أرجو أن يكون مفهوماً للقراء أن منطلق هذا المقال هو محبتي للمغرب وطناً وشعباً وإدارة ووداً أحمله لهذا البلد والشعب الشقيقين. ولا أدعي أنني أعرف الظروف والأوضاع جميعها، كما لا أدعي أنني أكثر فصاحة أو ذكاء أو حرصاً من المغاربة الذين لهم قصب السبق في أشياء كثيرة، ولكني رأيت أن أضع بعض التساؤلات والأفكار التي شغلتني في السنوات العشر الأخيرة، ذلك أنني بحكم علاقات اجتماعية، وبحكم حواراتي الطويلة مع مغاربة من مستويات ثقافية واجتماعية متنوعة، أستطيع أن أدعي أنني طرحت أسئلة لم أجد إجابات مقنعة عليها. وسأروي بعض الحوادث التي مرت بي في أسفاري إلى المغرب، واتخذها منطلقاً لتلك التساؤلات والرؤى. القصة الأولى كانت في عشية صيف قائظ شديدة السخونة، والمكان هو مدينة طنجة قبل ما يقارب ثماني سنوات، حيث خرجت أتمشى هارباً من حرارة البيت، فوجدت أن المدينة قد لفظت أحشاءها، واكتظت الشوارع إلى حد أن سائقي السيارات وجدوا صعوبة في التحرك في الشوارع الرئيسية وفي كورنيشها الجميل. ليس هذا بيت القصيد. بيت القصيد هو ملاحظتي أن ما لا يقل عن ثلثي هذا الجمع الحاشد هو من جيل الشباب بين الخامسة عشرة والأربعين. وتساءلت: كيف يمكن الاستفادة من هذه الطاقة البشرية الهائلة لخدمة البلد والمجتمع؟ مجتمع شبابي، وطاقة متدفقة، كيف يمكن استثمارها وتجنيبها المزالق والمهالك التي يعرفها أهل المغرب أكثر مني؟ بالتأكيد لكل مجتمع خصوصياته وظروفه وبلاويه. ولكني إزاء مجتمع ربما يمثل المجتمع العربي الثاني أو الثالث من حيث عدد السكان، ومن حيث نسبة الزيادة السكانية ضمن ظروف اقتصادية محدودة نوعاً ما. القصة الثانية في مدينة تبعد عن طنجة ما يزيد عن تسعمائة كيلو متراً، والوقت صباحاً، جلست في مقهى لأتناول الفطور التقليدي المغربي الطيب من الحرشة بزيت الزيتون وعصير البرتقال والقهوة. وجاء شاب وسيم ذو بنية رياضية في منتصف العشرينات يمتهن مهنة متواضعة جداً، وليس هذا احتقاراً للمهنة، ولكني قارنت المهنة بما يحمله من مؤهلات. طلب مني أن يقدم لي خدمة فعرضت عليه أن يشاركني في الفطور، لكنه اعتذر عن الفطور وقبل مشكوراً أن يشرب معي الأتاي (الشاي). فسألته إن كان من تلك المدينة، فقال إنه من مدينة في الجنوب الغربي من المغرب، في حين كنا في الشرق الشمالي. والعارفون يقدرون المسافة. فسألته عن سبب هذه الهجرة وعن مؤهلاته، فقال إنه يحمل دبلوما في الكهرباء أو شيئاً قريباً من هذا. وقال إن والده توفي حين كان فتى، وأنه يسعى على أسرة مكونة من أمه وأخوته، وأن فرصة العمل فيما يمتهنه في هذه المدينة أحسن من مدينته. وتساءلت في نفسي: كم خسرت الدولة والمجتمع على تعليم وتأهيل مثل هذا الشاب، وربما مئات الآلاف من أمثاله، ثم لم نحسن الاستفادة مما لديه من إمكانيات. ولا أقصد هنا عدم تعليم أمثال هؤلاء، ولكني أتساءل عن مدى جدية التخطيط للتعليم والتدريب وربط هذا بأهداف المجتمع التنموية، وحاجاته، وبالتالي لا يحدث الخلل في أن لدينا نسبة هائلة من المؤهلين والمدربين في مجالات ما والذين لا يمكن لسوق العمل أن يستوعبهم، في حين أن هناك نقصاً قاتلاً ربما في قطاعات وظيفية ومهنية أخرى. فمثلاً كم من شاب في مجال الحاسوب (الكمبيوتر) يمكن توظيفه في مجال الحالات الاجتماعية من ولادة وزواج وطلاق ووفيات وبطاقات هوية وغيرها لو أن تلك الأعمال قد تطورت من يدوية إلى إلكترونية؟. سيرد علي بعضهم بالقول: وماذا نفعل بجيش من الموظفين اليدويين الحاليين؟ ليس من الضروري تسريحهم، بل يمكن اتباع خطة ولنسمها "التطوير في الخدمة". القصة الثالثة كانت في حوار مع أستاذ جامعي قارب من عمره الخمسين عاماً. اكتشفت أنه يبحث عن عروس. فاستغربت. وجه الغرابة ليس في البحث عن بنت الحلال، بل وجه الغرابة أنه بلغ ذلك السن بدون زواج. ولم يكن ذلك ناتجاً عن خلل فيه، بل ذكر خللاً اجتماعياً يؤرقه، يدفعه إلى حرص يصل إلى حد الكوابيس المقلقة. صحيح أن ذلك وضع خاص وفردي، ولكن عزز بعض الأفكار التي قالها ذلك الرجل حالات أخرى، تؤدي في المحصلة النهائية إلى تأخر الشباب في الزواج، وبالتالي زيادة العنوسة، والهجرة وما إلى ذلك. أعود إلى ذلك الأستاذ الجامعي، وربما هناك مئات الآلاف من أمثاله، بل ربما الملايين. وفي مقابل كل شاب رجل في هذه الحالة هناك حالة شابة أنثى. هذا الأستاذ الجامعي لو تزوج حين قابلته قبل ثلاث سنوات، فسينجب طفله الأول وهو في بداية الخمسينات. وإزاء الظروف الحالية والمستقبلية، لن يكون ولده أو ابنته قادرا/ة على الإنتاج قبل أن يبلغ هذا الأستاذ الخامسة والسبعين أو الثمانين من عمره، فماذا سيكون نصيب الولد الثالث أو البنت الثالثة من التعليم والرعاية. فتساءلت: هل نناسل مشكلات جديدة للأجيال القادمة دون أن نعي؟ ناهيك عن مشكلاتنا الحالية. الاقتصاد هو أساس البلاء. شباب وشابات يهاجرون ويتركون وطناً جميلاً ليخدموا ويطوروا مجتمعات أخرى. ومن هؤلاء أساتذة جامعيون وأطباء ومهندسون ومهنيون قابلت بعضهم في كندا وأمريكا وأوروبا والمغرب. شباب وشابات يتزوجون من أجانب وأجنبيات ربما يكون بعضهم غير مسلم، وبعض هؤلاء قد لا يزور المغرب لعدة سنوات. وتساءلت: هل نحن في غنى عن هذه العقول الذكية؟ كيف يمكن الاستفادة من خبرات هؤلاء واستقطابهم لصالح وطنهم ومجتمعهم؟ وأعود إلى المغرب، وإلى شوارع المغرب ومقاهيها التي تكتظ بشبان طيلة النهار. البطالة والعزوبة، وماذا بعد. قال بعضهم: إنني لا أستطيع أن أتزوج، والسبب بسيط. لا أملك بيتاً ومن غير المنظور أن أتمكن من ذلك. نعم. البيت ربما يمثل أهم عنصر من عناصر تكوين أسرة. وقبل كل عنصر آخر. وعندما كنت أسافر في داخل المغرب كانت السيارة تقطع الفيافي الخالية أو ذات الكثافة السكانية المنخفضة، وهناك مساحات هائلة من الأرض التي يمكن استغلالها وتطويرها. وبالتأكيد أن مساحات كبيرة من تلك الأراضي هي ملك الدولة. وبالتالي يمكن أن تخصص قطع أرضية بعد تخطيطها وتنظيمها لتكون أساساً لمدن وقرى وبلدات جديدة. ويمكن أن تمنح هذه القطع "هبة" أو بأثمان رمزية للشبان والشابات الراغبين في الزواج وتكوين أسر منتجة. لتوزع تلك القطع الأرضية هبة أو بأثمان زهيدة لكل شاب مغربي يرغب في الزواج من مغربية، ولتدرس حالته الاجتماعية والاقتصادية، حالة بحالة، وتقوم بذلك لجنة أو هيئة أو مؤسسة رسمية في كل مدينة، بحيث تكون تلك القطعة الأرضية غير قابلة للبيع، وعلى من يحصل عليها أن يبني فيها ضمن مواصفات معقولة ومقبولة وفي مدة زمنية محددة. وبذلك نحقق عدة أهداف. بذلك سنقلل من شدة الضغوط الاجتماعية وتقليل نسبة العوانس والعزاب وبالتالي تجنب كثير من النتائج الاجتماعية وتداعياتها. بذلك ستقل الضغوط الاجتماعية على الأسر الكبيرة التي تضطر الآن إلى العيش بأعداد كبيرة في بيوت صغيرة لأن ذلك هو المتاح. وينتج عن ذلك مشكلات اجتماعية لا تخفى على القراء والمفكرين المغاربة. ولنتصور المثال الآتي: لو أن مدينة مثل فاس مثلاً قدمت سنوياً ألف قطع أرضية بمساحة 100-150 