تأمل الفيلسوف الفرنسي ألان باديوAlain Badiou الفلسفة الفرنسية و قال عنها بأنها الفلسفة الأكثر غرابة من كل الفلسفات الوطنية الأخرى، غرابتها تتجلى في أنها موغلة في الكونية لكن حتى و هي موغلة في الكونية فهي جد محلية لدرجة أن ألان باديو بحث لها عن تعريفات دقيقة و لم يجد لها غير المفهوم الهيجيلي المعروف ب"الكونية المجسمة". إحدى المؤسسات الفكرية الفرنسية التي تضم في صفوفها فلاسفة و مفكرين بالإضافة إلى سياسيين، علماء، باحثين ورجال دين انتفضت و ثارت لما تم نعتها بالوطنية فقط، هذه المؤسسة هي مؤسسة مارك بلوك. مارك بلوك Marc Blochهو مؤرخ فرنسي و مقاوم ولد يوم 6 يوليوز 1886 و توفي برصاص النازيين يوم 16يونيو 1944. مؤسسة مارك بلوكMarc-Blochمؤسسة فتية نعتتها جريدة لوموند الفرنسية بأن أعضاءها هم جمهوريون-وطنيون فقط، وهذا النعت لوحده، حسب أعراف وقيم النظام التداولي الفرنسي بمثابة الرجع الإيديولوجي الذي يؤرخ لزمن حسمت فيه أمور عدة. انه نعت حامل لمتناقضات يتعارض بداخلها ما هو وطني بما هو كوني وهو نعت أكثر من مستفز. الأعضاء المؤسسون لهذه المؤسسة الفكرية يتجاوز المأة، بالتحديد مأة وثمانية عالم ومناضل ورجل دين وغيرهم. الكاتب العام للمؤسسة هو فيليب كوهين، وأهدافها يمكن استخلاصها من النداء المواكب لعملية التأسيس التي حصلت يوم 2مارس1998والنداء هو على الشكل التالي: "رغم كل الوعود المتكررة للحكومات في إعطاء الأولوية للشغل وفرص العمل، فانه على مدى ربع قرن انتشرت البطالة أكثر فأكثر، وهذا الوضع خلق انحلالا اجتماعيا وسياسيا غير معهود. الساكنة الفرنسية تتساءل لماذا أمة بكل هذا الغنى الفاحش تنتج كل أشكال المفارقات من فقر و غياب للأمن الاجتماعي... ومثل هاته الساكنة مثل المسئولين أنفسهم، هم حبيسي موقفين: مرة يعلنون بأن المؤشرات الإحصائية تحسنت وأن الخروج من النفق قريب، ومرة يعلنون بأن العولمة تفرض تنافسية قوية وتفرض التقليص من النفقات العمومية والتأقلم مع البطالة الجماهيرية؛ هذا التضارب الصارخ غير مفهوم بالمرة. يرى محرري نداء مؤسسة مارك بلوك بأن عقلية المسيرين هاته هي التي يجب تجاوزها؛ لأن أغلب هؤلاء هم تجووزوا فعلا ولم يعد بإمكانهم مسايرة ذهنيا حركة التاريخ. إنهم أصبحوا عبارة على عرابي الوتوقية الاقتصادية والمالية، مما دفعهم إلى التراجع عن فكرة النمو الاقتصادي القوي وعن فكرة التعاقد الجمهوري الذي هو بمثابة اللحمة التي توحد كل الفرنسيين. باسم الالتفاف حول السياسة الأوربية تم التخلي عن كل استراتيجية صناعية، ديبلوماسية وثقافية نوعية، وتم ترك كل شيء لموازنات السوق. إنهم يبررون عجزهم بقدرية تاريخية لا محيد عنها وينعشون خطابهم بالضعف والعجز البنيوي الذي يميز دولة فرنسا والذي يتجلى حسب رأيهم في الطابع المحافظ للفرنسيين الذي يخفي خطر الانقسامية والانفصالية أمام أي تعديل أو إصلاح. بدلا من أن يصنعوا للبلد طموحا على مقاسه التاريخي من أجل إعادة الثقة والأمل يتذرعون دائما بنماذج كألمانيا، انجلترا وهولندا رغم الاختلاف الحاصل على مستوى البنية الديموغرافية والاقتصادية لهاته النماذج. المشروع الأوروبي الحالي لا يبدو على انه بديل للمتاهات المتتالية للحاكمين، حتى مناصريه الأكثر حماسا لم يعودوا يقدمونه على أنه صانع السلم وفرص الشغل. سواء تم تبني فكرة أوروبا كبعد تاريخي أم لا فهذا لا يغير من تحليل الوضعية: إن فكرة أوروبا الموحدة هاته التي ينشدونها ليست إلا تبرير