توقفتْ عقارب الزمن وشدَّت أنفاسها، ذات يوم من سنة 1775، لأن اللحظة كانت بالغة الكثافة في مصير حياة البشر.. حدث ذلك بالتحديد، كما وصف ذلك ببلاغة آسرة، الكاتب الأمريكي"جيمس تريفيل" في كتابه "لماذا العِلمُ؟" في المدينة الصناعية ب"برمنغهام" البريطانية، حيثُ كان صانع أدوات من أصل سكوتلندي اسمه "جيمس واط" يُجرب.. ويجرب ل "يُفرقع" فكرة سيطرت على ذهنه: وضع تحسينات على محرك الدفع البخاري الذي يستمد طاقته من الفحم، لمنحه قوة دفع آلية، تفوق دستة أحصنة يستحيل جمعها في مكان واحد، وضيق كالمصنع.. ونجحت الفكرة ليتحول معها وجه العالم حينها، أو للدقة وجه العالم المُتقدم، أما المُتأخر، فكان عليه الإنتظار دهرا، من الزمن غير يسير، مستئنفا العمل بأداة الدفع القديمة، قِدم دأب بني الإنسان: البهيمة، في انتظار أن تصل إليه طاقة الدفع "الجهنمية" الجديدة. إذن عُمر طاقة الدفع الصناعية الأولى، في تاريخ البشر، لا يتجاوز 235 سنة، وتلك مدة في تاريخ مسار البشرية، لا تتجاوز يوما أو بعض يوم، غير أنه في هذه الفترة "الوجيزة" تغيرت حياة الإنسان جذريا.. ومنه أن السفر الذي كان يتم عبر عربات تجرها الخيول، ويستمر أياما وشهورا، أصبح بعد سنوات من اكتشاف آلة الدفع بطاقة الفحم، يتم في أيام، بل وساعات.. كما أن مصانع جديدة، ظهرت في ركاب ذلك، عوضت فيها الآلات الجُهد العضلي، في بريطانيا، ثم باقي بلدان أوروبا الغربية باضطراد.. وتحولت بريطانيا إلى امبراطورية استعمارية، لا تغيب عنها الشمس. العالم المتخلف وضمنه مغرب السلاطين والرعايا، كان في ذلك الوقت "يرتع" في تخلف العصور الغابرة، وكان لا بد له أن ينتظر، أزيد من قرن ونصف، حتى تصل إليه أول دراجة عادية (بيشكليط) ليتعلم ركوبها، ويتسلى بها، السلطان عبد العزيز في باحة قصره بفاس، بينما يجري أطفال أسرته ونساء حريمه وراءه مُتصايحين، وكأنهم كانوا يرون كائنا فضائيا هبط إلى الأرض. ويحكي البعض، أن أول سيارة وطأت أرض المغرب، وبالتحديد في مدينة مكناس، منتصف أربعينيات القرن الماضي، وأن الناس تركوا أعمالهم، وربضوا مُتربصين ب"الكائن العجيب" الذي يسير على أربع عجلات، بقوة خفية أسرع من البشر والحصان، وحينما كان تلوح لهم بطلعته "السحرية" يقولون جميعا: "ها هو جاااا" وحينما يختفي: "ها هو مشاااا" ! في الواقع، على المرء من بيننا، ألا يكون "جشعا" في طلب المستحيل، حينما يضع المُقارنة بين مُجتمعنا المتخلف، ومُجتمعات الغرب المُتقدم، فالمائتين وخمسة وثلاثين عاما، التي قضتها دول أوروبا الغربية، وأمريكا الشمالية، في دك حصون التخلف السياسي والصناعي والثقافي والعلمي، مرَّت على مُجتمعنا، وهو مشدود بقوة أكبر من طاقة الفحم، التي اكتشفها "جيمس واط" إلى الخلف، إنها قوة طبقات التخلف الموروث، التي دفنت المجتمع، وشلت كل قدراته على الحركة، وبالتالي أحدث عنف الاصطدام (بين التخلف والتقدم، كما حدث بعد الهزيمة في معركة "أسلي" بين الجيش المخزني "المهلوك" والجيش الفرنسي الحديث، سنة 1844) ذلك الصراع المرير، بين ما يحلو للبعض أن يُسميه "الأصالة والمُعاصرة" أو "التقليد والحداثة" إلى غيرها