قبل أزيد من نصف قرن رأى النور بالمملكة صنف موسيقي جديد استورده جيل الشعراء والملحنين والمطربين الذين عايشوا تلك الفترة و ذلك بفعل الاحتكاك بنظرائهم المشارقة و خاصة المصريين منهم، هذا في وقت لم تكن تعرف فيه البلاد سوى الأنماط الموسيقية المحلية الشعبية المتعددة و المعروفة إضافة إلى بعض الطبوع الغنائية الجزائرية و التونسية . وهكذا، دشنت الأغنية العصرية المغربية مسارها ببصمات شرقية واضحة في البداية ، إلا أنها تمكنت مع توالي الأيام من تحقيق الاستقلال و أضحى من السهل في مرحلة ثانية تمييز إيقاعاتها عن إيقاعات باقي المدارس الغنائية العربية. فيكفي أن نشرع اليوم في الاستماع إلى الجمل الموسيقية الاستهلالية لأغنية لابراهيم العلمي أو محمود الإدريسي مثلا لندرك على الفور بأن الصوت القادم لن يكون لمحمد فوزي المصري أو نصري شمس الدين اللبناني أو ناظم الغزالي العراقي. وبفضل موهبة رواد هذه الأغنية و جديتهم و حبهم لعملهم و تفانيهم فيه إضافة إلى ظروف البلاد في تلك الفترة التي شحذت الحس الوطني قبل جلاء المستعمر و خلقت تعبئة شاملة في صفوف المغاربة لبناء المغرب المستقل توالت الإبداعات العاطفية و الدينية و الوطنية و الحماسية بسرعة غير منتظرة و أبان الفاعلون في هذا المجال عن قدرة فائقة على الإنتاج. و استمرت الأمور بنفس الوتيرة و على نفس النهج إلى حدود بداية ثمانينات القرن الماضي و ربما قبلها بقليل. فماذا حدث بعد هذا التاريخ ؟ لقد بدأت بوادر العياء تظهر و ُسجل تراجع ملحوظ في الإنتاج كما و كيفا إلى درجة أن حتى عميد هذه الأغنية نفسه و الذي أبدع الروائع في الستينات والسبعينات و الثمانينات أصبح لا يتورع عن تقديم "التخربيق" بين الفينة و الأخرى و هو يشق طريقه بثبات نحو منتهى مسيرته الفنية. وتعقدت الأمور أكثر خلال التسعينات ببداية الانسحاب النهائي من الساحة لعدد من الوجوه التي طبعت تلك الفترة الذهبية والتي غيبها الموت أو المرض أو التهميش أو النضوب الكلي و النهائي لبئر الإبداع أو كل هذه الأمور مجتمعة. الأجواق الموسيقية نفسها بما فيها الجوق الوطني و الجوق الملكي بدأت تندثر شيئا فشيئا إلى أن اختفت تماما مع إحالة آخر عنصر من عناصرها على التقاعد الإداري دون أن يظهر في الأفق ما يفيد بأن إحياءها مسألة وقت فقط. واليوم عندما ترغب جهة ما في إحياء سهرة غنائية فإنها تعمد إلى جمع شتات بعض الموسيقيين كيفما اتفق حبيا أو على أساس تعاقدي مع حصر عددهم في الحدود الدنيا و الاستعانة بأحدث الأنظمة الصوتية إضافة إلى الاعتماد الحتمي من حين لآخر على تقنيتي "الكاراوكي" و "البلاي باك" للتمويه على النقص العددي أو الفقر الإبداعي . الأزمة بكل تأكيد ليست أزمة أصوات ، فهذه متوفرة بالأطنان و لا أظن بأن ثمة عائلة واحدة لا يوجد بين أفرادها و لو رجل واحد أو امرأة واحدة بصوت غنائي رخيم. الأزمة كذلك ليست أزمة كلمات، فهذه متوفرة بالكيلومترات و دواوين الشعر العربي متوفرة بالعشرات بالمكتبات دون أن تجد من يلقي نظرة على غلافها فأحرى من يتصفحها أو يقتنيها. الأزمة هي أزمة إبداع موسيقي أي أزمة تلحين بشكل خاص بما أن الملحن أحب من أحب و كره من كره هو صاحب أعلى نسبة من أسهم الأغنية. فالنص الشعري أو الزجلي مهما بلغت لغته من السمو و مهما بلغت صوره المجازية من الجمال ومهما كان وزن توقيع صاحبه فإنه يظل نصا جافا و من الصعب أن يكتب له الانتشار ما لم يغلف بتلحين جميل ينفذ مباشرة إلى القلب من أول بث، و الصوت الغنائي لا يساوي شيئا مهما بلغت درجة عذوبته ما لم يعثر على أنشودة تدغدغ المشاعر و تهز الكيان، أما التذرع بغياب الدعم أو استوديوهات التسجيل أو استشراء الزبونية و المحسوبية في تعامل الشركة الوطنية للإذاعة و التلفزة مع الفنانين فما هذا إلا هراء ، و المبدع الحقيقي لا يمكن أن تغلق في وجهه الأبواب و لن يضطر إلى الاستجداء أو التسول لكي يبقى على قيد الحياة و لن يستعطف المحسنين لتغطية مصاريفه الطبية عندما تسوء أحواله الصحية. و قد أكد المسار الفني المتميز لسميرة بن سعيد بأن هذه الأخيرة أكثر حكمة