع مرصد أو جمعية أو منظمة ، أو ناد أو أي شيء محنط نضع فيه ذاكرة الرجل و نلغو حول آثارها و دموعنا المنهمرة على مسارها و مآلها..بل علينا أن نصمت قليلا، و نفكر كثيرا، كما كان يفعل الرجل.. و علينا أن نكمل مشروعه بالفعل و أن نحاول انتشال هذا الشعب المسكين من براثن الأمية المعرفية قبل الأمية الأبجدية.. و ختاما، أعاهد نفسي على العمل بصمت لأني، و هذا كلام أجلته إلى الآخر عن قصد، واحد ممن قلبت كتابات الجابري طريقة تفكيرهم رأسا على عقب، و واحد ممن تتلمذوا على يديه أديسطونس ( عن بعد)، و واحد ممن سيحملون جميل الرجل فوق عقولهم إلى أن تفنى هذه البسيطة المعقدة و من عليها، و واحد ممن عقدوا العزم على الفعل عوض القول "أننا على الدرب سائرون فألف رحمة و مغفرة عليك يا زعيم الفكر العربي... * كاتب مغربي