من التسميات، التي لا تفي بشرح يشفي غليل الممسوسين، بكارثة تخلفنا المُركب، المُعقد، بالموازاة مع تقدم الآخر: النصراني، أو الإفرنجي.. قبل أن نبرح هذه المُقارنة الكلاسيكية بين تخلفنا وتقدمهم، أرى من المُفيد أن أعرج، على وصف ذو دلالة، في سياقنا هذا، ذكره أحد كبار رجال المخزن، في نهاية القرن الثامن الثامن عشر، يتعلق الأمر بعبد الله الصفار، الذي كان أيضا، مثقفا مخزنيا بارزا، قام برحلات إلى أكثر من بلد أوروبي، موفدا من السلطانين، الحسن الأول وعبد العزيز، ففي معرض وصفه لرحلته من شمال فرنسا إلى مدينة مارسيليا، حيث كان سيركب إحدى السفن، عائدا، ذكر أن دقة العمل والإقبال عليه بجد، لذى الفرنسين والفرنسيات، تبلغ مراتب محمودة، تنعكس على جودة ما يقومون به، كما لاحظ أيضا، أنهم قوم مهذبون، لُطفاء بينهم، يلتزمون بأسباب ودواعي السلوك المدني الراقي.. ثم يقذف مُثقفنا القديم "الصفار" هذا التعليق المُثير: "إنهم على كل هذا الصلاح مع أنهم كُفار" لم يكن ينقصه إلا أن يقول: لعنة الله عليهم، لولا احتراز رجل "الدبلوماسية" المخزنية لديه. تبدو هذه الإحالات "القديمة" اليوم أقرب في أذهاننا إلى ذكريات بعيدة، بل قد ينظر البعض، إلى مَن يُذَكِّرث بها، نظرة استغراب، إن لم يكن أسوأ، كما كان الحال، مع الراحل عبد الرزاق المصدق، أحد وزراء حكومة "عبد الرحمان اليوسفي" حينما لم يتمالك نفسه يوما، وهو ضيف على القناة التلفزيونية الثانية، وانفجر في وجه أحد الصحافيين الذين كانوا يُحاورونه، قائلا: المغاربة كانوا إلى الأمس القريب يعيشون في الغابة.. وبطبيعة الحال قصد الرجل حينها، أننا نحنُ المغاربة، حديثو العهد جدا، بمظاهر الحياة التي تُحيل على التمدن. ويجب أن نعترف أن الرجل لم يبرح الحقيقة فيما ذهب إليه.. كيف ذلك؟ لنطرح هذه الأسئلة، وليحاول كل واحد منا أن يُجيب عنها: هل يعني انتشار أحياء سكنية مُزودة بالكهرباء والمياه الصالحة للشرب، وتَشَكُّلُهَا في مُدن بشوارع وبنايات رسمية وغير رسمية.. إلخ .. (يعني) أننا ننتسب للتحضر بمعناه الحديث، كما يوجد في مُجتمعات مُتقدمة، سبقتنا إلى اكتشاف أسرار وعوامل التحضر والتقدم، أو لحقت به فيما بعد؟ وهل يعني امتلاك الكثيرين منا للسيارات، والثلاجات وأجهزة التلفاز والحاسوب والهواتف النقالة.. إلخ يعني أننا دخلنا عصر التقدم من أوسع أبوابه، وتركنا التخلف جثة هامدة وراءنا؟ ثم في مُستوى آخر: هل يعني توفرنا على انتخابات وبرلمان وحُكومة، وباقي المؤسسات المدنية والعسكرية والأمنية... إلخ يعني أننا نتوفر على دولة تُنظم شؤون المجتمع، بالمعنى الحديث للدولة كما يوجد لدى المُجتمعات المُتقدمة؟ الواقع أن الأسئلة في هذا المِضمار تتناسل، لكنها تتشابه، لذا سأُعفي القارىء من سرد المزيد منها. نعم إن لدينا مظاهر الحياة الحديثة، من قبيل السيارات، ويستطيع القادرون منا، امتطاء الطائرات، تطوي بهم المسافات الطويلة، في بِضع ساعات، فلماذا إذن لا نتوفر على سلوك مدني، يجعل سياقتنا لسياراتنا في الطرقات، تُركز على الإستفادة من الجانب الإيجابي وحده في وسائل النقل الحديثة، كأن نتجنب مثلا إطلاق أبواق السيارات، لأي سبب مهما كان تافها، مثل أطفال "عثروا" على لُعب جديدة؟ ولماذا تكثر حوادث السير، بأرقام قياسية عالمية، في مُدن مثل الدارالبيضاء، أو فاس وغيرهما في بلادنا؟ مع أنها ليست بضخامة مُدن مثل باريس أو لندن أو نيويورك؟ ثم لماذا يُخفف سائقوا السيارات عندنا، من سرعة سياراتهم، حتى يُلامس عداد السرعة الصفر، عندما يلوح طيف رجل شرطة أو درك، أو في مكان، تتوفر فيه المُراقبة بالرادار، بينما يزيدونها إلى القُصوى، حينما لا تكون هذه "الموانع" موجودة؟ وبين هذا وذاك، لماذا يُفضل الميسورون منا، اقتناء السيارات القوية والفارهة، التي تستهلك الوقود أكثر، وتُلوث البيئة، التي يستنشقون هواءها الفاسد، هم وأبناؤهم وباقي بني جِلدتهم؟ بطبيعة الحال، الأجوبة ستتعدد، ومنها أن عناصر مُؤسِّسَة، لهذا السلوك، تكمن، في أغوار وعينا، من بينها، حسب رأيي، أن المرء من بيننا سليل أب وأم، كانوا جميعهم، وإلى أمد قريب، لا يعرفون من وسيلة أخرى، يمتطونها غير الحمار والبغل، لا يُمكنهم أن يستوعبوا بين عشية وضحاها، التعاطي مع آلة "سحرية" تنقلهم حيث أرادوا في زمن يسير، كما أنه، وهذا هو الأهم، ستتحول هذه الوسيلة التكنولوجية، إلى أداة للمُباهاة الإجتماعية، التي ترفع شأن المرء من بيننا، ولو كان من أحقر الناس.. "المهم عندو حديدة واعرة" ! وإذا أردنا أن نضرب مثلا آخر، فلنأخذ هذا الحاسوب الذي أرقن عليه هذه الكلمات، فهل يعني أن امتلاك بضعة آلاف منا لهذه الأداة "العجيبة" أنهم يستوعبون تأثيرها على حياة الانسان المُعاصر، باعتبارها أداة قلبت الاقتصاد والتواصل، وغيرها من المجالات، رأسا على عقب؟ لو كان الجواب بالإيجاب، لتحولنا إلى مُجتمع مُنتج، مثل ذاك الذي في اليابان أو الصين أو الهند أو أمريكا الشمالية. ولأن ذلك لم يحصل فستظل "المهمة" الأساس، لجهاز الحاسوب، عندنا هي البحث في محرك "غوغل" عن كلمة "جنس" أو ما شابه، مما يتصل بغرائز الجسم والعقل البدائيين، أو في "أحسن" الأحوال كتابة تعليقات بديئة في غرف الدردشة، ومواقع الأنترنيت. لنطرح هذا السؤال الأخير؟ هل التخلف الذي نرزح فيه، يُعتبر قدرا عصيا على التجاوز، بالنظر إلى الهوة التي تفصلنا بمئات الأعوام عن أُمم التقدم والتحضر؟ لا شيء خاطىء، مثل طرح التيئيس الوارد في هذا السؤال، فمثلا، كان الناتج الوطني الخام للمغرب، يُماثل نظيره في كوريا الجنوبية، مُنتصف سبعينيات القرن الماضي، أي قبل مُدة لا تتجاوز خمسة وثلاثين عاما، ألقوا نظرة مُقارنة الآن، بين نفس الدخل في نفس البلدين.. "ويبان ليك الفرق يا مسكيييين".. كيف حدث ذلك؟ ومتى؟ ولماذا؟ ومَنْ سمح بذلك؟ إنها برأيي عُقدة الإصرار على البقاء حيثُ نحن، عاجزين عن الحسم في أسوأ الموروث البشري، من أشكال "التنظيم" السياسي، والإعتقاد الديني والسلوك الإجتماعي، ونمط التفكير البدائي.. إن معوقات كَأْدَاءِ كهذه، لن تنفع معها كل مظاهر التحول الخارجية، ولو ألبسنا "فاطنة بنت الحسين" ثياب مادونا.. أو منحنا ل "عبد العزيز الستاتي" الآلات الموسيقية التي يعزف عليها "إلتون جون".. المُشكلة عميقة جدا، وتمكن في ذواتنا وعقولنا.