وذكاءا من كل أولئك الذين جاهروا بولائهم للأغنية العصرية المغربية و تشبتوا بالاستقرار بالوطن الأم، إذ يبدو أنها تنبأت بالمآل المظلم لهذا النمط الغنائي في وقت مبكر و أحست قبل غيرها بأن بطاقة الفنان لن ترى النور إلا بعد فوات الأوان فراحت تشق طريقها في الربوع الفنية المصرية الشيء الذي أكسبها الكثير فنيا وإعلاميا ... و ماديا أيضا. وقد بلغ الانحطاط أوجه عندما لم تجد مؤخرا مغنية عصرية مغربية من الدرجة السابعة ما تضيفه إلى ريبرتوارها الفارغ أصلا على الرغم من مرور قرابة عشرين عاما على تواجدها بالساحة الفنية فاكتفت بتسجيل حضورها في سهرة تلفزيونية أسبوعية معروفة بأداء أغنية متداولة و ناجحة لأحد مطربي شبه الجزيرة العربية ... بفرنسية رديئة. و كان من البديهي أن يصفق لها الجمهور الحاضر بالاستوديو بحرارة خاصة عندما علم بأنها هي التي تكبدت شخصيا مشاق الترجمة، كما كان من الطبيعي أن ينوه منشط السهرة بهذا الاختراق الفني غير المسبوق. وفي محاولة يائسة و غبية لتشبيب أغنيتنا العصرية بادرت الإذاعة الوطنية في السنوات الأخيرة إلى إعادة تسجيل مجموعة من الأغاني الخالدة لكن بإيقاعات أسرع و بأصوات أخرى غير أصوات أصحابها الحقيقيين أحيانا الشيء الذي أفقدها نكهتها الأصلية و تسبب في تزوير فني أضر كثيرا بذاكرتنا الغنائية. كل المؤشرات إذن تؤكد بأن هذه الأغنية المركبة و المتميزة قد انتهت فعلا إلى الزوال و بأن شهادة وفاتها تنتظر فقط توقيع الوزير الوصي على الإبداع بهذا الوطن ، و حتى عندما يقف اليوم مطرب أو مطربة أمام الميكروفون لإحيائها وتجسيدها و تكريس حضورها فإن ما ُيقدم لا يمكن إدراجه في الغالب إلا في خانة النطيحة و المتردية و ما أكل السبع وما عاف الضبع. و في أحسن الحالات تعمد الكثير من الأصوات الجميلة إلى إعادة ترديد الأغاني القديمة في غياب إبداع جديد حقيقي يضاهي زبدة العطاءات الأولى. الأكثر من هذا أن الأغنية العصرية أصبحت تبدو تائهة اليوم بين باقي الأصناف الغنائية، بل إنها تشكل حالة نشاز بمهرجاناتنا الصيفية و خاصة تلك المقامة بالهواء الطلق و هذا أمر من المفروض ألا يشكل مفاجأة لأحد بما أن جمهور "آش كاين" و عمرو دياب و ديانا حداد و زينة الداودية و الشاب بلال و الحاج عبد المغيث لا يمكن أن "يلبس" أعمالا من قبيل "الأمس القريب" أو "يا طيف حبيبي" أو "أفديه إن حفظ الهوى" لأنها بكل اختصار لم تصنع على مقاسه. لا داعي للتأسف. فالتغيير هو واحدة من سنن الحياة، و إذا كتب لهذا الصنف الموسيقي أن يختفي فالبلاد تعيش الآن على إيقاع نمط غنائي جديد يجسده شباب طموحون و موهوبون من قبيل غاني و سعيد موسكير و حميد بوشناق و سعيدة فكري و غيرهم. فقد نجح هؤلاء في فرض أغنية جديدة تتميز أساسا بسرعة الإيقاع و بساطة الكلمة و وحدة المقام و تعتمد على عدد محدود من العازفين بآلات موسيقية غربية متطورة. لكن، هل لهذا الصنف الغنائي الحديث الذي أفرز لحد الساعة مجموعة لا يستهان بها من الأعمال الجيدة القدرة على الاستمرار أم أنه سيصبح في ذمة الله هو الآخر كما حصل لأصناف أخرى معروفة ظهرت فجأة لكنها لم تستطع مقاومة تقلبات الزمان لأكثر من بضعة عقود على أقصى تقدير؟ ومهما تعددت التنبؤات و التأويلات ستظل هناك حقيقة خالدة واحدة مفادها أن الاستمرارية تكون دائما لما هو أصيل،والأصالة الموسيقية بهذا الوطن تجسدها الموسيقى الأندلسية إضافة إلى طرب الملحون و فن العيطة و فن الروايس والأغنية الحسانية في المقام الأول. و عليه فالأجدر بمبدعينا أن يطوروا هذه الأنماط التي لو لم تكن صالحة للاستهلاك اليومي لما عاشت لقرون طويلة و لما ظل الإقبال عليها بنفس الدرجة من النهم، بل لولاها لأغلقت كل دكاكين بيع التسجيلات الغنائية أبوابها . و قد فطنت إلى هذه الحقيقة دول عربية أخرى قبلنا من قبيل الجزائر و موريتانيا و السودان فراحت تعتني بتراثها الغنائي و تغنيه مع إبقاء التأثير "الأجنبي" في حدود ضيقة. لهذا السبب فإن هذه الأقطار لا تعاني اليوم هي الأخرى مما نصفه نحن بأزمة الأغنية العصرية... و إنا لله و إنا إليه راجعون.