للخطاب الاقتصادي-الاجتماعي للعولمة. سواء تعلق الأمر بأوروبا أو بفرنسا هذا العقل المدجن يلهم السياسات المالتوسية التي تقود إلى الاعتقاد الكلي في نهاية شيء اسمه الصالح العام؛ وفي هذا النوع من الاعتقاد المنحرف يجب البحث عن أسباب رفض الفرنسيين لفكرة الإصلاح، وفي هدا النوع من الاعتقاد المنحرف كذلك يجب البحث عن أسباب انحباس المجتمع الفرنسي. نعتقد-أعضاء مؤسسة مارك بلوك- بالمقابل بأننا سندخل في منطقة عالية التوترات؛ فهشاشة البناء الأوروبي الذي لا زال غير قادر على تجميع الشعوب الأوروبية في ديموقراطية جديدة لا زالت تهدد مستقبله أشياء كثيرة، لهاته الأسباب لا نريد أن تكيفنا هاته الهزيمة الغريبة التي يريدون إلحاقها بفرنسا؛ ولهاته الأسباب أسسنا مؤسسة مارك بلوك". هذا هو موقف مؤسسة مارك بلوك أترك للقارئ حرية التعليق على مواقفها اتجاه فرنسا و اتجاه أوروبا. مؤسسة مارك بلوك التي غيرت اسمها في ما بعد و أصبحت تحمل اسم تاريخ تأسيسها الذي هو الثاني من مارس، استدعت في إحدى لقاءاتها المناضل والمفكر ريجيس دوبري لإبداء رأيه في الجدل الدائر بداخل فرنسا حول التحولات التي يعيشها المجتمع الفرنسي فكانت أفكاره كالعادة مثيرة للجدل. في إحدى فقرات مداخلته تساءل ما هو الوطن؟ فأجاب: "الوطن هو الأمة زائد الحماس أو إذا شئتم هو القانون زائد العواطف"؛ أو كما جاء على لسان سان جاستSaint Just:"الوطن ليس هو الأرض بل هو مستوطنة مشكلة من العواطف... و الكل يحارب من اجل هذه العواطف" سان جاست لم يبني قيم الوطنية على الكراهية كما يقول ريجيس دوبري، بل بناها على قيم الحب و العواطف. سان جاست، يقول ريجيس دوبري، كان معارضا كليا لفلاسفة عصر الأنوار لأن هؤلاء كانوا دائما يفصلون بين الجماعة و العواطف، و يفصلون حتى بين الإحساس و التعاقد؛ فقلب قاس يمكنه أن يحدد ملامح الكتلة القانونية ولكن هذه الكتلة ليست إلا نصف الأمة و تبقى هذه الأمة تحتاج إلى العواطف؛ لكن العواطف والانفعال مثلها مثل قوة الولع Passion حينما تصبح جماعية تؤسس لنظام ظلامي مكون من مجموعة أحكام قبلية هذه الحالة العاطفية هي ما حصل خلال السنة الأولى من الثورة الفرنسية حينما عاش الثوريون حالة الانفعال السياسي بدون أن يفكروا فيها فعاشوها كمفاجأة مرعبة. حروب الثورة الفرنسية يقول ريجيس دوبري كانت تحمل في طياتها بذور الإمبراطورية تماما كما تحمل الغمامة السوداء قطرات المطر. الأمر جد منطقي، لأن من يقوم بالحرب، عليه أن يبحث عن زعماء و لكن عليه أن ينتظر أن بعد نهاية الحرب هؤلاء الزعماء سيصبحون ورثة. البصيرة العمياء للثوريين آنذاك لم تكن تعرف بان حالة من الغباء ضرورية للنتيجة النهائية لهذا ساهموا في ظهور نظام الإمبراطورية. بعد تسائله ما هو الوطن؟ تساءل ريجيس دوبري كذلك ما هو الفرنسي؟ الفرنسي، يجيب هو الجمهوري غير أن هذا التطابق لديه ثمن غال حيث يساهم في انهيار قيم الأخوة الكونية لأن الانغلاق على التراب أصبح بديلا للأمة و التحرر. الحدود الطبيعية لأي بلد تحدد قيمه الوطنية و لكن هذا التحديد هو نوع من الانطواء: انطواء ما هو ضروري بداخل ما هو عارض و انطواء ما هو مفتوح بداخل ما هو مغلق و انطواء ما هو كوني بداخل ما هو محلي؛ لكن بفضل التعبئة الشاملة أصبح المبدأ الفكري يتطابق مع المتخيل الجماعي و هذا المتخيل الجماعي يهدد ما هو كوني. اترك القراء يتأملون أفكار ريجيس دوبري على ضوء وطنيتنا، عفوا، كونيتنا المجسمة. [email protected]