يضعنا حادث مقتل الطالب عبد الرحيم الحسناوي ، إثر نشوب عراك بالأسلحة البيضاء بين فصيل إسلامي و آخر يساري ، في رحاب جامعة ظهر المهراز بفاس ، أمام ما يسمى ب " الجمود العقائدي " ، الذي استفحل و انتشر مرضه الخطير في صفوف طلبتنا الجامعيين ، إذ يمكن اعتباره نتاجا حتميا لبنية فكرية هجينة وهشة قد تركبت و تشابكت عناصرها ، تدريجيا ، على مدى ثلاثة عقود و نيف ، و أصبحت تشكل ، الآن ، سمة أساسية بات يتسم بها ، للأسف الشديد ، " عقلنا الطلابي المغربي " ، حيث يعتبر التعصب و العنف و إقصاء الآخر أحد أبرز مظاهره الخطيرة تنصب مهمة هذا المقال على تحليل السياق السوسيو سياسي و السوسيو تربوي الدقيق الذي بلور عناصر هذه البنية الفكرية و أكسبها تلك الوظائف . هذا السياق الذي يدفعنا إلى الاعتقاد بان هذه الجريمة المأساوية ليست بعرضية ، لأن مسرح أحداثها هو مؤسسة تربوية أخذت على عاتقها مهمة تأهيل الرأسمال البشري و تكوينه معرفيا و تقنيا ، و ليس تأهيل مجرمين لا يتواصلون إلا بالهراوات و السيوف . في حقيقة الأمر، لا يمكن إنكار أن جامعاتنا ، منذ تأسيسها ، كان لها ، في عقدي الستينيات و السبعينيات من القرن المنصرم ، دور كبير في الارتقاء بالوعي لدى الطلبة، و قد تجلى ذلك في أن تلك المعارف المحصلة قد ساهمت ، بشكل كبير ، في تشكيل الوعي بالذات ، و تأطير كل اشكال الممارسات الفكرية و العقائدية و تثويرها ، و بالتالي ، تأصيلها في الوجدان و اللاوعي الجمعي ، و جعلها ، في النهاية ، قابلة للتجدد و خاضعة دائما للتطوير و التغيير بقصد إبداع أشكال جديدة ، من رحم الأحداث و القضايا المصيرية التي تشغل الفكر و تلهب الوجدان . وقتها كان ظهور الجامعات في المغرب بعيد الاستقلال مرتبطا بسد النقص في الأطر الوطنية ، إذ كانت مختلف القطاعات ، من تعليم و إدارة و اقتصاد ، في أشد الحاجة إلى تلك الأطر . و كان حقل التعليم ، وقتها ، يشكل ، في البداية ، تغطية واسعة لمغربة الأطر . و في المقابل ، يمكن القول ايضا ، أنه منذ عقد الثمانينيات ، أصبحت الجامعات المغربية منبتا خصبا لزرع الشقاق بين الطلاب لكسر وحدة صفهم ، و مرتعا للصراعات الإيديولوجية و تكريس قيم سلبية فاسدة متشبعة بثقافة الاقصاء و هيمنة الصوت الواحد . فليس بجديد التصريح بهذه الحقيقة . فالكل يعلم بالخلفيات السياسية التي جعلت الحرم الجامعي مؤدلجا مسيسا . فاليسار المغربي ، في فترة منتصف الستينيات و فترة السبعينيات ، كان يعيش مواجهة حقيقية بينه و بين قوى اليمين المدعمة بسلطة المخزن ، لكن هذا الصراع المؤدلج لم يفض إلى قتل طالب لطالب كما نرى الآن . فماذا يعني إذن ، أن يقتل طالب طالبا آخر في رحاب الجامعة ؟ يعني لنا ذلك ، الاعتبارات التالية : - أولا : إن التكوين العلمي و المعرفي للطالب لم يعد ، كما كان ،عميقا بالشكل الكافي لكي يجعل من هذا الأخير كائنا معرفيا و أخلاقيا. فهذا التكوين أريد له أن يغير فقط السطح دون أن يعمل على تغيير القاع الذي هو أساس الشخصية الإنسانية. .فقد صدق المفكر الهندي محمد إقبال حينما قال بأن التعليم هو حامض يذيب شخصية الطالب و يصيرها كيفما يشاء . و التعليم في بلادنا يطبق هذه المقولة حرفيا حينما نجده يصهر أطفالنا و شبابنا ، شخصيات المستقبل ، على الشكل الذي يرتضيه أهل القرار . ثانيا : إن جامعاتنا و باقي الأسلاك الأخرى التعليمية قد عبرت عن عجزها عن إنتاج اللآليات الثقافية الحقيقة التي ستساهم ، بشكل أساسي و جذري في بعث روح طلابية هازمة لليأس و الخوف ، و في إشعال شرارات توقظ في النفوس جذوة الحماس المعهودة في فترات الستينيات و السبعينيات من القرن المنصرم . فما نراهم حاليا ليسوا بطلاب حقيقيين ، بل هم ، إلا من رحم ربك ، مجرد كائنات و أشباح آدمية ، تائهة في متاهات الإيديولوجيا ، تعوزها القدرة على أن تعيد إنتاج نفسها فكريا و معرفيا حتى تستطيع أن تعي شروط وجودها . فالطالب الجامعي اليوم يجد نفسه ، بعد التسجيل الأولي في الجامعة ، بين عشية و ضحاها ، مستقطبا بسهولة من طرف فصيل طلابي ، و منخرطا ، بعد ذلك ، و بدون وعي، في سجالات فكرية و عقدية و إيديولوجية مطروحة في حلقة من حلقات النقاش ، لا قبل له بها