متر مربع. فقد انحلت مشكلة ألف أسرة، أي حلت مشكلة ألف شاب وألف شابة. هذا أولاً. ثم بعد ذلك كم شخصاً يمكن أن يعمل في الألف مشروع بناء تلك بين عامل ومهندس وبنّاء وكهربائي ومن يعمل في البلاط والدهان والجبس، وتمديدات الكهرباء والماء وغيرها، وكم تاجراً يمكن أن تتحرك تجارتهم بذلك، وكم سيارة ستخدم مثل هكذا مشروع. كل هذا يكلف بلدية مثل بلدية فاس مثلاً قطعة أرضية تخصص سنوياً، وهكذا في كل مدينة وبلدة مغربية. هذا المشروع يمكن أن يضاف إلى ما تقوم به الدولة مشكورة الآن من توفير سكن شعبي بدل السكن العشوائي الذي تعاني منه المدن المغربية على مدى عشرات السنين. ويمكن عن طريق خطة مدروسة جيداً تطوير قطاعات زراعية وصناعية وتجارية وخدمية في مناطق شبه مهجورة الآن بدل التكدس في المدن الكبيرة بما يشكله ذلك من ضغوط عدة ومتنوعة. قد تكون الهجرة من الريف إلى المدينة في وقت مضى مبررة، وقد تكون مبررة حتى اليوم. ولكن هناك تساؤلاً: هل في زمان تطور الاتصالات والمواصلات فائقة السرعة الآن سيجد الإنسان نفسه مضطراً للبحث عن لقمة العيش في المدينة إن توفرت له وسيلة إنتاج قريبة من أسرته في بلدة ما أو في قرية ما أو في بادية ما؟ هل سيجد نفسه مضطراً للهجرة إلى المدينة الكبرى إن توفرت المدرسة والمستشفى والعمل؟ هل سيغامر من يجد شغلاً يكفيه، وعمل يعمل فيه، هل يغامر بالموت في البحار؟ بالتأكيد لا. لا أدري. لعلي كنت مبالغاً. قلت لبعض الأصدقاء المغاربة المغتربين. إنكم لا تقدرون جمال المغرب وخيراته وطيبة أهله. كان بعضهم يتهمني بالقول إنني لا أعرف الواقع لأنني أعيش في المغرب بصفة سائح. ربما هذا صحيح في بعض جوانبه، ولكنني متأكد أن في المغرب خيرات لا تعد ولا تحصى. أدرك ما قال لي بعضهم: إن تنميتنا الاقتصادية والزراعية خاصة صعبة بل ربما مستحيلة لأن أسواق أوروبا شبه مغلقة أمامنا، ولا أسواق لنا غيرها. وأتساءل: في زمن الانفتاح العالمي، وتطور وسائل النقل والمواصلات، وفي ظل إمكانيات التخزين والتبريد والتعليب، هل نظل نقيس الأشياء بمقياس زمان مضى؟ لماذا أجد الزيت الإسباني مثلاً في كل أسواق العالم تقريباً وفي عبوات مختلفة الأحجام ولا أجد الزيت المغربي مثلا؟ الزيت الإسباني ليس أكثر جودة من الزيت المغربي. لماذا أجد المعلبات السمكية من تايوان وتايلند منثورة في أسواق العالم، وأستطيع أن أجزم أن الأسماك المغربية أطيب وألذ. ومثل هذين المنتجين منتجات أخرى من حمضيات وخضروات وغيرها. الأمر كله يتعلق إذن بالتسويق. لا يمكن أن نسوق منتجات في القرن الحادي والعشرين بعقلية القرن العشرين. لا يمكن أن نسوق منتجات منافسة إن لم يكن تصنيفها وتعبئتها وتغليفها مناسباً أو موافقاً لمعايير الأسواق العالمية. ليس من الضروري التحدث عن سوق عربية مشتركة، فذلك موضوع مل القارئ من التحدث فيه. ولكن قوانين الاقتصاد العالمية الآن تخضع لقانون الحاجة والربح أكثر مما تخضع لمبادئ من أي نوع. زمن الاقتصاد اليوم يعتمد على التسويق، والقدرة على المنافسة، والقدرة على توثيق العلاقات وتبادل المصالح. انتهى زمن انغلاق الدول على نفسها، ولم يعد أي مجتمع قادراً على الادعاء أنه مكتفي ذاتياً. فكيف يمكن فتح أسواق جديدة غير تقليدية لمنتجات زراعية أؤكد أن المغرب قادر على إنتاجها وبجودة قادرة على منافسة أفضل ما ينتج في دول تكاد تحتكر أسواقاً عدة، بسبب سياسة تسويقية مدروسة. وأخيراً كل الحب، وأطيب الأمنيات لبلد طارق بن زياد. [email protected]