ثالثا : إنه لا يمكن لوم هذا الشباب التائه المغلوب على أمره ، و تحميله مسؤولية تأجيج الصراعات الإيديولوجية ، وترك المسؤول الحقيقي عن هذا العبث الجنوني الذي اجتاح جامعاتنا . فاحدث يكشف بالملموس أن ما تلقاه أطفالنا في المدارس التعليمية الابتدائية و شبابنا اليافع في الإعداديات والثانويات والجامعات من تعلمات و قيم لم تنفعهم و لم تؤهلهم لكي يتبوئوا المكانة المرموقة المنتظرة منهم . شباب تعوزه القدرة المعرفية و الفكرية على إعادة بناء الذات بشكل صحيح . شباب قد حوله هذا العوز الفكري إلى كائن ذي مزاج عصبي ، عنيف سريع الغضب ، غير مقدر للعواقب الوخيمة التي قد تترتب عن سلوكه العنيف. إنه ، باختصار شديد ، شباب هجين أنتجته السياسات التربوية المغربية العقيمة، منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود ، و جعلته مجرد كائن خاضع لسلسلة من الكوارث و الاحباطات النفسية التي أثقلت كاهله و جعلته عرضة للتفكك النفسي والاستيلاب الاجتماعي و الغبن السياسي . فسياسات أولي الأمر ، في مجال التربية و التكوين ، كانت، دائما تطبخ في الكواليس . و القرارات الحاسمة كانت تتخذ في غفلة عن الفاعلين الرئيسيين في هذا الميدان الحيوي ، من أساتذة و آباء و مربين ، بتواطؤ و مباركة من أحزاب و نقابات كان يشهد لها بأنها كانت في الصف التقدمي . رابعا : إن قيمنا المعرفية و الجمالية و الأخلاقية و الاجتماعية التي ينبغي أن تدأب مؤسسات المجتمع ، بما فيها المؤسسات التعليمية بجميع أسلاكها ، على ترسيخها في سلوك ناشئتنا ، قد مست و تحولت إلى قيم سلبية تنذر بخراب الأسس التي يقوم عليها أي مجتمع . يمكن القول ، قبل الختام ، بأن البنيتين المجتمعية و السياسية في المجتمع المغربي غير متفاعلتين بالشكل الذي يكفي ، الأمر الذي يجعلهما يلتقيان في نقط و يفترقان في أخرى . فإذا كانت البنية الأولى منفتحة على الجديد و المفيد ، فإن الثانية منغلقة في مجالها ، تخاف كل جديد ، بل و تحاربه، إذ بقيت أسيرة أدواتها التقليدية في تدبير أمور المجتمع ، رغم الإصلاحات التي مست قشرتها السطحية . فتراجع الدولة المغربية عن خطتها الاستراتيجة الوطنية الهامة التي ابتدأتها بمغربة الأطر لاستكمال المشروع التحديثي ، جعلت المجتمع المغربي في أزمة مجتمعية حقيقية أبانت عن التفاوت المهول الذي تعيشه طبقات المجتمع، كما أبانت أيضا عن سوء توزيع ثروات البلاد ، و قادت إلى خيار الخوصصة ، فعرفت القطاعات الإنتاجية الأساسية ركودا ملحوظا ، بسبب إفشال المنظومة التعليمية ، فاكتشف الطلبة ، بعد التكوين ، أن مؤهلاتهم العلمية غير منسجمة مع متطلبات سوق العمل ، لتتضاءل ، بالتدريج فرص العمل أمامهم و تستفحل ظاهرة البطالة في صفوفهم . و يظهر ، بالتالي ، على السطح ، في حقل التعليم ، تكوينان : - الأول خاص بالطبقات الموسرة التي تستطيع أن تدفع اكثر للحصول على تعليم جيد . - الثاني خاص بالطبقات المعوزة و الفقيرة. و هو نوع أريد له أن يكون رديئا غير منتج . و في عقد التسعينيات عجز المغرب عن ربط المؤسسة التعليمية ، و ضمنها الجامعة ، بالسياقات الكونية الكبرى نتج عنه اتساع الهوة بين الطالب و واقعه ، و تكسر ذلك الجسر الذي يسهل عليه المرور لاكتساب المعارف و المهارات و الكفايات بمختلف أنواعها ،، و الانفتاح على مختلف الممارسات الحياتية المتشعبة و طمس وعي تنويري تشكلت معالمه مع مقررات دراسية تساعد التلميذ و الطالب على تنمية استقلالية الرأي ، و تطويره حسه النقدي و ترسيخ ملكات الفكر التواقة إلى الحرية و الابداع و الابتكار ، لخلق ذات تواصلية و تفاعلية مع محيطها البعيد و القريب ، و تراجع بالتالي ، دور كل من المثقف و الأستاذ و اختزلت الأدوار الطلائعية للثقافة في أدوار تكميلية تقوم بها مهرجانات الغناء و الطرب مدعومة بإعلام ترفيهي الغرض منه هو تمييع ثقافات الشعوب و جعلها مبتدلة و غير صالحة إلا كديكور يؤثت المشهد الثقافي و يجعله رهينة فلكلور جالب للسياح و مساهم في تنمية اقتصاد معولم . مقتل الطالب عبد الرحيم الحسناوي هو دعوة إلى التسامح ، و في نفس الوقت ، دعوة إلى أصلاح منظموتنا التربية . فلا مجتمع أفراده صالحون دون تعليم صالح .